معركة الأخلاق
23 جمادى الثانية 1428

في تطورات متقاربة على مدى أيام قليلة في أواخر شهر مايو الماضي ونقلتها وكالات الأنباء نلمح اهتماماً ملحاً بقضية الأخلاق والقيم في بلدان في الغرب والشرق يستحق الإشارة إليه في بلداننا العربية التي تدين بالإسلام. فقد ألقى بابا الفاتيكان الكاثوليكي في إحدى مواعظه دعوة لموجهة تيار الرذيلة والإباحية والعري في وسائل الإعلام ودعا في المقابل إلى الإعلاء من قيم الأسرة والعفة. والخبر الآخر كان قيام مجموعات من الشباب الروس بالاعتداء بالضرب المبرح على مجموعة من أنصار إباحة الشذوذ الجنسي والجهر به تجمعوا في أحد الميادين بموسكو وبرفقتهم أعضاء في البرلمان الأوروبي في إيطاليا وغيرها.<BR>وأعلن هؤلاء الشباب أنهم يفخرون بانتمائهم إلى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية ويطبقون تعاليمها التي تحارب الانحراف الخلقي والانحلال الذي يبشر به أنصار دعوة الترويج للشذوذ والجهر به. وجاء الخبر الثالث في الهند حيث قامت الحكومة الهندية التي هي بحكم نص الدستور علمانية تفصل بين الدين والدولة ـ بمنع إحدى المحطات التي تعني بشئون الموضة في البث الفضائي على أحد الأقمار الصناعية بحجة أن هذه المحطة تبث مواداً إباحية من العري المكشوف والفاضح تحت ستار عروض الأزياء وأخبار العروض والعارضات.<BR>ولم تتراجع الحكومة عن قرارها إلا بعد أن قدمت المحطة تعهدات بعدم تكرار ما حدث منها والرجوع إلى ما يفترض أنه الاحتشام. وكانت هناك أخبار أخرى تصب في نفس الاتجاه وهو القلق من انتشار موجات الإباحية والعري والانكشاف الجنسي وإثارة الغرائز. والحق إن أمثال هذه الأخبار لم يعد نادراً في الفترة الأخيرة حيث بدأت منذ سنوات تصاحب التصاعد الرهيب في موجات الإباحية في كل مجالات الإعلام والفنون، ولاسيما في الإنترنت والقنوات الفضائية واسطوانات الكمبيوتر والأفلام وحتى ألعاب الفيديو مما ساهم في زيادة انتشارها، وربما كان الجديد أن موجات الاحتجاج على انتشار الإباحية أخذت تصدر عن دوائر جديدة في الغرب والشرق لم تكن تصدر فيها من قبل.<BR>ففي حالة الحكومة الهندية مثلا، وهي حالة تختلف عن بابا روما الذي يتوقع أن تصدر منه مثل هذه الآراء بحكم منصبه، على الأقل، نجد أننا أمام حكومة ودولة ترفع العلمانية شعاراً ومبدأ لها في الدستور القومي لكنها مع ذلك تقدم على قرار شديد يتناول مسألة تصنّف تحت باب حرية التبشير والنشر والفكر ويصل إلى حد المنع لإرسال شبكة فضائية معروفة لها فروع عديدة وتديرها شركات غربية كبرى.<BR> وهذا القرار يعد مدفوعا بالوازع الأخلاقي بالدرجة الأولى كما هو معلن وهو ما يفترض أنه يتناقض مع العلمانية التي تفصل بين الدين والدولة.<BR> كذلك فإن هذا القرار صادر في دولة يغلب على سكانها الدين الهندوسي الذي يوصف عادة بأنه لا يقيم كبير وزن أو يعطي اهتماما بالمسائل الأخلاقية في جانب الجنس.<BR> بل لقد عرف عن هذا الدين ما يسمى بالانفتاح أو التحرر الشديد في هذه المسائل من ناحية انعدام التحريم.<BR> ومن المعروف أن هناك كتابا أو مجموعة من المؤلفات حول أساليب المعاشرة الجنسية وتعرف باسم الكارما موترا وضعها في عصور قديمة كهان الهندوسية.<BR> كذلك يضاف إلى أهمية قرار الحكومة الهندية أن قرارها بمنع بث قناة الموضة لا يتعلق بأفعال بيّنة الفضح والتهتك وإنما بعروض للموضة وفساتينها وأزيائها من نوعية تترخص في التقبل بها كثير من البلدان والثقافات ولا تجد فيها غضاضة.<BR>ولهذه الاعتبارات فإن قرار الحكومة الهندية هذا يكتسب الكثير من الأهمية.<BR> ويزيد من أهميته أنه سبقه منذ أسابيع قليلة حدث آخر تمثّل في موجة من الاحتجاجات الشعبية على تصرف قام به ممثل أمريكي بتقبيل ممثلة هندية (هندوسية) كانت تشارك معه في حفل خيري أقيم في الهند، ووصف هذا الفعل بأنه فاضح ومسيء لتقاليد وعادات الهند وكرامة نسائها ورجالها على حد سواء.<BR>أما بالنسبة لتصرف الشباب الروسي الثائر على ظهور أصحاب الشذوذ علنا ومجاهرتهم بأفكارهم في قلب عاصمة بلادهم فإنه يكتسب أهمية خاصة من حقيقة أن تظاهرات أصحاب الشذوذ وعلوهم في المدن الأوروبية تحت مسمى "تظاهرات الفخر" التي يكثر الحديث عنها في الإعلام قد أصبحت أموراً منتشرة في كل العواصم الأوروبية وأمريكا ولها سطوة ونفوذ كما أصبح للشواذ مثل هذه السطوة في الغرب.<BR>ومن هنا فإن رد الفعل العنيف من جانب الشباب الروسي يكتسب أهمية لأنه يعد بمثابة وقوف في وجه موجة عاتية تجتاح الغرب.<BR>ومن أهمية هذا الرد العنيف أنه يعبّر عن نهضة ونفوذ الكنيسة الروسية وتحوّل أتباعها إلى النشاطات الفعلية الاحتجاجية كقوة اجتماعية بل وسياسية تنزل إلى الشارع ولا تكتفي بالحديث في المنابر الكنسية كما يفترض في الكنيسة التي ليست سوى تجمع روحاني حسب دستورها وحسب ممارسات المجتمع الأوروبي، وروسيا جزء منه، بل وجزء قائد فيه.<BR>إلا أن أهم ما في هذه الأخبار التي اخترت هنا بعضاً محدوداً منها هي أنها تتناقض بشدة مع اتجاه خطير أخذ يسود الآن في البلاد العربية والإسلامية بدينها وتقاليدها. ففي حالة الشذوذ مثلاً نجد الآن من يدافع عنه في صحف ووسائل إعلام عربية وبعضها رسميّ التوجه إن لم يكن رسمي التمويل والإدارة. فقد أصبح مسمى الشذوذ الآن هو المثلية وبدأ التساهل مع أصحاب هذا الانحراف وسمعنا عن أن عدداً منهم وصلوا إلى مناصب عليا تصل إلى منصب الوزير وربما أعلى فضلاً عن بروزهم ـ وانحرافهم معروف ـ في ميادين الإعلام والحياة الاجتماعية. وعندما ضبطت السلطات المصرية منذ حوالي الثلاثة أعوام ما وصف بأنه تنظيم الشواذ، سارعت أقلام عديدة إلى الدفاع عنهم وتبرير أفعالهم، وتراجعت السلطات نفسها أمام الضغوط الأمريكية والأوروبية لإطلاق سراحهم في الوقت الذي تتفاخر فيه بعدم تراجعها في شتى المجالات الأخرى عن أي قرار تتخذه.<BR>ونجد الآن وعلى امتداد الساحة الثقافية من يكتب للدفاع عن حقوق الشواذ تحت حجة التسامح مع الآخر وإفساح المجال له.<BR>ووصل الأمر بهذه الأقلام والأصوات إلى حد تسفيه تقاليد الدين والشريعة والوصول إلى القول بأنه لا يوجد في الإسلام تحريم للشذوذ وإن خطر السلفية الإسلامي وما يسمى بالتطرف الديني أشد بكثير من جناية الشذوذ الجنسي أو العري والإباحية.<BR>والغريب أنه بينما يقوم أتباع الكنيسة الروسية بهذه الردود الفعلية العنيفة على مروّجي الشذوذ والمجاهرين به رغم عدم وجود تعاليم شرعية في دينهم بتجريمه بل ورغم عدم وجود شريعة أصلاً عندهم فإن الدفاع عن الشذوذ بل وتحبيذه يحدث في بلدان من العالم العربي في وجه تعاليم الشريعة (التحريم المعروف والمتواتر) ويتضح نفس هذا الموقف في قضية موقف الحكومة الهندية من عرض قناة الموضة.<BR>ففي الهندوسية لا توجد شريعة ولا يوجد موقف ضد عمليات التعري والإباحية فوق أن الحكومة الهندية هي حكومة علمانية بنص الدستور.<BR>لكن ما حدث يؤكد أن الهم الأخلاقي مطروح أو يجب أن يكون مطروحاً على الأجندة الحكومية والرسمية لأنه أصبح يؤثر على المجتمع نفسه ليس فقط من ناحية تفشي الانحلال وما قد ينتج عنه من تدهور في الإنتاج والخدمات وحسن سلامة سير العلاقات الاجتماعية بل لأنه يمس الطابع المعنوي العام للمجتمع ومُثُله الروحية العامة وثقافته وتاريخه حتى ولو كان هذا المجتمع يرفع راية العلمانية.<BR>أما في البلاد العربية، وعلى الرغم من وجود الشريعة الإسلامية المفصلة والتقاليد العريقة، وعلى الرغم من عدم الإعلان ـ رسميا على الأقل ـ عن علمانية الدول إلا أننا نجد أن تيار الإباحية ومن خلال الإعلام الفضائي على الأقل قد فاق كل تصور، وأصبحنا نسمع يومياً عن ظهور قنوات فضائية جديدة تحت مسمى قنوات الغناء والطرب، إلا أن ما يعرض فيها من كليبات وأغان يتضمن من العري والإباحية ما يفوق، بمئات المرات، ما يعرض على شاشة سلسلة قنوات الموضة ولا تجد هذه القنوات من يعارض قيامها ومضامينها ومن يفعل ذلك يقابل بالتسفيه والسخرية.<BR><br>