ماذا لو تعلم بوش من الملكة إليزابيث؟
26 ربيع الثاني 1428

لا شك أنها كانت زيارة نادرة لما تحمل من فرصة للتعلم لا تقدر بثمن ، خصوصاً إذا كانت الزائرة ملكة لأكبر إمبراطورية مستعمرة في العصر الحديث ، وإذا كان صاحب الضيافة رجل مثل جورج دبليو بوش حديث العهد المتربع على عرش الإمبراطورية الوحيدة حالياً والوارثة لكل الإمبراطوريات السابقة في استعمارها. <BR><BR>الملكة البريطانية الطاعنة في السن "إليزابيث الثانية" تطأ الولايات المتحدة لأول مرة منذ ستة عشر عاماً مضت، الزيارة هي الرابعة لها منذ اعتلائها عرش بريطانيا، على جدول رحلتها رزمة من المشاريع.الخميس ،إلقاء كلمة أمام برلمان فيرجينيا بمناسبة الذكرى المئوية الرابعة لتأسيس جيمس تاون أول مستعمرة انكليزية في العالم الجديد.الجمعة المشاركة بحفل في جيمس تاون لكشف موقع اثري جديد ثم زيارة إلى معهد وليام وماري في وليامسبورغ في ولاية فيرجينيا الذي أسسه في 1693 ملك انكلترا وليام الثالث والملكة ماري الثانية. السبت، حضور سباق الخيل في "دربي كنتاكي" للمرة الأولى محققة حلم حياتها بحضور هذا الحدث مع زوجها الأمير فيليب من شرفة مقصورة خاصة حيث تخفق في المراهنة على حصان يحتل المرتبة الثالثة والثلاثين بعد المئة. الاثنين تناول العشاء على مائدة الرئيس الأميركي جورج بوش وزوجته لورا في البيت الأبيض، ثم من اليوم التالي زيارة "مركز غودارد لرحلات الفضاء" التابع لوكالة الفضاء الأميركية "ناسا" قرب واشنطن .<BR><BR>ما استوقفني في رحلتها هذه حدثان، الأول إلقاؤها كلمة بمناسبة تأسيس أول مستعمرة بريطانية على الأراضي الأمريكية، والثاني زلة لسان جورج بوش المعهودة خلال استقباله للملكة.<BR><BR><font color="#ff0000">الوقفة الأولى</font><BR><BR>وقفت ملكة العرش البريطاني الذي غربت شمسه عن بلاد ما وراء البحار أمام أعضاء البرلمان في ولاية فرجينيا لإلقاء كلمة بمناسبة الذكرى المئوية الرابعة لتأسيس جيمس تاون أول مستعمرة انكليزية في العالم الجديد، ينطلق لسانها بهدوء ، أتدرون كم عدد من أسس أول مستعمرة انكليزية في بلادكم؟ كانوا 104 رجلاً في الرابع عشر من مايو 1607م أنشئوا أول مستعمرة للناطقين بالانكليزية ، في منطقة مستنقعات وموبوءة بالبعوض على طول نهر جيمس، لم ينشئوها لنشر الثقافة الإنكليزية ولا لنشر القانون أو تعليم السكان الأصليين بل فعلوا ذلك بحثاً عن الذهب.<BR><BR>قفز إلى ذهني وأنا اسمع هذه الكلمات، عمليات القتل والتهجير والإلغاء، ولغة التخوين ومفردات الانتقام التي يصحو وينام عليها العراقيون كل يوم حتى أصبحت فنجان القهوة الذين يتناولونه كل صباح ، مفخخات بالعشرات ، حرق للمساجد ، نسف للمراقد ، تهديم للكنائس، حرب الكل ضد الكل ، الدم أصبح خبزهم اليومي ، والهدف قضاء على الديكتاتورية، ثم نشر للديمقراطية .<BR><BR>ما أشبه الليلة بالبارحة، فالإمبراطورية العظمى اليوم ليست بريطانيا بل الدولة المضيفة ، والمستعمرة الأولى ليست "جيمس تاون" وإنما" بلاد الرافدين" ، و"العالم الجديد" ليس القارة الأمريكية وإنما "الشرق الأوسط الجديد" أما العام فإنه عام 2003م حيث الذكرى اقتصرت حتى الآن على أربع سنوات ولم تصل للمئوية الرابعة.<BR><BR>الباحثون عن الذهب في"جيمس تاون" لم يتغيروا وان تغير لون الذهب، انه النفط، أليس هذا ما قاله المتربع على عرش الإمبراطورية الجديدة جورج بوش حين قال أن الهدف من وجودهم في العراق هو تأمين النفط وحماية المستعمرة القديمة "إسرائيل".<BR><BR>أعود لأتابع كلام الملكة الحكيمة وأنا متلهف لأعرف نهاية القصة، متسائلاً.. ترى هل وجد المستعمرون الذهب؟ هل أحبهم السكان الأصليون؟ اندفعت الملكة تتابع الحديث عن المستعمرين الأوائل بالقول:"لكنهم لم يجدوا سوى مجاعة وأمراضا وجفافا وعداء من قبل السكان الأصليين". <BR><BR>مرة أخرى أجدني أشط بعيداً تهاجمني الأسئلة من كل حدب، خصوصاً أن الملكة بدت وكأنها تروي لنا حاضراً نعيشه ونتلمسه بأظافر أناملنا أكثر مما تروي لنا ماض سحيق. ترى هل هو التاريخ يعيد نفسه كما يقولون، ترى هل وجد المستعمرون الجدد الذهب، ترى هل أحبهم السكان الأصليون.<BR>لا يبدو أن المستعمرون الجدد-الولايات المتحدة- قد حصلوا على الذهب الأسود وان وجدوه ولا يبدو في الأفق أن السكان الأصليين-العراقيون- أحبوهم كما كانوا يظنون ولا نثروا عليهم الورود ولا استقبلوهم بالرياحين ولو زعموا أنهم قدموا يعملونهم "الأتيكات" في الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان. <BR><BR>فهذا السناتور الديمقراطي "كريستوفر دود" يطرق رأسه قائلاً: "لن نستطيع تحقيق الاستقرار في وقت لا يرى 60 في المئة من العراقيين غضاضة في قتل الأميركيين، ويرى 80 في المئة منهم أننا السبب في الفوضى التي تشهدها بلادهم" بل تجد الرجل الثاني في تنظيم القاعدة "أيمن الظواهري" في غاية الحزن لأنه سيفقد شهية القتل والنهش في لحومهم إذا ما خرجوا من العراق.<BR><BR>وقبل أن تنهي الملكة موعظتها، لا تنس أن تعترف بمعاناة السود والهنود خلال تأسيس هذه المستعمرة، فتقول "إن السنوات الأولى في جيمستاون التي التقت خلالها ثلاث حضارات كبرى للمرة الأولى - الأوروبيون والسكان الأصليون والأفارقة -- شهدت سلسلة من الحوادث التي ما زال تأثيرها الاجتماعي العميق مستمرا ليس في الولايات المتحدة وحدها بل في بريطانيا وأوروبا أيضا".<BR><BR>حين تسمع رئيس جمهورية فرنسا يصف سكان الضواحي الباريسية من أصول مهاجرة بـ"الحثالة" أو يتعهد بألا تكون فرنسا مأوى لتعساء العالم أو تسمع مستشارة ألمانيا "انجيلا ميركل" تقول لا بد أن تحافظ أوروبا على هويتها المسيحية ، أو تسمع بابا روما يقول أن لا مكان لتركيا في أوروبا المسيحية أو تسمع بقوانين تطبق فقط على من يحمل سنحة متوسطية أو شرقية في المطارات الأوروبية بحجة مكافحة الإرهاب لا بد أن تتفق مع الملكة فتردد معها " نعم ما زالت آثارها موجودة حتى الآن". <BR><BR><font color="#ff0000">الوقفة الثانية</font><BR><BR>اليوم الاثنين، هادئ وحافل ، تتهيأ الملكة "إليزابيث الثانية فهي ستنزل ضيفة على البيت الأبيض حيث ستتناول العشاء مع زوجها على مائدة الرئيس الأميركي جورج بوش وزوجته لورا في البيت الأبيض، القصر يعج بالتحضيرات والمدعون للبيت الأبيض من علية القوم، قوانين الأتيكات تفرض بصرامة فلا بد للحاضرين من لباس سترة طويلة حيث الملكة حازمة بشأن برتوكولات الضيافة والاستقبال.<BR><BR>تصل المكلة لحديقة البيت الأبيض، تواكبها أصوات المدفعية مرحبة، يحاول جورج بوش أن يظهر احترامه وتقديره العظيم للملكة وهو يرحب بها أمام الضيوف فضلاً عن عدسات الكاميرات فيقول :"الشعب الأمريكي يفخر بأن يرحب بجلالتك مرة أخرى في الولايات المتحدة، ذاك البلد الذي صرت تعرفينه جيدا، فقد تناولت العشاء مع عشرة رؤساء أمريكيين، وشاركت بلادنا في الاحتفال بذكرى مرور قرنين في عام ألف وسبعمئة و.. عام ألف وتسعمائة وستة وسبعون".<BR><BR>تنبه الجمهور لزلة لسان بوش وما أكثر من زلات لسانه فبدأت الضحكات تفلت من أفواه الضيوف في حين لم تجد الملكة التي كبّرها بوش مئتي سنة سوى أن ترمقه بطرف عينها مستغربة فعلته خصوصا أن النساء من طبعها الغضب إذا ما سألتها عن عمرها حيث تحاول أن تظهر أصغر من عمرها الحقيقي فكيف إذا ما كبرتها مئتي عام.<BR><BR> حاول بوش التخفيف من زلة لسانه، فوجه نظرة سريعة إلى الملكة التي كانت إلى جانبه وقال "لقد رمقتني بنظرة لا توجهها إلا أم لابنها".<BR><BR>الإعلام رصد كلمات بوش الطائشة فتصدرت عناوين الصحف البريطانية . "الإندبندنت" عنونت ساخرة "بوش يلتقي الملكة - ويُكَبِّرها 200 سنة!". في حين علقت "سوزان جولدنبرج" في الجارديان على الحادثة بالقول "بوش أظهر مرة أخرى موهبته في اقتراف الأخطاء اللفظية الفادحة". <BR><BR>زلة لسان بوش هذه لم تكن الأولى من نوعها، وليست هي الأخطر طبعاً. فإن استهان بالملكة بشكل غير مقصود، فإنه حقّر أمة تربو على المليار نسمة من قبل وبشكل مقصود.<BR><BR>فكلنا يعلم ما سقط من لسان الرئيس الأمريكي جورج بوش عشية غزو أفغانستان حين اعتبر الغزو حرب صليبية جديدة بل سمى إحدى حملاته العسكرية تلك بعملية "النسر النبيل" مستوحياً تلك التسمية من الكتاب المقدس.<BR><BR>يبدو أن بوش الذي اعتاد زلات اللسان لم ينجح في الاستفادة من الدروس التي نقلتها معها الملكة البريطانية إلى الولايات المتحدة، وبالتالي اعتاد ممارسة الأخطاء كما اعتاد زلات اللسان.<BR><BR>فرغم أن نتائج استطلاع للرأي العام التي أجرته مجلة نيوزويك الأميركية تؤكد أن شعبية الرئيس بوش تدنت إلى 28 بالمئة. وأن حوالي 62 بالمئة يعتقدون أن تصرفات الرئيس بوش في العراق مؤخراً تنم عن تعنت وعناد وعدم رغبة في الإقرار بالخطأ فإن بوش ينطق حاله بما نطق لسان أحد الكتاب في صحيفة لوس أنجلوس تايمز الصادرة بتاريخ 6 مايو في افتتاحيتها حيث اعتبر أن "الولايات المتحدة لم "تخسر" ولا يمكن "أن تخسر" العراق، فهو لم يكن ملكاً لنا منذ البداية. ومهما كان حكم التاريخ على هذه الحرب فقد نجحت الولايات المتحدة في بلوغ بعض غاياتها: أسقطت صدام حسين وحاكمته وأعدمته؛ مكنت العراقيين من عقد ثلاث انتخابات ووضع دستور وتأسيس ديمقراطية ناشئة". علماً أن صاحب المقالة يؤكد أن تلك الديمقراطية الأشبه بـ"ديمقراطيات الموز" قد كلفت 350 مليار، وسقوط حوالي 3.363 من الجنود الأمريكيين قتلى، وجرح 24.310 ، فضلاً عما لحق بالعراقيين وممتلكاتهم.<BR><BR><font color="#ff0000">تشيني في مهمة جديدة</font><BR><BR>اليوم الثلاثاء، ربما آخر محطة في زيارة الملكة البريطانية للولايات المتحدة ، ولعله الإمبراطور الجديد لن يلقاها بعد اليوم..بقي السؤال ملحاً علي.. ترى هل استمع بوش إلى الملكة وهي تروي قصة أولئك المستعمرين؟ هل لديه الشجاعة ليبدي أسفه على احتلال أفغانستان أو العراق كما أبدت الملكة أسفها بكل شجاعة على ما فعل آباؤها بالسكان الأصليين في العالم الجديد، رغم أنها لم يكن لها دخل به على ما هو حاصل مع جورج بوش؟<BR><BR>انه نفسه يوم الثلاثاء ، تتوجه طائرة من واشنطن نحو الشرق الأوسط، إنها لنائب الرئيس "ديك تشيني" قطعاً ديك تشيني" لم يحمل معه اعتذار خطي من قبل بوش للشعب العراقي على ما اقترفته يداه ، بل لإنجاز مهمة جديدة يظن سيمور هيرش أن المهمة هي إيران حيث يقول لصحيفة الخليج الإماراتية:"إيران كانت دائماً على أجندة تشيني منذ أمد طويل ولسنوات، أنا شخصياً أنجزت خمسة تقارير، وقلت إنهم يستعدون للحرب، أنا لا أقول إنهم سيحاربون أو سيواجهون إيران الآن أو فوراً، فلا أحد يعرف التوقيت لكن نواياهم واضحة ، إنهم يريدون مواجهة إيران".<BR><BR>اليوم الأربعاء، بعد وصول تشيني بيوم للمنطقة، الرسالة واضحة، "الجزيرة" تبث صوراً من أفغانستان ،قوات الناتو ترتكب مجزرة في حق الأفغان، أربعون مدنياً أفغانياً في ضحية في ضربة واحدة، وبالأمس تلاميذ عراقيون يقتلون على مقاعد الدراسة، والهدف الرد على نيران معادية!..<BR><BR>في آخر الرحلة ، لا نستطيع إلا أن نذعن لكلام هيرش ، مصدقين بأن"الرئيس بوش لن يقدم أبداً على الاعتذار، لن يفعلها،لأن هذا الرئيس ببساطة غير مقتنع بأنه ارتكب أخطاء ، إنه يعيش في عالم يقطنه عدد ضئيل من الناس، دعيني أقول لك أنني أعلم أن البنتاغون لا يخطط إلا للنصر".<BR><BR><BR><br>