مغالطات تستبقي التخلف والهيمنة
9 رمضان 1428

إن أبشع فكر لدى الغربيين ، بعد الكفرِ هو الاستعمارُ الذي يتأصل في تكوينهم ، ويحدد لهم وجهة نظرهم ، فيدعوهم إلى تغييب ما ينتجه أي فكر سليم ؛ فيلوذون بالمغالطة والإيهام والتمويه . والمغالطة أسلوب من أساليب الجدل الذي يتغيا التضليل، موهما الخصم بالاستدلال الصحيح في ظاهره ، لكنه المعتل في حقيقته . قال ابن خلدون ، وهو يعدد كتب المنطق ، أو أنواعه : " والسادس كتاب السفسطة ، وهو القياس الذي يفيد خلاف الحق ، ويغالط به المناظرُ صاحبَه ، وهو فاسد " (1) ويتخذ المغالطون التشابه بين الحقائق أداة لطمسها ؛ فيستعملون حقيقة لطمس حقيقة أخرى ، وأحيانا يعمدون إلى التشكيك في الحقائق ، أو القول إنها كانت حقيقة في وقت وتغير الوقت ؛ فلم تعد حقيقة . هذا ، والذي دفع السفسطائيين الأوائل إليها هو نظرتهم إلى الإنسان ، على أنه مقياس كل شيء ؛ ولذلك فمقياس الحقيقة هو الإنسان بمصالحه ورغباته وشهواته ؛ فصارت الحقيقة رهينة رغباتهم المتغيرة ومصالحهم المتجددة ؛ فاستخدموا الأساليب الإقناعية المضللة ؛ ليكرسوا ما يرونه يخدم تلك المصالح الخاصة ، لا ما يرونه لائقا بالجماعة الإنسانية ومرشدا لها . <BR><BR>ومن أبرز العيوب التي تعيب منهجهم النظر إلى الأحداث بمعزل عن سياقها، وتطبيق القوانين الخاصة بمجموعة من الظواهر على مجموعة أخرى . والناظر في خطابات المفكرين والساسة الغربيين المتعلقة بشؤون الأمة الإسلامية ، يجدهم _ في الأعم الأغلب _ يسرفون في استعمال سلاح المغالطة ، فيقولون : إنكم مسلمون ، ولا تخلون اليوم من سلبيات وتخلف _ وهذه حقيقة _ ثم يقولون : إن الإسلام ، والعياذ بالله ، هو السبب في السلبيات والتخلف الذي تعانون منه ... وهذا ملمح تفكيري رائج في أوساط مفكرين غربيين ، ولدى من تأثر بهم من مثقفي العرب ... ومن الأمثلة على ذلك "المقال الذي كتبه مايكل وولتزر في مجلة نيوريبيلك العدد الصادر بتاريخ 8 ديسمبر 1979م بعنوان " الانفجار الإسلامي " الذي ناقش فيه -باعتباره غير متخصص على حد قوله- عددا هائلا من أحداث القرن العشرين المهمة رغم أنها (كما يقول) تتسم بالعنف ويؤسف لها في معظمها _ في الفلبين وفي إيران وفي فلسطين وغيرها _ ويقول إننا نستطيع تفسيرها باعتبارها نماذج لشيء واحد وهو الإسلام "(2) والشاهد في كلامه : جَعْلُه المسلمين ، سواء أصابوا أم أخطؤوا الإسلامَ نفسه ، والحكم على الإسلام بما يحكم به على المسلمين . <BR><BR>ويقولون : إن بلادكم تعاني تدنيا علميا وتقنيا ، وهي بحاجة إلى تحديث ، وهذا صحيح في هذا الجانب ، لكنهم يستخدمون هذا للتدخل في المناهج المدرسية والعبث بالثوابت ، والسعي إلى تبديل طريقة حياة المسلمين الخاصة المنبثقة من دينهم ، زاعمين ومتذرعين ، وهنا موطن المغالطة ، أنها المسؤولة عن ذاك التخلف ، فيخلطون عن تعمد وقصد بين العلوم الدنيوية المادية التي ما جاء الإسلام لها في المقام الأول ، وبين العلم الشرعي الذي كان التهاون فيه سببا في تراجع الأمة في المستويات كافة ومنها العلمي والصناعي والتقني . <BR><BR><font color="#FF0000">لماذا يغالطون ؟ <BR><BR>أما لماذا يغالطون ؟ فلأنهم منصاعون إلى نظرة مسبقة مؤسسة على فكرة الاستعمار التي تجري في عروقهم .وقد ازدادت شراهتهم ، ولاسيما الأمريكان ، بعد الحرب العالمية الثانية ، ثم توحشت الدول الاستعمارية ، وعلى رأسها أمريكا في أعقاب الارتفاع الكبير في أسعار النفط في أوائل السبعينيات من القرن المنصرم ، فرأوا أنفسهم مضطرين إلى اصطناع صورة بشعة للمسلمين ؛ إذ رأوهم متحكمين بحياتهم ، صورة تسوغ لهم الجرائم التي يزمعون ارتكابها، زاعمين أن المسلمين يعيشون في نوع من الطفولة اللازمنية التي يتحصنون فيها ضد التنمية الحقيقية بمجموعة بالية قديمة من الخرافات ، وأن لهم كهانا ونساخا يتسمون بالغرابة ويحولون بينهم ، وبين الانتقال من العصور الوسطى إلى العالم الحديث ، وأن المسلمين لا يزيدون على كونهم أطفالا يؤمنون بالقضاء والقدر ، ويتعرضون لطغيان تكوينهم العقلي ، وطغيان علمائهم ... ثم زاد الطين بلة ، في نظرهم ، ظهور الصحوة الإسلامية وتطلع الأمة الإسلامية الجدي نحو تأسيس حياتها على أساس من دينها فوصمونا بالإرهاب والغوغائية ... !!! <BR><BR>ومن المثقفين العرب ، وللأسف الشديد ! من حذا حذو هؤلاء الغربيين ، وإن لم يكونوا دائما على الدرجة نفسها من الوضوح ، لكنهم خلطوا ولبّسوا ، حين لم يفصلوا بين واقع المسلمين ، ولا سيما أوقات التراجع والانحدار ، وبين الإسلام بنصوصه الواضحة ، وحين لم يفرقوا بين الدين بمصدريه الكتاب والسنة الصحيحة ، وفقا لفه السلف الصالح التي بنيت عليها اجتهادات العلماء المعتبرين ، وبين ما علق به من عادات الناس وتأثراتهم بالحضارات والثقافات الأخرى ، أو بالنزعات القبلية ، أو الأهواء والبدع ... ومثال على ذلك دراسة حديثة العهد ، يقول فيها صاحبها في معرض تصديه لمعيقات نهضة العرب في العصر الحديث : " ... فلو كان «التراث»، الذي أمسك بمرافق المجتمع كلّها، قادراً على التصدّي للقوة الأوروبية الحديثة، لما التمس النهضويون المعرفة في تراث آخر. بل إنّ هذا التراث، الذي راوح في مكانه إلى حدود الموات والتفكّك، جعل «أهل التراث» مهزومين، قبل أن يواجهوا «الآخر» أو يلتقوا به." * واضح من كلام الكاتب أنه يرى التراث الإسلامي عاجزا عن الإنهاض ، وسواء قصد التراث على إطلاقه ، أو التراث أواخر الدولة العثمانية ، وبداية الاحتكاك بالحضارة الغربية ، فإنه يستصوب التماس النهضة في تراثٍ غيره ، ولا يجد نفسه ملزما بالتحقيق في الفكر السائد آنذاك ومحاكمته وغربلته ، بالرغم من وضوح الحالة الفكرية وقتها إذ لم يكن الإسلام في أذهان الناس في أحسن حالاته ، ولا كانت الحالة الفقهية، كما كانت في عهود الازدهار ، فطغى على المسلمين التقليد ، والجهل باللغة العربية ، واستجمع المسلمون حصاد قرون من التراكمات الملوثة والعالقة بهم من غيرهم . فكان الإسلام ، بحق ، محتاجا إلى تجديد يعيد إليه نقاءه ، كما أنزل . <BR><BR>وثمة مغالطة أخرى ترد في كلام الكاتب تتمثل بالخلط بين العلم ومقتضياته ، والدين ومهمته ، وهو لا يعدو كونه صوتا من أصوات تتردد عن إشكالية موهومة ، أو مزعومة بين الاضطلاع بالخطاب الإسلامي والتعاطي مع التحديث التقني والصناعي .و هنا قد يكون من نافلة القول إطلاع القارئ الكريم على ما قاله غربيون أنصفوا،إذ شهدوا للمسلمين بالريادة العلمية: يقول لورد ديفيد تريزمان - وكيل وزارة الخارجية البريطانية للشؤون البرلمانية " استمرت الاتصالات ما بين عالم إسلامي متقدم ومتحضر والغرب المتخلف الغارق في الفقر طوال العصور الوسطى، حيث كانت أوروبا وبريطانيا المستفيدين الأساسيين من وراثة ثقافات علمية وفلسفية غنية، إلى جانب الجامعات والتقدم الطبي والحساب والعديد غيرها من الفوائد التي لا تعَد ولا تحصَى، والتي كانت الدافع وراء عصر النهضة وأتاحت لأوروبا النهوض تدريجياً من العصور المظلمة." (3)<BR><BR>تظهر هذه الإشكالية الموهومة بين الدين والعلم في قول الكاتب : " وفي الواقع فإنّ ثقل التراث الراكد، المسوّغ بأميّة منتشرة وبسلطات مستبدة تستثمر الدين وتقطع معه، حاصَرَ الفكر النهضوي، منذ البداية، مساوياً بين العلم والكفر والاعتراف بالأزمنة الحديثة والارتداد: وهذا الانغلاق، المستثمر من القائمين على شؤون الاستبدادين السياسي والديني، منع «المختصين في شؤون الإيمان» عن رؤية جهد محمد عبده في تجديد الفكر الإسلامي بما تقتضي حاجات العصر، وعن قراءة كتابات طه حسين عن «مرآة الإسلام»، ومنعهم، تالياً، من التعاطف مع عبد الناصر، الذي لم يبخل برعاية المؤسسات الدينية " .<BR><BR> والسؤال : لماذا هذا الربط بين " السلطة الدينية " والتخلف ؟! دون الفصل بين موقف بعض المسلمين ، حين أساؤوا التعامل مع العلم ، وبين موقف النص الشرعي الواضح في هذا المجال ؟ ثم لماذا ينحاز الكاتب بعد ذلك إلى التعاطي مع النص الشرعي المؤول؛ ليوافق "متطلبات العصر" التي أفرزتها الثقافة الغربية الخاصة بالأمم الغربية والبعيدة عن معطيات العلوم العالمية التي يجيز ، الإسلام – بل يوجب - أخذها أنّى وجدت . ويوضح مأربَ الكاتب قولُه الآتي : " قضى المعيش اليومي، في هذا التصوّر، بقراءة النص الديني على ضوء الحاجات العملية، واستأنست قراءة النص بمعارف أجنبية، معترفة بكونية العقل الإنساني وعالمية الحاجات الإنسانية. ولعلّ اليومي والعملي والاجتماعي هو الذي أوصل التساؤل النهضوي إلى أسئلة غير مسبوقة، وإلى إجابات مضمرة لا يسمح ثقل التراث بالإفصاح عنها. " . <BR><BR> والحقيقة أنه لا يجوز قراءة النص الديني في ضوء الحاجات العملية ، بمعنى ليّ النص ؛ ليوافق الواقع الفاسد ، بل يقرأ النص الشرعي بحسب حقائق الشرع واللغة ... والقضية أيهما يجعل مرجعا للآخر الواقع المعيش ، أم الشرع الذي يَضْبِطُ الواقعَ ، ويعالجه ؟ وإن هذه القراءة للنص الديني بمعارف أجنبية تعترف بكونية العقل الإنساني وعالمية الحاجات الإنسانية تشعر بالحاجة إلى (تهذيب ) النص ليتوافق وكل ذلك !!! وقوله يغالط ؛ بالتلميح إلى تعارض موهوم بين النص الشرعي والعلم ومعطياته ، وهو ما لا وجود له البتة . إنما التعارض في الحقيقة بين أحكام الإسلام ومعالجاته ، وأفكار الغرب وتشريعاته . <BR><BR>وبعد فليس هذا المقال مخصصا لمناقشة أسس الفكر الغربي ، وبيان بطلانه ، وإخفاقه في الجوانب الإنسانية والروحية والخلقية ... ولا لإثبات قدرة الإسلام على تكوين منظومته الفكرية ، ومجتمعه الإنساني المتميز ، ولكنه يحاول تسليط بعض الضوء على آلية من آليات التضليل الفكري ، حين يعمد بعض المناوئين إلى المغالطة والتلبيس ، كفعل الشيطان الذي لا يقوى على الدعوة إلى ضلاله إلا بعد إيجاد حالة من الاشتباه والتداخل بين الأفكار ؛ فيتسرب الباطل في أثناء ذلك بثوب الحق ، قال تعالى مخاطبا بني إسرائيل : " وَلاَ تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ " (42) {البقرة } جاء في تفسير القرطبي : " قوله تعالى‏{‏ولا تلبسوا الحق بالباطل‏}‏ اللبس‏:‏ الخلط، لبست عليه الأمر ألبسه، إذا مزجت بيّنه بمشكله وحقه بباطله قال الله تعالى ‏{‏وللبسنا عليهم ما يلبسون‏}‏ وفي الأمر لبسة أي ليس بواضح ومن هذا المعنى قول علي رضي الله عنه للحارث بن حوط يا حارث ‏(‏إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله‏)‏ " . <BR><BR>ولو لم يلبّس بنو إسرائيل ومن حذا حذوهم ويغالطوا ، لبرز الباطل للحق فلدمغه وأزهقه ، ولكنهم آثروا هذه الحالة الفكرية الملتبسة ؛ لتبقى الرؤية عند المسلمين غائمة ؛ فيتخبطون في طريقهم إلى النهوض ، وينهكون ، فينتهون إلى الإخفاق والتسليم بالأمر الواقع ، وقد قالوا : " الفكرة فخ العمل " وهي مقدمة من حيث الترتيب على الشجاعة والعمل ، كما قال الشاعر : <BR><BR>الرَّأْيُ قَبْلَ شَجَاعِةِ الشُّجْعَانِ هُوَ أَوَّلٌ، وَهيَ فِي المَحَلِّ الثَّانِي <BR><BR>فلا بد من الحرص على الوضوح في الطرح والتلقي ، ولا بد من الصبر في تخليص الحق من الباطل ، وفض حالة الاشتباك والاشتباه المصطنع ، بِرَدّ كل فكرة إلى أصلها ، والنظر إلى كل حقيقة في سياقها وظروفها ؛ حتى يحيا من حيَّ عن بينة ، ويهلك من هلك عن بينة . <BR><BR>****<BR>(1) مقدمة ابن خلدون : العلامة عبد الرحمن بن خلدون – دار ابن خلدون ص : 344 . <BR>(2) تغطية الإسلام : إدوارد سعيد ، ترجمة د . محمد عناني – رؤية للنشر والتوزيع 2005 م . ص : 126. <BR>(3) من مقال : " مسلمو بريطانيا... مكون أساسي في مجتمع متعدد الثقافات " لورد ديفيد تريزمان - وكيل وزارة الخارجية البريطانية للشؤون البرلمانية ، عن : المركز الدولي لدراسات أمريكا والغرب . <BR><BR><BR><BR><br>