إغواءات الحرية
8 شعبان 1428

لقد غدت الحرية سلاحا براقا أشهرته أمريكا في وجه بعض الأنظمة الحاكمة التي لا تتوافق وسياستها ، أو تلك التي تريد ابتزازها ، وقد نجحت إلى حد ما ، وإلى وقت ما ، في إيهام الشعوب المظلومة المكبوتة ، بتصديق ذلك الحرص الزائف - من قائدة الحرية ونموذج الليبرالية الأول - عليها !!! ، ومن قبلُ كانت نادت على لسان رئيسها الأسبق " ويلسن " بحق الشعوب في تقرير مصيرها ، وهو الشعار البراق الذي رفعته في وجه الاستعمار القديم ؛ لتتخذ منه رسالة للدخول ، أو للحلول محله في البلاد العربية. <BR><BR> إن الحضارة الغربية الإمبريالية القائمة على رأس المال لا يمكن أن تكون رسولا لحرية الشعوب وازدهارها . وإن السياسة المحكومة بالمصالح والموجهة بالأثرياء والصناعيين الكبار لا تتقدم على أجندتها قيمُ الحرية للشعوب وحقوق الإنسان ، وإن تلك القيم والأهداف ، إن وجدت ، فإنها تبقى في الإطار الثقافي ، ولها بعض الحضور في المجتمعات الغربية ؛ لرسوخ تلك القيم ، وللنضال المرير الذي خاضه المفكرون والمثقفون في سبيلها حتى غدت راسخة مقدسة ، ولها ترجمة واضحة في الدساتير والقوانين الغربية.<BR> لكن لم يثبت لها وجود في السياسة الخارجية الغربية بعامة والأمريكية بخاصة ، وخير مثال راهن على ذلك أفغانستان ... ، فالعراق ، وقد ثبت به بطلان الدعاوى التي أشهرتها أمريكا ، بل إننا الآن نسمع إعلانا ، السبب الحقيقي الذي يقف وراء ذلك التدمير والقتل اليومي الذي أحال العراق مأساة مستمرة ، ولم تسلك أمريكا سلوكها في العراق مع تلك الدول (المارقة ) التي استجابت للإرهاب والابتزاز الأمريكي ، مثل ليبيا وغيرها . <BR><BR> وتتبدى الحرية فكرة براقة جذابة ، تغوي الشعوب المظلومة بمعناها الأول ، وهو التحرر من الهيمنة الأجنبية ، أو الأنظمة القمعية المستبدة . وتغوي أفرادا وجماعات بمعناها الفكري الآخر ، وهو التحرر من القيود ، وإطلاق الإرادة ، دون مساءلة ، أو رقابة من أي نوع . بما يعنيه ذلك من إطلاق للغرائز ، وفوضوية الأخلاق. <BR><BR> وقد بلغ من الافتتان بفكرة الحرية المطلقة أن دفعت بعض ( الأدباء ) إلى الإعجاب بموقف الشيطان حين قال : لا ، في مقابل الأمر الإلهي بالسجود لآدم ، فتحول إلى رمز للتمرد عند قسم من الرومانسيين ؛ فحمّلوه دلالات التمرد في آدابهم . <BR> <BR> كما وجدت الحرية تعبيرات لها في مذاهب أدبية غربية أخرى ، ومنها السوريالية والوجودية ، فالأولى تقوم على تحلل الإنسان من واقع الحياة الواعية ، وعلى تحرير واقع اللاوعي المكبوت داخل النفس الإنسانية ؛ مما انتهى بهم إلى إنتاج(أدبي ) شبيه بالهذيان الحسي ، وبخاصة عندما يلجأ السورياليون إلى الطرق المصطنعة كالأفيون وغيره لإطلاق المكبوت . أما الوجودية فترى أنه لا يوجد شيء خارج الوجود اليقيني الذي هو تفكير الفرد ، ولا أي شيء سابق عليه ، فلا يرون وجود إله ولا مثل ولا قيم أخلاقية متوارثة لها صفة اليقين ، إنما كل هذا تراث عتيق من مصلحة الناس التحلل منه حتى يلقوا عن كواهلهم أوزارا ثقيلة ، وحتى يستطيع الفرد أن ينطلق في الحياة ليحقق وجوده . ينظر : الأدب ومذاهبه : محمد مندور <BR><BR><font color="#ff0000">الظروف التي ساعدت على اعتناق الحرية : </font><BR><BR> ولعل الذي ساعد على الاحتفاء بالحرية ، بل تقديسها عند الحضارة الغربية الليبرالية تلك الظروف التي فيها نشأت ؛ إذ عانت أوروبا اضطهادا دينيا وحكما ثيوقراطيا وسلطة رجال الدين والكنيسة الذين عارضوا العلم ؛ واضطهدوا العلماء ... وكانت الأصولية المسيحية إحدى الإفرازات لذلك ؛ فنشأت الحرية الغربية، أو الليبرالية ، حريةً مطلقة ، تجعل الفردَ الأساسَ الرئيس والمنطلقَ، وحوله تدور فلسفة الحياة برمتها ، وتنبع القيم ويحدد السلوك . وكان طبيعيا أن يصطدم دعاة الحرية ( الليبراليون ) برجال الدين ؛ لأنهم رأوهم عقبة كأداء أمام انطلاق الإنسان الحر من تلك القيود التي استبدت بها الكنيسة ، فكانت حكما ثيوقراطيا استمدت شرعيتها مباشرة من الإله . ورافق ذلك ظلم اقتصادي تمثل في نظام الإقطاع الذي كان من الأسباب المهمة في قيام الثورة الفرنسية . فمن رحم الاضطهاد الديني ، والظلم الاقتصادي ولدت الحرية فكرا وقيمة وسلوكا ، ومكتسبا غاليا في نظر الغربيين يقدسونه ويعتزون به . <BR><BR> والليبراليون ليسوا بدعا في تلك الدعوة ، فالحرية ينزع إليها الإنسان بهواه وشهواته وغرائزه ، وقد أخبرنا القرآن الكريم إنكار الكفار على سيدنا شعيب ، عليه السلام ، دعوتهم إلى ترك الشرك ، و تنظيم الناحية الاقتصادية ، : <font color="#0000FF">" قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)" </font>{هود} كما كان حال قوم نبي الله لوط ، عليه السلام ، فيما يندرج ضمن ما يسميه الليبراليون بالحرية الشخصية : <font color="#0000FF"> " فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) " </font>{النمل } فالسر في هذا الانجذاب نحو الحرية قديما وحديثا أنها انصياع كامل للهوى والشهوات . <BR><BR> فالإنسان قد تنوء نفسه بالقيود والضوابط والتكاليف . ولكن هل يمكن للجماعة الإنسانية أن تعيش خلوا من القوانين والأحكام المنظِمة ؟! هل يمكن للعقلاء أن يقبلوا إقصاء العقل وتعطيل مقتضياته ؛ لتستبد بالإنسان فردا وجماعة الشهواتُ والأهواء المتباينة والمتناقضة ؟! ثم هل استطاعت المجتمعات الغربية (المتمدنة ) أن تفلت من إسار القوانين والعقوبات ؟! ألم يدعُ جان بول سارتر إلى المسؤولية والالتزام في ممارسة الحرية ؟! بلى ، إنه دعا إلى الصدور عن قيم جديدة يرتضيها الفرد ، وهو بهذا يقر بالحاجة الماسة إلى تقييد ما ، يحتكم إليه الفرد ويحكمه . <BR><BR> إن المدقق في تلك الظروف التي أنتجت الحريةَ فكرةً مقدسة ، ودعوة عالمية ، يلحظ بوضوح أثر الأحوال غير الطبيعية التي مر بها الغرب ، ودفعت مفكريه إلى التحريض على الثورة عليها ، للتخلص من السلطة ( الدينية ) التي ظلمت واستبدت باسم الدين . وهذا الظرف خاص بهم ؛ فلا يقاس به المجتمع الإسلامي ، ولا يماثَلُ دينُ الإسلام ، بدينهم المحرف ، بسلطته التي كانت تَعُدُّ نفسها ظلَ الله في الأرض ، ولا يقاس نظام الحكم في الإسلام القائم على البيعة ، والقابل فيه الحاكمُ للمحاسبة والتقويم ، بالحكم الثيوقراطي المستبد المطلق . ولا وقوف رجال الدين عقبة كؤودا أمام العلم وحقائقه ، بما فعله الإسلام ، وخلفاؤه من حث على العلم والتفكير ، ومجازاة للعلماء ... <BR><BR><font color="#ff0000"> نظرة الإسلام إلى الإنسان : </font><BR> كرم الله الإنسان : <font color="#0000FF">" وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70) " </font>{الإسراء} وجعله مستخلفا في الأرض يعمرها بأحكام هادية ، وإنسانية عالمية ، وأهّله من أجل تلك العمارة والاستخلاف، بالعقل ، مناطا للتكليف ، وباعثا على الاضطلاع بالمسؤولية ، والنهوض بالأمانة التي قَبِل أن يحملها ، فشرفه بالاختيار ، وابتلاه به ، وحثه على الإبداع والإتقان ، ضمن كون خاضع بأسره إلى نواميس الخالق في منظومة متسقة ؛ ليغدو الإنسان الفرد فاعلا ، في جماعة ، لا سلبيا أنانيا ، ولا كمّاً مهملا، ولا فوضويا . <BR> <BR> وفي التكاليف الشرعية أحل الله للإنسان الطيبات ، وحرم عليه الخبائث ، ومنَّ عليه بتسخيره ما في السماوات والأرض له، حلالا طيبا ، ومن يستقرئ المحرمات من الأشياء والأفعال يجدها محدودة، ولا يُلفِها تغلق للإنسان بابا من أبواب الإشباع الذي تطلبه غرائزه ورغباته وحاجاته ، أو تحد من إبداعه وتفكيره ، سوى أنها تنظم له طرق الإشباع الصحيح الذي يعود على الفرد والمجتمع بالخير والطمأنينة والاستقرار ، بعيدا عن الكبت والحرمان ، أو الضلال الفكري والانحراف . <BR><BR><font color="#ff0000"> خداع الحرية : </font><BR>وحتى لو بدت في قيم الحرية والليبرالية مظاهرُ جذابة فإنها مطموسة بسيادة رأس المال ، وكون القيمة المادية تشغل في المجتمعات الغربية الرأسمالية البنيةَ الأعمق والسلطةَ الفعلية فوق سلطة المثقف الذي يبدو مفتقرا إلى تلك السلطة ، متزلفا لها ، ومنضويا في مؤسساتها ، ما يؤثر قطعا على حياده واستقلال رأيه . <BR><BR> وفوق ذلك فإن تلك المظاهر البراقة الجذابة ليست جميعها من خصوصيات الغرب ، فالتسامح واحترام العقل ، وهجر الخرافة ، والاهتمام بالتعليم ، وتحميل الإنسان المسؤولية ، وقبول التنوع الثقافي والديني والسماح بإظهار الرأي ، ومحاسبة الحاكم ومساءلته وتقويمه ... كل ذلك مما دعا له الإسلام ، بل إنه أوجبه ، لكنه في بعض الجزئيات يضع حدودا له وفق رؤيته العامة ، والغربيون أيضا لا يسمحون بتلك القيم على إطلاقها ، فهم مثلا ، لا يقبلون العمل السياسي إلا إذا كان منضويا في المنظومة الفكرية الديموقراطية ، ملتزما بها نظاما دائميا ، ولا يسمحون لمن أراد تقويض النظام الديمقراطي أن ينخرط في الوسط السياسي ، ومؤسسات الدولة . فكما تقبل الديمقراطيةُ التعدديةَ السياسية المؤسسة عليها ، فكذلك الإسلام يسمح بها حين تكون مؤسسةً على فكرته ، وهو يسمح لغير المسلمين أن يمارسوا عباداتهم ، وما تحله أديانهم من مطعومات ومشروبات ضمن السيادة الإسلامية ، وكذلك تحرص الديمقراطية على بقاء سيادتها على المجتمع . والفرق بعد ذلك في طبيعة الإسلام ، وطبيعة الديمقراطية ؛ فالأولى من الخالق الحكيم ، والثانية من الإنسان المتناقض القاصر عن إدراك مآلات الأمور وتعقيدات النفس البشرية ، وغير المبرَّأ عن النزعات والأهواء ... <BR>لكن قيم الحرية الغربية تخلو مما يجعل المجتمع يكتسب الصفة التراحمية كما تشير إلى ذلك الأستاذة هبة رءوف عزت ؛ إذ تبين أن " الانتصار الليبرالي يواجه تحديات داخلية وخارجية جديدة. فداخليا تتعرض الليبرالية في المجتمع الغربي لنقد من قبل المفكرين الذين أعادوا اكتشاف أهمية المجتمع التراحمي. وظهرت "النظرية المجتمعية" كرد فعل لمساوئ الليبرالية الفردية. وعلى سبيل المثال رفض المفكران أليسدير ماك إنتير ومايكل ساندل الفردية على أنها سطحية ومعادية للجماعة الاجتماعية، حيث إنها تعامل الذات على أنها غير مسئولة تستمد هويتها من داخلها بدلا من العوامل الاجتماعية والتاريخية والثقافية المحيطة بها. ففي نظرهم أن الذات جزء لا يتجزأ من الممارسات والعلاقات الاجتماعية، كما أن العيب الذي يكمن في الليبرالية هو أنها غير قادرة على إنشاء سياسة الصالح العام؛ بسبب تركها للفرد اختيار الحياة التي تروق له والتي يستحسنها من مفهومه الشخصي. ويساعد هذا الفراغ الأخلاقي على تفكك المجتمع. ونظرا لعدم تقيدهم بالواجبات الاجتماعية والمسئولية الأخلاقية. ولا يهتم الأفراد إلا بمصالحهم وحقوقهم الشخصية؛ فعلى المدى الطويل قد يفقد المجتمع الليبرالي المنابع الثقافية لمراجعة الأنانية غير المقيدة أو لتعزيز التعاون والجهد " الليبرالية.. أيدلوجية مراوغة أفسدها رأس المال – إسلام أون لاين – 8/8/2004م<BR><BR><BR><font color="#ff0000"> خاتمة : </font><BR><BR>هذا والدعوة إلى الحرية المنفلتة من كل عقال دعوة منافية للعقل ، مصادمة للفطرة الإنسانية السليمة التي يتفق أصحابها على جملة من الأفعال والصفات ؛ فيدرجونها في دركات الانحطاط الشائن ، والتردي الأخلاقي المَعِيب ، وفوق ذلك هي دعوة خيالية لا مكان لها في الواقع ؛ إذ لم يثبت وجود مجتمع يخلو من القوانين والأعراف الضابطة ، وما دام الأمر كذلك ، وأنه لا مندوحة عن الأحكام والقوانين ، فلتكن تلك الأحكامُ من خالق البشر الذي يتنزه عن الانتفاع والمَضرّة ، ويسمو شرعُه الحكيم عن الأهواء ، تلك التي لم يسلم منها الغرب وحضارتُه المؤسَسة على إعلاء رأس المال وأهله، وهم المتنفذون والمشرفون على المجتمع بفكره وقوانينه ورؤسائه ، وإن وجدت قيم الحرية الأساسية ، فإنها لا تصفو لهم بحكم البِنْية الاقتصادية لتلك المجتمعات . فضلا عما جرّته الحريات الشخصية والاقتصادية وغيرها عليهم من مآسٍ وأزمات لن يفلحوا في الخلاص منها ، ما داموا متلبسين بتلك القيم ، وهم يطلقون الحريات التي لا تبرأ من المآرب السياسية والفكرية المنحازة ، كما يشهرونها في وجه الإسلام ورسوله محمد – صلى الله عليه وآله وسلم - بذريعة حرية الرأي ، والإبداع ، وفق انتقائية بغيضة ، وأحقاد مبيتة . <BR><BR> وليس بعيدا عنهم ما نلحظه ، وللأسف الشديد في شوارع وحَيَوات بعض المدن الإسلامية اليوم من انحلال وقلق في العلاقات والنفوس مردّه إلى هذا الانجذاب الأعمى إلى تلك القيمة الخادعة ، الحرية . <BR>والفرق بعد ذلك في طبيعة الإسلام ، وطبيعة الديمقراطية ؛ فالأولى من الخالق الحكيم ، والثانية من الإنسان المتناقض القاصر عن إدراك مآلات الأمور وتعقيدات النفس البشرية، الأولى تشرفه بعبوديته لله أولا، وتطلق له عِنان الحياة بعد ذلك،والثانية تترك الإنسان نهبا لرغباته وأهوائه وأنانيته، دون ضوابط كافية قادرة على الرقي بروحه، والسمو بمشاعره الجماعية الإنسانية. <BR><BR><br>