الخيار الإسلامي والتعايش المستقر في تركيا
11 شعبان 1428

قدمت الانتخابات التركية وما أسفرت عنه من نتائج فرصة ثمينة لتحقيق إجماع وطني جديد بعد تصاعد نبرة الخطابات السياسية وتبادل الاتهامات وتزايد الانقسامات داخل المجتمع التركي، وربما تمثل بداية التعايش المستقر بين الأتراك المتدينين الذين يتحرجون من القيود التي يفرضها النظام العلماني ويتطلعون نحو حزب العدالة والتنمية للتخفيف من وطأتها من ناحية، ونظرائهم المواطنين ممن يشعرون بقلق حقيقي حيال انزلاق البلاد إلى دولة عسكرتارية.<BR>فلم نجح المحاولات الرامية إلى ترسيخ نظام القيم الغربي وتعميمه لدى الفئات الاجتماعية قاطبة، بما أحدث انفصال اجتماعي- سياسي أصبحت معه تركيا مجتمعاً مسلماً ديناً وتراثاً وعادات، ولكن بمؤسسات ونخبة حاكمة كلها إصرار على أن تجعله منسجماً مع الغرب. وأخذت تركيا تصادف متاعب تطور سياسي ما زال مستمراً. <BR>وقد جعلت الديمقراطية والليبرالية الاقتصادية، المجموعات الإسلامية أقرب إلى مركز السياسة فضلا عن تواجدها القوي داخل الأحزاب السياسية العلمانية ، بحيث أصبح الشعور الإسلامي عاملا حاضراً بقوة في المجتمع ومؤسساته ومؤثراً حاسماً أحياناً، في اللعبة السياسية وصراع الأحزاب وتشكيل الحكومات وتقرير السياسة الخارجية. <BR>وبهذا ارتبط حجم السلوك الإسلامي في المجتمع التركي بمعدل التحديث وأثره على إحياء الثقافة المحلية، بمعنى انه بارتفاع معدل التحديث انخفض معدل التغريب ومرت الثقافة المحلية بمرحلة إحياء وقوي الالتزام بها على مستويين : المستوى الاجتماعي حيث شجعت الشعب على الثقة بثقافته وأصبح ميالاً لتوكيدها.<BR> وعلى المستوى الفردي ولد التحديث مشاعر الاغتراب حيث انفصمت عرى التقاليد والعلاقات الاجتماعية ونشأت أزمة الهوية التي قدم لها الدين الإسلامي الملاذ الحامي لها.<BR>وفي هذا الإطار وعلى الرغم من أن معظم قادة حزب العدالة والتنمية شكلوا جزءا من الحركة الإسلامية منذ السنوات الأولى لعملهم السياسي، فقد أعلن الحزب منذ البداية أنه ليس حزبًا من الإسلاميين، وإنما من "الديمقراطيين المحافظين"، وجاء ذلك كإشارة واضحة على استعداده للعمل داخل إطار قواعد النظام العلماني. <BR><font color="#ff0000">ما يحسب للانتخابات أنها أحالت الاتجاه العام الذي ظل يتحكم في مصير تركيا لأكثر من نصف قرن إلى التقاعد من الخارطة السياسية وأعاد ترتيب خطوطها لتتولى زمام الأمور نخبة جديدة يمثلها الجيل الصاعد من الحركة الإسلامية ولكن غير المنسلخ من الماضي الثقافي الذي أحكمت عليه الأتاتوركية. </font><BR> إذن هي نخبة منفتحة علي تراث تركيا الديني والثقافي والسياسي، وتدعو إلى الحداثة والعصرنة، وفي نفس الوقت أثبتت وبجدارة أنها تملك إمكانيات ضخمة في إدارة الشؤون العامة للدولة والتصالح مع محيطها الإسلامي والمحيط الأوروبي والدولي دون أن تضحي بهويتها الأصيلة.<BR>وبغض النظر عن طبيعة مواقف هؤلاء سواء التكتيكية أو الإستراتيجية، يلاحظ أنهم قد غلّبوا خيار الاندماج في شبكة القيم العالمية التي يُنادى عليها اليوم من حقوق الإنسان وديمقراطية مفاهيم المجتمع المدني، وفقه الواقع وما يقتضيه من تدرج وترتيب الأولويات ورعاية الظروف واعتبارهم أن هذا الفقه يعد مبرراً كافياً ومقبولاً لأطروحة التوفيق بين الإسلام والعلمانية، كمحاولة إحيائية جديدة في أوساط الحركة الإسلامية، أمام ظهور شريحة تنظر إلى الممارسات الدينية على أنها طبيعية في إطار مجتمع ديمقراطي، وأن التهديد على العلمانية لا يأتي من هذه الممارسات، بل من التحول السريع في الوسط الاجتماعي والوضع السيئ العام الذي يعيش فيه الكثير من سكان المدن.<BR>إذن ومع اضمحلال الأيديولوجيا الكمالية أصبح الخيار الإسلامي يطرح بقوة في النسيج السياسي والثقافي التركي. وقد أسفرت التحديات الكثيرة للهوية العلمانية في الحالة التركية إلى نوع من تمازج أو تقارب ظاهر بين الهويتين الإسلامية والعلمانية. بحيث أصبح الإسلاميون الأتراك لا يجدون ذهنيا أي تناقض بين كونهم مسلمين وبين ارتباطهم الوثيق بالدولة العلمانية معتبرين أن الأمرين جزءا لا يتجزأ من الهوية القومية.<BR> وظهرت إشارات صريحة من سياسيين ومفكرين بارزين إلى إمكانية معايشة الإسلام مع العلمانية في توليف قومي – ديني – علماني، وبهذا فإن التحدي الحقيقي والذي يتطلب إجابات وافية هي مدى نجاح العلمانية بالتصالح مع الإسلاميين الجدد.<BR> وهذا يفسر الجدل المثار بشأن الحاجة إلى تبديل وإعادة النظر في جوانب كثيرة من التقاليد الكمالية، ومرد ذلك أن هذه التقاليد الخاصة بالدولة والتي وضعت لاستمرار الكيان القومي في مرحلة التكوين صارت عاجزة عن توفير حلول لمشكلات العصر، ويبدو أن الكمالية لم تكن أيديولوجية سياسية ثابتة.<BR><BR>ولكن، هل يشكل وصول مرشح حزب العدالة والتنمية ذو الميول الإسلامي إلى رئاسة الجمهورية خطرا على العلمانية في تركيا ؟ الجواب هو بالنفي، ويتعزز ذلك إذا علمنا أن العلمانية المطبقة حاليا في تركيا بمظاهرها وجوانبها المختلفة لا تنتمي أصلا إلى العلمانيات المتعارف عليها في الدول التي تتبع هذا النهج الفكري الذي أصبح جزء من نسيجها عبر عملية تاريخية أصل خلالها أسسه داخل مجتمعاتها بغض النظر عن ما تعيشه من إفلاس وخواء أخلاقي، وإنما كانت العلمانية الكمالية منذ زرعها بالتربة التركية قسرا غير منسجمة مع الواقع التركي لأنها دخيلة عليه ولا تمتلك مقومات الحياة والتطور وهي بحاجة لتعديل مضمونها .<BR>في الجانب الآخر نجد أن حزب العدالة والتنمية لم يطالب يوما أو سعى لإلغاء العلمانية في تركيا بل يرى أنها إطار عام متوافق عليه في البلاد في ظل تعددية مذهبية وإثنية، وأن أي إلغاء لها هو مشروع فتنة أهلية.<BR> وهنا يطرح الحزب مفهوما مغايرا للعلمانية ألا وهو علمانية إنسانية تحترم الحريات الفردية والدينية وتقف على مسافة واحدة من جميع الشعائر والمعتقدات. ومن هذه النقطة يصبح وجود امرأة محجبة في القصر الرئاسي خطوة مهمة وضرورية لكسر إحدى المحظورات التي يوضع عليها هالة من القدسية المزيفة التي حاول العلمانيون ترسيخها من دون وجه حق أو أي مسوّغ قانوني، فليس هناك من نصّ يمنع الحجاب في القصر الرئاسي ولا حتى في البرلمان، فضلا أنه كان مسموحا إلى أن انتصر حزب العدالة والتنمية عام 2002 فكان إجراء الرئيس نجدت سيزير بمنع الحجاب في القصر خطوة انتقامية.<BR>وأمام كل ذلك يدحض قادة حزب العدالة والتنمية المعادلة القائلة بالتناقض بين الهوية الإسلامية لتركيا والعلمانية، ويفسرون الأمر بأن التزام تركيا بمعيار الديمقراطية، سيضمن للشعب التركي حقه في صيانة هويته الإسلامية والتعبير عنها بطريقة حضارية ومعاصرة، ومن هنا يطالبون بعلمانية حقيقية ترفع يد الدولة عن الدين. حيث يعد الإسلاميون الأتراك أنفسهم أبرز المتضررين من الطبيعة الشاذة لديمقراطيتهم، ومن الهيمنة القوية للجيش والنخب العلمانية المتشددة ، بحيث أصبح تخليص نظامهم السياسي من أمراضه غير المقبولة أمرا محتوماً أمام عملية الحظر المتكرر للأحزاب السياسية، وتقييد حركة العمل السياسي، والتضييق على الأقليات الدينية والقومية. ويمكن القول أن حزب العدالة والتنمية وجد نفسه أمام وضع مريح وهو أن يكون نجاح برنامجه السياسي مرتبط بمظلة العلمانية الأوروبية بما له من دلالات تنال من زخم هويته الدينية، وتضيق الخيارات أمام صعوبة الموازنة ما بين مطالب مؤيديه وأنصاره وحساسية القوى العلمانية وفي مقدمتها المؤسسة العسكرية.<BR>وفي الواقع ليس بمقدور الحزب أو غيره التلاعب في طبيعة الدولة أو النظام أو التحالفات الخارجية. فالرأسمالية واقتصاد السوق ما يزالان سائدين، والممنوعات على المتدينين ما تزال موجودة وسائدة، وتركيا عضو في حلف الأطلسي كما كانت، وهي وثيقة العلاقة بالولايات المتحدة كالسابق تماماً. بل إن علاقة تركيا بـ"إسرائيل" ما تزال في أقوى حالاتها. ولهذا يمكن القول إن الصراع في تركيا اليوم هو صراع على المصالح بين الفئات الاجتماعية والاقتصادية، إنما تغطي الصراعات على الرموز.<BR><BR><BR><br>