ديمقراطية .... أمرّ من الدكتاتورية!!
17 ذو القعدة 1428

في أواخر الثمانينات وحين هبت أعاصير التغيير ورياح الديمقراطية على الاتحاد السوفيتي وعلى أوربة الشرقية, وبعد اندلاع مظاهرات الجوع والرغيف في غير مكان في عالمنا العربي, أعلنت أكثر من دولة عربية عن إطلاقها إصلاحات ديمقراطية والسماح بإجراء انتخابات نيابية وبلدية تمشيا مع الموجة العالمية ظاهريا, وعمليا لإنقاذ وإطالة أعمار أنظمة حكم أخفقت في أطروحاتها وخابت في مساراتها وقادت الشعوب والأوطان وباستفراد أحادي إلى ديون جسيمة وإلى قيعان الفقر والحاجة وساقتها إلى ساحات التخلف وميادين التبعية.<BR>كان وما يزال من شروط الدخول في اللعبة الديمقراطية في معظم عالمنا العربي التسليم المطلق بأحقية الحاكم في الحكم وبالإشادة بحنكته وحكمته وعظيم فضله إذ تكرم على الشعوب بإعطائها بعضا من حقوقها المنقوصة بعد إن حُرمت منها عقود وأعوام. كما إن من الخطوط الحمر المطالبة بالتداول على رأس السلطة والتي يمنع من التفكير فيها حتى في الخيال السياسي. فالحاكم وجد ليبقى, ولتبقى التهمة العربية الجاهزة في الأنظمة الدكتاتورية و"الديمقراطية" على حد سواء لمعارضيها ومنتقديها بمحاولة قلب الحكم وكأن للحكم قدسية ربانية أو أنه نزل فيه أمر من السماء, أو كأن تلك الأنظمة العربية وصلت بانتخابات نزيهة شعبية وحرة وحققت من الإنجازات ما جعلنا في مصاف الدول المتقدمة أو بأضعف الإيمان في مصاف الهند وماليزيا علميا وسياسيا.<BR>ارتضت بعض التيارات السياسية وعلى رأسهم الإسلاميون في غير دولة عربية الدخول باللعبة السياسية وفهمت حدودها وتوقفت عندها. فمن الممنوع والمحظور الفوز الواضح أو الكاسح بالانتخابات كما حصل في الأراضي الفلسطينية بل المطلوب والمرغوب به الحصول على مقاعد محدودة تكفي ليعلن النظام بأنه ديمقراطي وأن القرارات الخطيرة والمعاهدات المؤثرة على الأجيال والبلدان وبيع البلاد ومرافقها لرأس المال الأجنبي تحت شعارات التخصيص يتم عقدها وإجراؤها في ظلال مجالس برلمانية منتخبة. المطلوب أيضا من الحركات والأحزاب السياسية أن تتحمل ومن حساب رصيدها ومواقفها المبدئية إرثا من الفساد السياسي والإداري والذي يمتد لعقود سابقة أفلس البلاد وأنهك العباد. <BR>الأحوال الاقتصادية الصعبة والظروف المعيشية القاسية والتي كانت وما تزال ذرائع لكثير من الأنظمة العربية لتقديم تنازلات سياسية كبيرة واتخاذ مواقف مهينة على الساحة الدولية هي نتاج سياسات تلك الأنظمة وحصاد تفردها بالسلطة وبالقرار بشكل مطلق والتي من الواجب منطقيا أن تتعرض جراءها للمساءلة القانونية والتاريخية عما ارتكبته بحق بلادها. في الديمقراطية العربية المطلوب من المعارضة أن تشاطر النظام رؤاه السياسية العامة أو أن تساهم في تقديم أطروحات سحرية لحل مشكلات مزمنة من صنع النظام ومن الحصاد المر لسياساته وممارساته, وإلا لاتهمت بأنها معارضة رومانسية حالمة لا تتفهم فقه الواقع ولا تقدر موازيين القوى الدولية حقا قدرها.<BR>أنظمتنا "الديمقراطية" لا تنفك تحمل المعارضة والشعب الفضل الكبير بهذه الحريات الصورية والديمقراطية العرجاء؛ فالمطلوب من المعارضين والسياسيين أن يكونوا شهود زور وان يلعبوا دور المضادات الحيوية والتي تفتك بالإصلاح الحقيقي وتحاصر التغيير المنشود. برأيي إن المعارضة إذا كانت جادة في الحرص على البلد ومستقبله أن ترفض دور التيس المستعار ولو كلفتها تلك المواقف المنافي والسجون والتي ما عرف التاريخ– مع استثناءات محدودة جدا- غيرها سبيلا للتغيير المنشود وطريقا للإصلاح الحقيقي. <BR>هناك فرق كبير بين التدرج بالإصلاح والحرص على استقرار البلد وأمنها الاجتماعي وبين الدخول بصفقات مع الأنظمة لتسمح للمعارضة بدور ديكوري مخاتل بالإضافة إلى ما يمكن للمعارضين من تحقيق مكاسب مادية شخصية. المطلوب من المعارضة ,بكل أطيافها إن كانت تسعى من خلال معارضتها تحقيق مصلحة الوطن والعمل على تحسن ظروف مواطنيه, أن تقيّم أداءها وتدرس بعمق نتائج مشاركتها السياسية, هل تتحسن الأحوال العامة في البلاد بعد تلك المشاركات أما أن الأمور تسير من سيء إلى الأسوأ؟ فإذا كان مطلوبا المشاركة السياسية السلمية من أجل المساهمة في التغيير والتطوير, فإنه من غير المقبول أن تشارك تيارات سياسية رصينة ومعتبرة في تجميل التزييف وتحسين التزوير. <BR><br>