الغرب ودارفور
1 شعبان 1428

تثور تساؤلات أو بالأصح استغراب شديد حول اهتمام الدول الغربية المكثف بقضية إقليم دارفور في غرب السودان وهو الاهتمام الذي ينتقل من دوائر الإعلام إلى دوائر السياسة وحتى إلى دوائر الفن مع تنظيم حفلات فنية بدعوى توجيه الربح والدعاية إلى قضية هذا الإقليم والأوضاع الإنسانية فيه. وقد انتقلت عدوى هذا الاهتمام الفني إلى مناطق عربية، حيث تداعى مؤخراً عدد من المغنيين المصريين والممثلين وذهبوا إلى الخرطوم لتنظيم حفل غنائي كبير بدعوى توجيه الربح إلى المتضررين من أهل ذلك الإقليم بجانب الدعاية لقضيته. وهنا يثور التساؤل: ما هي قضية ذلك الإقليم بالضبط والتي تتداعى حولها الأمم وتثور حولها شتى النشاطات والتحركات التي وصلت أبعاداً غير مسبوقة في دهاليز السياسة الدولية؟ إن الإجابة البديهية والتي ترد على الخاطر مباشرة هي أن القضية إنسانية بالمقام الأول وتتعلق بالأوضاع المعيشية الكارثية التي يعيشها أهله وهي أحوال لم تتسبب فيها كوارث طبيعية وإنما تسببت فيها صراعات داخلية بين مجموعات من السكان وبالتحديد من الذين يوصفون بالقبائل العربية ويقفون ضد السكان ذوي الأصول الأفريقية. لكن هذا التوصيف المبدئي للمسألة يجد أن السياسة تدخل إليه ولو من الباب الخلفي لكنها سرعان ما تأخذ مكان الصدارة: فالرؤية السائدة هي أن ما يحدث هناك هو صراع عرقي بين ذوي الأصول العربية وذوي الأصول الأفريقية. ويتطور هذا الحديث إلى أن الصراع هو ديني بين شمال مسلم وعربي وجنوب أفريقي ويضم مسلمين ومسيحيين وهو في هذه الحالة كأنه تكرار للصراع المعروف بين الشمال السوداني المسلم العربي والجنوب السوداني الأفريقي المسيحي وذلك حسب التصور السائد في الإعلام الغربي. وحسب هذا التصور الأخير حدث إدماج بين الصراع التقليدي المزعوم بين الشمال والجنوب في قلب السودان وبين الشمال والجنوب في غرب السودان. واللافت للنظر أن هذا التوصيف التقليدي للصراع بين شمال مسلم وبه عنصر عربي وبين جنوب أفريقي يغلب عليه الطابع المسيحي هو صراع يعمم على مناطق عديدة في أفريقيا وفي غربها على وجه التحديد في نيجيريا ومالي والسنغال وغيرها مما يوحي أننا لسنا أمام خطوط صراع حقيقية وواقعية بقدر ما نحن أمام خط صراعي وهمي مجرد رسوم على الخريطة ويجري إنزاله على أرض الواقع والتأكيد بقوة الإلحاح الإعلامي والسياسي على وجوده. وفي حالة دارفور فإن هذه التقسيمة استدعت إدخال الحكومة السودانية ومعها سار أهل شمال السودان باعتبارهم معتدين يجذبون الميليشيات المعروفة باسم الجنجويد ضد سكان الإقليم في معظمهم ولاسيما ذوي الأصول الأفريقية والمسيحيين منهم. وفي هذه الجهة أسست معظم الاتهامات التي أصبحت معروفة الآن حول انتهاكات حقوق الإنسان في دارفور. كما استغل هذا التصور لتبرير وصول حركة أو جيش تحرير جنوب السودان إلى إقليم دارفور ليكون له حضور هناك وتعاون مع حركات محلية تشاطره توجهاته المعادية للحكومة السودانية ولمجمل الأوضاع الإسلامية والعربية في ذلك البلد تحت مزاعم بأن أهل الشمال العرب والمسلمون يمارسون الاضطهاد وسرقة الموارد من أهل الجنوب والغرب والشرق السوداني.<BR>وتوسعت دوائر توصيف وتكييف الوضع في دارفور بالدخول الذي بدا غريبا للدول الغربية التي ألقت بكل ثقلها في هذه القضية متذرعة بالعنصر الإنساني وقضية حقوق الإنسان رغم أن هذا الزعم قد سقط منذ عهد بعيد يعود إلى قضية فلسطين وصولاً إلى قضايا البوسنة وكوسوفو وأفغانستان والعراق وغيرها، حيث تبيّن بما لا يدع مجالاً للشك بأن الحديث عن بواعث تتعلق حول المعاناة الإنسانية وحقوق الإنسان ليست سوى حجج كاذبة تبرر التدخل السياسي والعسكري لتحقيق أهداف وأغراض لا علاقة لها بحقوق الإنسان. ورغم ذلك فإن المدخل الإنساني المستهلَك طُرِح وبدون أي مواربة على أنه السبب الحقيقي للتدخل في دارفور. وعلى أي حال فإن ما حدث بعدها أسقط ذريعة التدخل الإنساني في طي النسيان. فسرعان ما اتضح من كثافة وإلحاح وأشكال التدخل الغربي أننا بإزاء حلقة أخرى ذات طابع استراتيجي من حلقات المسلسل الغربي للتدخل في أفريقيا عامة وفي شرق أفريقيا والسودان على وجه التحديد. وهذا التدخل له دوافع عديدة ليس الدافع الإنساني بالطبع بينها. فهناك الرغبة في إنهاء الوجود الإسلامي في أفريقيا ورده لينحصر في الشريط الضيق في شمال أفريقيا بحجة أنه مجرد وجود قبلي عربي غاز ومفروض ومعاد للأرض الأفريقية والشعوب الأفريقية وقد آن الأوان ليعود من حيث أتى. وبالطبع فإن تصوير الإسلام على أنه عقيدة وافدة ليس لها جذور أفريقية هو تصوير مغرض يدل عليه ذلك التاريخ الطويل المعروف من الممالك الإسلامية في غرب ووسط وشرق أفريقيا. لكن الورقة العرقية لعبت فقط لإقصاء الإسلام تحت ستار إقصاء تيار عرقي هو العروبة. لكن الأهداف الغربية بالطبع لم تقف عند حدود إقصاء الإسلام عن أفريقيا بل تعدت ذلك إلى هدف مكمل له هو فرض النفوذ الغربي بأشكاله من العسكري والسياسي والاقتصادي إلى الثقافي والفكري والديني على الشعوب الأفريقية. وفي دائرة هذا النفوذ الغربي المطلوب فرضه مع إقصاء الإسلام برزت القضايا الاقتصادية متمثلة في الطمع في موارد القارة البكر، الطبيعية والبشرية على حد سواء. ومع هذا الطمع الاقتصادي كانت توجد الرغبة الاستراتيجية في تطويق العالم الإسلامي من جنوبه وغربه ليس فقط بفصل ذلك العالم الإسلامي عن بعده الأفريقي الحيوي وإنما بدفع تيار عميل للغرب وغير مسلم لكي يندفع شمالاً إلى قلب العالم الإسلامي في مصر وشرقها عبر الزحف من وادي النيل إلى شماله وأيضاً إلى شرقه إلى البحر الأحمر مع التطلع إلى ما وراءه كما ظهر من التدخلات بل الغزو للصومال. وفي إطار هذه الاستراتيجية الغربية الأوسع يأتي وضع إقليم دارفور فهو أحد مفردات أو مسارح العمليات الشرق أفريقية المهمة باعتباره يمثل الجناح الغربي لهذه الاستراتيجية وباعتباره نقطة وصل مهمة مع الوسط والشمال والجنوب الأفريقي من خلال وضعه وحجمه الكبير. ولذلك دخلت إلى الصورة الدول الغربية بآلياتها المعروفة من الدعوة إلى وضع قوات دولية وإنشاء محاكم دولية على غرار محكمة لبنان والتدخل لحشد قوى إقليمية ومحلية ضد الحكومة السودانية تحت شعار أن هذه عملية حشد سياسي مبررة وليست تدخلاً في الشأن الداخلي السوداني. وتعدت الدول الغربية إلى مرحلة في التنافس والتنسيق فيما بينها مع استبعاد دول مثل روسيا ومحاولة استدراج دول ذات سياسة مستقلة مثل فرنسا لجذبها إلى صف الولايات المتحدة وبريطانيا. وعند هذه النقطة يبرز دور لبعض الدول العربية القريبة من السودان وهي مستهدفة أو على الأقل داخلة في إطار وتصور الاستراتيجية الغربية حيث سارعت هذه الدول إلى تبني الزعم الغربي الإعلامي والسياسي بأن قضية دارفور هي إنسانية فقط وأن حلها يكمن في نفس الآليات المطروحة غربياً والتي استعرضناها فيما سبق. وليس من المطلوب من هذه الدول مثلاً تبني وجهة نظر حكومة السودان بالحق أو الباطل وإنما المطلوب هو تبنّي وجهة نظر عربية مستقلة تقوم على تبصر الدوافع الغربية والنفاذ من وراء ستارها الإعلامي إلى دوافعها الحقيقية ثم مواجهتها بحركة واستراتيجية مضادة قائمة على أسس الفهم الصحيح والانحياز لمصالح الشعوب وللإسلام.<BR><br>