ضربات للعلمانية
15 جمادى الأول 1428

في أواسط شهر مايو أعلنت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية عن أنها سوف تتوحد من خلال ضم ما اسمي بالقسم الأجنبي منها إلى القسم الأكبر وهو الروسي. وكان ذلك القسم الأجنبي قد نشأ منذ قيام الثورة البلشفية مع وجود أعداد كبيرة من المهاجرين الروس في أوروبا وأمريكا وأستراليا بسبب هذه الثورة وما نجم عنها من حروب وقلاقل اجتماعية كبرى والأهم ما نجم عنها من نشر بالقوة لمبادئ الإلحاد ومحاربة الدين والكنيسة المسيحية. <BR>ويمثّل هذا التطور الجديد ذروة في عملية إعادة القوة والمكانة الاجتماعية والسياسية القوية للكنيسة في الدولة الروسية التي قامت من وسط حطام وركام الإلحاد السوفييتي وأخذت بصمود تبني مكانا لها في أوروبا والعالم كقوة تنافس ولو على استحياء القطب الأمريكي والأوروبي. وكان من أهم ما ظهر في هذا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حضر حفل توقيع وثيقة توحيد الكنيستين تحت قيادة الكنيسة الأم وشهد على هذا التوقيع ليس بصفة شخصية وإنما بصفته كرئيس للدولة. وأظن أن هذا الحضور الذي لم يلحظه أحد ولم تعقّب عليه وكالات الأنباء باعتباره من الأمور العادية هو أخطر ما تمخّض عن هذا التوحيد؛ فهو يعني ببساطة سقوط آخر بقايا العلمانية كفكرة وممارسة في روسيا ودفن مخلفات وبقايا الشيوعية وما حمله من أفكار إلحادية أو من مبدأ تنحية الدين عن الحياة وعن الدولة.<BR> ذلك لأن بوتين لم يحضر هذا الحفل بصفته مواطناً عادياً يدين بالمذهب الأرثوذكسي كما أنه لم يحضر طقسا كنائسيا من طقوس القداس وما شابه بصفته مواطناً متديناً وإنما حضر وبصفته رئيساً للدولة مناسبة دينية سياسية في آن واحد لأن توحيد الكنيستين الروسيتين الداخلية والخارجية هو في الواقع عمل سياسي قبل أن يكون دينياً بل هو لا علاقة له بالدين حسب المفهوم المتعارف عليه على الأقل من الجانب العلماني. إننا لسنا أمام شعيرة دينية تؤدى وإنما أمام عمل سياسي بحت تعود فيه كنيسة كانت قد أسست في الخارج لاعتبارات اللجوء والضرورة ثم أصبح لها كيانها الخاص إلى جانب الكنيسة الأصلية ليس لمجرد زوال اعتبارات اللجوء والضرورة فحسب (أي اعتبار الثورة الشيوعية والضربات التي وجهت للكنيسة الأم) بل في عملية الاعتراف بهذه الكنيسة كممثل وحيد لأتباع المذهب الأرثوذكسي ليس فقط في روسيا وإنما باحتمال أن تكون الممثل الوحيد لهم في أوروبا الشرقية بأسرها وهناك بالفعل اقتراب كبير ومتصاعد بين الكنيسة الأرثوذكسية الروسية والكنائس الأرثوذكسية اليونانية التي كانت الأصل الذي انبعثت منه الكنيسة الروسية.<BR> ومع تزايد النفوذ الروسي السياسي فهناك احتمال قوي لأن تصبح الكنيسة الروسية بفضل هذا النفوذ وبحكم أنها الأكثر والممثل الوحيد أو الأقوى لسائر الكنائس الأرثوذكسية في العالم ومنها كنائس كبيرة في مصر وأثيوبيا وفي المهجر الأرثوذكسي في أمريكا واستراليا.<BR> ولا ننسى أن روسيا القيصرية حاولت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أن تتقرب إلى الكنيسة القبطية في مصر بحجة توفير الحماية لها كما حاولت الشيء نفسه وإن بدرجة أقل مع الكنيسة الأثيوبية.<BR>وتوحيد الكنيسة الروسية وحضور الرئيس بوتين لهذه المناسبة في تأكيد لطابعها السياسي وأهميتها وتأكيد لسقوط العلمانية في روسيا والإعلان عن ترسيخ معالم الدولة القومية الدينية التي أخذت تتشكل هناك بعد سقوط الحكم الشيوعي له معان كبيرة. وأن الكنيسة الروسية في الخارج تنتشر في مناطق عديدة في أوروبا وأمريكا وأستراليا وعندما تعلن هذه الكنيسة عن الانضمام إلى الكنيسة الداخلية والعودة إليها وسط هذا الضجيج والمغزى السياسي الواضح فإنها تكون بذلك كمن يأخذ معه قسماً لا بأس به من ناحية الوجود الاجتماعي المؤثر من مواطني دول المهجر ويضعهم تحت تبعية كنيسة "(الروسية الأم) هي الآن, وبشكل معلن, لا لبس فيه كنيسة الدولة الروسية الرسمية كما أن عقيدتها هي الدين الرسمي للدولة. <BR><font color="#0000FF">ويحدث هذا في وقت تروّج فيه دعوات مستميتة ومتكررة موجهة إلى المسلمين في أوروبا مثلاً إلى قطع سائر روابطهم مع أوطانهم التي هاجروا منها أو مع الدول الإسلامية لو كانوا هم من مواطني البلاد الأوروبية الأصليين بحجة أن هؤلاء المسلمين يجب أن يثبتوا أنهم من المواطنين الموالين والمنتمين لبلادهم وأن هذا الولاء لن يثبت إلا بأن يقطعوا شتى العلاقات مع بلدانهم الأصلية أو البلاد الإسلامية</font>، بل إن هذا الولاء والمواطنة لن يثبت إلا إذا تخلوا عما يسمى بالعادات والتقاليد والسلوكيات والقيم التي كانوا يسلكونها في بلدانهم الأصلية أو السائدة في البلدان الإسلامية بحجة أن هؤلاء المسلمين يجب أن يأخذوا بعادات وتقاليد وسلوكيات أوطانهم الحالية وأن يجعلوا هويتهم أوروبية غربية وأن ينشئوا نمطاً يسمى بالإسلام الأوروبي أو العصري وتحت مقولة أن الإسلام الموجود في البلدان الإسلامية ليس هو الإسلام الوحيد أو حتى الصحيح! لكن ما يحدث الآن من خلال توحيد الكنيستين الأرثوذكسيتين الروسيتين, الخارجية والداخلية, يمر وبموافقة الجميع وسيكون في اتجاه مضاد تماماً لما تبشّر به دوائر سياسية غربية قوية وتفرضه على المسلمين في بلادها وهو الانشقاق والانفصال المادي والروحي التام عن بلدانهم الأصلية أو عن المحيط الإسلامي العام والعالمي. <font color="#0000FF"> مع الفارق أن المسلمين في الغرب لا تربطهم تبعية تفرضها العقيدة أو الشريعة الإسلامية كأبنية أو تنظيم ما يملى عليهم ما يفعلونه وحتى من يصوّتون لأجله في الانتخابات بل هم مرتبطون فقط بمرجعية إسلامية ثابتة ومعروفة القواعد على العكس تماما مما ينطوي عليه إدخال أتباع الكنيسة الروسية الخارجية مع كنيستهم إلى حظيرة الكنيسة الداخلية لما هو معروف من السلطة الكنسية على أتباعها والتي توصف عادة بأنها سلطة روحية وليست زمنية, كما يقال, لكنها في الواقع هي سلطة زمنية بحتة</font> وتزداد سطوتها مع اندماج أمثال هذه الكنائس وبالذات الأرثوذكسية في روسيا والصرب مثلاً تحت سلطة الدول وتحوّلها إلى أدوات وتجسّدات سياسية لها كما كانت الحال في بدايات العهد الشيوعي ثم كما آلت إليه الأحوال الآن في ظل الاندماج الجاري بين الدولة الروسية بين الكنيسة الذي كان لحضور بوتين إلى حفل إقرار التوحيد أثر واضح في التأكيد عليه.<BR> توحيد الكنيستين إذن سوف يؤدي إلى فرض نفوذ الكنيسة الأم المعنوي والفكري والمادي كذلك (على الأقل من خلال جمع التبرعات) مع شتى أنواع الارتباط على معظم المسيحيين الأرثوذكس في الغرب وعلى ما يستتبعه ذلك من نشر الولاء للدولة الروسية وتعميق الانتماء لها والارتباط بها وهذا, كما قلت, يخالف ما يزعم الغرب أنه يدعو إليه الآن من تأكيد فصل المسلمين عن أوطانهم الأصلية بل عن دينهم نفسه بحجة ضرورة وضع دين أو إسلام جديد ملائم لأوروبا. وقد يقال إن ازدواج المعايير هذا سببه أن الإسلام دين غريب عن أوروبا. ولكن يرد على هذا بأن المذهب الأرثوذكسي كذلك غريب عن أوروبا وأن الصراع معه من جانب الكاثوليكية والبروتستانتية كان وحتى وقت قريب للغاية مستمر وأن اختلافه عن تلك المذاهب كبير بقدر يقارب اختلاف الإسلام لم يزد عنه من ناحية الصراع والتعصب المسيحي الداخلي.<BR> <font color="#0000FF">وأياً كان الحال فإن مسألة توحيد الكنيستين الأرثوذكسيتين الروسيتين هي بكافة أبعادها تمثل مجموعة موجعة من الضربات للثوابت العلمانية التي يدأب الغرب والعلمانيون المحليون في البلاد العربية في الفترة الأخيرة على الإلحاح عليها مثل فصل الدين عن الدولة وضرورة إسقاط أي مفاهيم دينية في المجالين, الاجتماعي والسياسي. </font><BR><br>