عودة رحلات البابا
1 جمادى الأول 1428

في أول رحلة إلى أمريكا الجنوبية لبابا الفاتيكان الجديد بنديكت السادس عشر وصل إلى البرازيل وسط حفاوة وتغطية إعلامية تذكرنا برحلات البابا الراحل يوحنا بولس الثاني. وحشدت له هناك ـ كما هي العادة مع البابا الراحل ـ أعداد هائلة من الجماهير في كل المناسبات التي حضرها بينما ملأت الاحتفالات كل الأمكنة، واستغلت الكنيسة الفرصة لتقوم بنشاطات واسعة النطاق. وكان من أبرز تصريحات البابا، قوله أنه سيعيد بناء الكنيسة الكاثوليكية في أمريكا الجنوبية، وهو تصريح له أهميته البالغة على أكثر من صعيد، فهو يوحي بأن فورة النشاط السياسي الذي كانت تمارسه الكنيسة الكاثوليكية في عهد البابا الراحل سوف تستمر، لأن البابا بنديكت عندما يتحدث عن إعادة بناء الكنيسة فهو لا يتحدث عن إعادة بناء كنائس تهدمت، أو إعادة هياكل تنظيمية دب فيها الاضطراب، وإنما يتحدث بالأساس عن تنشيط لدور الكنيسة، ليس في المجالات الطقسية الدعوية المعتادة، وإنما في المجال الحياتي العام بأبعاده الاجتماعية والسياسية، وهو يقصد هذا المجال بالتحديد لأنه هو الذي تعرض ويتعرض الآن إلى تحديات ومطالب عديدة.<BR>و أبرز هذه التحديات هو التقدم الكبير الذي تحققه الكنائس البروتستانتية القادمة من أمريكا الشمالية على حساب الكنيسة الكاثوليكية في أمريكا الجنوبية (كما تفعل هي في روسيا وأوروبا الشرقية على حساب الكنائس الأرثوذكسية) في مجال كسب الأتباع والنشاط التبشيري وسط بروز إعلامي كبير، وباستخدام الأدوات الفعالة في الدعاية.<BR> ويشعر البابا الحالي وكنيسته بخطورة هذا التحدي في منطقة كانت تعد تقليدياً مقصورة على الكنيسة الكاثوليكية، لكن إعادة بسط سيطرة الكنيسة الكاثوليكية على أمريكا الجنوبية باعتبارها الكنيسة الوحيدة أو على الأقل الأكبر هناك هو أمر ينطوي على تعقيد آخر، فالكنائس البروتستانتية العاملة هناك تحظى بدعم سياسي كبير من جانب الولايات المتحدة، ودوائرها السياسية والمدنية، ليس على الأساس العقائدي والمذهبي وحده، وإنما على أساس أن هذه الكنائس سوف تعمل على رد الجميل بمساعدة السياسة الأمريكية في وجه التيارات اليسارية الجديدة الصاعدة في أنحاء القارة الأمريكية الجنوبية، والتي عبّرت عن نفسها في أمكنة مثل فنزويلا وغيرها ومن خلال سياسات كتأميم البترول، ومخالفة سياسات أمريكا الخارجية، لاسيما في مجالات الاقتصاد والعولمة والسيطرة على الموارد الطبيعية وغير ذلك..<BR> ووسط هذا السياق يأتي تدخل البابا وهو رئيس الكنيسة الكاثوليكية لكي يحاول استعادة أوضاع كنيسته من خلال العودة إلى ما كان يحدث في الثمانينيات وما قبلها في القرن العشرين عندما كانت الكنيسة الكاثوليكية هي التي تلعب نفس الدور المساعد للسياسة الأمريكية ليس فقط في مواجهة الحركات اليسارية والثورية المسلحة في ذلك الوقت وإنما أساساً في وجه حركات ثائرة داخل الكنيسة الكاثوليكية نفسها سعت إلى التحالف مع اليسار الثوري في ذلك الوقت تحت مسمى لاهوت التحرر. ويبدو أن البابا بنديكت يريد إعادة إحياء هذا الدور مرة أخرى وإعادة إحياء التعاون مع السياسة الأمريكية في أمريكا الجنوبية أو إعادة التأكيد عليه في محاولة للالتفاف حول تصاعد أوضاع ووجود وأحجام التيارات البروتستانتية الواردة إلى القارة في ظل مساعدة ضخمة من أمريكا الشمالية.<BR>غير أن البابا في محاولته المعلنة لإعادة بناء الكنيسة لا يستهدف فقط مواجهة المنافسين من جانب الكنائس البروتستانتية وإنما كذلك تثبيت أوضاع ووجود الكنيسة الكاثوليكية ذاتها في وجه التطورات في القارة التي تجعلها بعيدة الصلة عن الأحداث ومعزولة عن الحياة العامة للمجتمع هناك بسبب الضعف وعدم القدرة على المواكبة وعدم القدرة على طرح رؤى ومشاريع وأفكار تلبي احتياجات الواقع الأمريكي اللاتيني. إن حديث البابا بنديكت عن إعادة بناء الكنيسة يستهدف بالتحديد هذا الخطر المحدق بكيان الكنيسة ذاتها والذي لا يأتي من الكنائس البروتستانتية، وإنما من جانب قوى سياسية صاعدة ليست في شكل حركات تمرد وثورة وعنف يمكن محاصرتها ووضعها بالهامشية وإنما في شكل حركات سياسية واجتماعية حاشدة تدخل اللعبة السياسية من خلال الانتخابات وتحوز ثقة المجتمع. وهذا التحدي بالذات لا تستطيع الكنيسة الكاثوليكية مواجهته بسهولة، كما فعلت منذ أكثر من ربع قرن مع لاهوت التحرر ومع الحركات الثورية اليسارية أو مع ما يمكن أن تفعله مع تحدي التبشير البروتستانتي الذي تستطيع مواجهته بنوع من الالتفاف واستغلال الانتهازية التي تتسم بها السياسة الخارجية الأمريكية. إن الخطر الجديد يستدعي بالفعل أن يزور البابا أمريكا الجنوبية بدءاً من أهم وأكبر بلدانها كما يستدعي كذلك أن يتحدث عن إعادة بناء الكنيسة هناك. إن التهديد الذي يمثله الفكر اليساري الجديد في أمريكا الجنوبية لا يهدد فقط أوضاع الكنيسة الكاثوليكية هناك من حيث احتكارها التقليدي لمعظم مساحة العمل الاجتماعي وإنما أصبح الآن يهدد العالم الغربي بأسره وبالذات حركة العولمة. لقد اعتاد الغرب على النظر إلى أمريكا الجنوبية باعتبارها الفناء الخلفي له وبالتحديد لأمريكا. وكلما كانت تقوم هناك حركات ثورية كان الغرب يعمل بسرعة على احتوائها وعزلها عن بقية ما كان يعرف بالعالم الثالث. وكان مما يسهل هذه المهمة أن تلك الحركات باتخاذها الشكل الثوري العنيف وبراوبطها الفكرية والحركية مع الشيوعية الدولية والكتلة الشرقية في ذلك الوقت كانت تجعل المهمة الغربية محسومة لصالح الغرب لأنها ألقت بالشكوك حول نفسها وأبعدت عنها الكثير من الحلفاء المحتملين في أرجاء العالم الثالث ولاسيما في العالم العربي والإسلامي. أما الحركات الراديكالية أو الاشتراكية الجديدة في أمريكا الجنوبية فهي تتجنب كل هذه العيوب بطبيعة الحال. فهي ليست شيوعية أو ماركسية التوجه بل توجهها قوى وطنية تصب في مصلحة شعوبها. وهي ليست حركات أقليات تتبنى العنف والتطرف وتعمل بعزلة عن الشعوب وتشتبك مع الحكومات بل هي ذاتها ممثلة الشعوب بالطريق الديموقراطي وتعمل بالسياسة من خلال الحكومات. وأفكار هذه الحركات أو الأحزاب تبعد عن التطرف الفكري ومصادمة العقائد الدينية والمبادئ الأخلاقية والتقاليد الاجتماعية، كما كان الحال مع الفرق الثورية في منتصف القرن الماضي وما أعقبه. كما أن محتواها الفكري ينصب على نقد حركة العولمة التي تقودها أمريكا والغرب من منطلق الحفاظ على مصالح، بل حتى وجود، كل شعوب الأرض، ولا تصدر في ذلك عن منطلق أيديولوجي ضيّق بل هي مستعدة للتعاون مع سائر الشعوب والتيارات الفكرية. وقد ظهر هذا جلياً في قيام الحكومات المعبرة عن هذه التيارات بالاتصال والتنسيق مع بلاد كثيرة في أوروبا الشرقية وروسيا والصين والمنطقة العربية والعالم الإسلامي وجنوب ووسط آسيا في محاولة للخروج من العزلة الإقليمية التي كان الغرب وأمريكا يضربانها دوماً على أمريكا الجنوبية. وقد أدت هذه المحاولات إلى تدعيم القوى الاستقلالية المواجهة للعولمة. وهنا يأتي رد البابا الذي ينظر إلى الكنيسة الكاثوليكية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد لعقيدة الغرب الدينية ولثقافته وحضارته بقيمها وعلى رأسها العولمة التي تعني هيمنة ذلك الغرب على العالم ومعه مذهبه المسيحي. وكأن البابا يفعل هذا كله ومعه إسقاط العلمانية في الغرب بجعل الكاثوليكية هي تجسيد الغرب والتعبير عن ثقافته وهويته، وذلك من خلال الدعوة إعادة بناء الكنيسة في أمريكا الجنوبية.<BR><br>