ساركوزي.. رئيس فرنسا الذي جاء من وراء البحر!
21 ربيع الثاني 1428

من كان يشك لحظة واحدة في عدم وصول نيكولا ساركوزي إلى سدة الشانزلزيه؟ و من كان يشك لحظة واحدة في أن الرجل الذي استعمل عبارة " الحثالة و الرعاع" لوصف المهاجرين العرب و الأفارقة سيكون رئيس الجمهورية الفرنسية بنسبة مريحة له انتخابيا و شعبيا على حد سواء؟ فقد الأغبياء سياسيا من فكروا أن الفرنسيين لن يختاروا شخصا (مهاجرا) مورطا في العديد من الفضائح المفبركة أو " المغطاة" جيدا من قبل مؤيديه الذين من عامين صاروا يتكلمون عن التغيير الإيجابي، مستعملين وقتها لأول مرة عبارة " المحافظين الجدد" الفرنسيين. <BR>ليس ضربا من الخيال كل هذا، و لعل المرشحة الاشتراكية المنافسة له و الضعيفة سياسيا "سيغولين روايال" واجهته في تلك المناظرة "التاريخية" واتهمته بشكل مباشر أنه منحاز إلى أمريكا و إلى "إسرائيل" على حد سواء (بحكم أصله اليهودي)، و أنه سافر إلى الولايات الأمريكية و التقى بشخصيات مهمة من المحافظين الجدد، والتقى بالرئيس الأمريكي جورج دابليو بوش ووعده أنه سيقود فرنسا إلى مصالحة "تاريخية" مع أمريكا لأن المصالح ستكون مشتركة من الآن فصاعدا.!<BR> وإن اعتبر المكتب الإعلامي لنيكولا ساركوزي تلك الاتهامات بالباطلة، و الكاذبة، إلا أنه و بشكل غريب نشرت صحيفة النيويوكرز الأمريكية عبارة" التحالف الأمريكي الفرنسي المقبل" والذي كانت عبارة "الرئيس ساركوزي" أهم و أغرب خيوطها، ليس لشيء سوى لأن المقالة كانت قبل الانتخابات وقبل وصول نيكولا ساركوزي إلى الحكم في فرنسا. كل شيء بدا مطبوخا في المطبخ الأطلنطي الذي كان من أكبر المشجعين لهذا الرجل غريب الأطوار الذي يتكلم و يناقض نفسه في الكلام، ثم يقول في النهاية: لقد تغيرت كثيرا. وكأن التغيير يمشي وفق مزاج الرجل المرتبط آليا بمزاج الذين سيتحكمون فرنسا من وراء البحر. فلأول مرة تقطع القناة الأولى الإسرائيلية برامجها لتبث الخبر العاجل: لقد فاز صديق "إسرائيل" السيد نيكولا ساركوزي، قالتها المذيعة التي قدمت السيرة الذاتية للرجل الأول في فرنسا، دون أن تنسى التأكيد أنه من أصل مجري يهودي و أم يونانية يهودية أيضا.. تلك هي الصورة الأولى التي التقطتها الأحداث الأولية في فرنسا التي ستكون" فرنسا جديدة" قلبا و قالبا...!<BR><font color="#0000FF">ساركوزي رئيسا لفرنسا قبل هذا الوقت! </font><BR>لم تكن تلك الجملة التي ذكرتها صحيفة "لومانيتي" بعيدة عن الحقيقة، لأن ظهور ساركوزي بقوة بدا جليا منذ عامين، بالضبط منذ بدأ يستوعب الأخطاء الفظيعة التي كان يرتكبها صديقه اللدود جاك شيراك، و لعل شيراك الذي بلغ سن "التخريف السياسي" لم يكن ليستوعب خطورة أخطائه بالخصوص إزاء المشاكل الداخلية التي كان يحلها بالخطاب السياسي العنتري والرنان، حتى عندما انفجرت أحداث الضواحي بسبب تصريح ساركوزي المشين وغير الأخلاقي، وبعد أكثر من عشرة أيام من العنف ومن المواجهات الشرسة والعنصرية التي قامت بها الشرطة الفرنسية لاعتقال ولاضطهاد شباب الضواحي، خرج الرئيس الفرنسي شيراك عن صمته ليقول لهم" لقد فهمتكم" تماما كما قالها قبل خمسين سنة الجنرال شارل ديجول حين زيارته للجزائر المحتلة وقتها، وقال يخاطب الجميع بعبارته الشهيرة" لقد فهمتكم"!، وكأنه فهم شيئا حقا، فقد استمرت الأخطاء نفسها، التي تعكس الثقافة الكلونيالية مهما كان مصدرها، سواء ديمقراطيا أو انفتاحا أو تسامحا، لأن الثقافة الفرنسية تعتمد أساسا على نسق التاريخ القديم الذي يعلم أجيالا من الفرنسيين كيف أن الإمبراطورية الفرنسية كادت تحتل العالم، وكيف أن العديد من الدول الإفريقية والأمريكية كانت تحت إمرة الفرنسيين، وأن فرنسا دخلت تلك الدول فاتحة (غير مستعمرة!!!)، وأنها حملت إليها التقدم والرقي والازدهار!!! وهي نفس الازدواجية التي تعاملت بها فرنسا مع الجزائر التي تعتبرها "جنتها الضائعة" باعتراف من جنرالات شاركوا في الاحتلال وما زال بعضهم حيا إلى يومنا هذا.<BR> لكن ساركوزي لم يعتذر على عباراته الاستفزازية تلك، واعتبر كلامه "تحصيل حاصل" ولم يفعل شيراك شيئا ضده بالخصوص، وقد تحول ساركوزي إلى "بطل قومي" بالنسبة للأمن الفرنسي الذي أيده بشكل مباشر، لأنه يؤيد سياسة الطرد التي وعد بها هذا الأخير، ويؤيد ثقافة القطيعة التي يعد بها الفرنسيين، والحال أن القطيعة ليست مع النظام الديجولي فحسب، بل مع السياسة الفرنسية سواء الداخلية أو الخارجية. <BR>فمن خلال ذكاء رهيب، استطاع ساركوزي أن ينتصر على أكثر من جبهة وعلى أكثر من خصم، ليس هذا فقط، بل كان أحيانا يفتعل بعض القضايا التي تقفز إلى صدر الصحف الفرنسية ليخرج منها ساركوزي "كضحية" وكرجل يحاول الجميع كسره مما زاد في شعبيته وفي تصديق الجميع أنه الشخص الصعب والصلب الذي يمكنه فعلا قيادة فرنسا إلى التغيير الجذري، بالخصوص بعد فشل النظام الديجولي بكل طوائفه في إنقاذ فرنسا من الكوارث الداخلية، وفشل اليسار أيضا في تحريك عجلة الرقي الاجتماعي أمام العديد من النكسات التي كانت تزيد من ضخامة أزمة ظل يتخبط فيها الفرنسيون أهمها أزمة العمل، والبطالة، ناهيك على أزمات اجتماعية أخرى.. <BR><font color="#0000FF">ساركوزي الأخلاقي!!! </font><BR>بمجرد الإعلان عن فوزه، جاء ساركوزي إلى مقر حركته هادئا، وغير واضح السعادة. كان استغراب منافسيه كبيرا، أمام تلك البرودة التي حيا بها الناس، وذلك الغرور الذي قال به "أنا الرئيس الفرنسي" قبل أن يستطرد" رئيس كل الفرنسيين". كأنه كان يعرف جيدا تلك النهاية التي وصل إليها، ولم ينقصه شيء سوى الذهاب إلى الناس منتصرا ومغرورا.<BR> ولم يكن غروره أقل من رسائله المباشرة إلى الأمريكيين حين طمأنهم أن فرنسا تسير في سياقهم، والحال أن أول رسالة تهنئة وصلته كانت من جورج دابليو بوش.. وقبل أقل من نصف ساعة من الاعلان الرسمي بفوزه، بثت قناة فوكس نيوز الأمريكية (المقربة إلى المحافظين الجدد) خبر فوزه، وبثت برنامجا خاصا عن ساركوزي شارك في إدارة الحوار فيه بعض الفرنسيين الذين يعتبرون جزءاً من المحافظين الجدد على الطريقة الفرنسية.<BR> كانت تلك الرسائل المباشرة، تأكيداً آخر على ما قالته منافسته "سيجولين روايال" بأنه حليف أمريكا وأنه سيقود فرنسا إلى التهلكة، وأنه سافر إلى واشنطن ليحظى بالدعم من المحافظين الجدد، بالخصوص وأن المثقفين الفرنسيين المعروفين من أمثال " برنارد ليفي" يعد واحدا من صقور فرنسا، والأكثر انجذابا إلى سياسة المحافظين الجدد، دون أن ننسى أن "برنارد ليفي" ( اليهودي الأصل) صديق حميم لساركوزي، وأكثر المثقفين الذين يصغي إليهم.. الرسالة الثانية كانت رسالة أخلاقية التي كانت أيضا جزء من مشروعه الانتخابي عندما قال أن الأزمة الفرنسية ليست أزمة سياسية فقط، بل هي أزمة أخلاقية، وهو نفسه الخطاب الذي استعمله جورج دابليو بوش في حملته الانتخابية، وإن كان ساركوزي محقا في عبارة " أزمة أخلاقية" فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن تجاوز تلك الأزمة الأخلاقية؟ هل ستجاوزها كما فعل جورج دابليو بوش بالقول أن " الرب يهديه إلى تحرير العالم من الشر؟" <BR>بيد أن الشر الوحيد الذي يبدو مفهوما مشتركا بين ساركوزي و الأمريكيين في البيت الأبيض يكمن في الإسلام، وليس في المهاجرين كما توحي إليه بعض تصرفاته، لأن المهاجرين لا يشكلون خطرا عليه باعتبار أن القانون الأوروبي الموحد لا يمكن تجاوزه في هذه النقطة، ولكن ما يريد ساركوزي الوصول إليه منذ سنوات هو خلق العدو الأكبر للفرنسيين تماما كما فعل بوش الذي بعد أن قضى على العدو السوفييتي، اختلق عدوا جديدا اسمه :الإسلام. لهذا تعامل ساركوزي بازدواجية خطيرة مع القضية، فهو من جهة أسس ما يعرف بالمجلس الإسلامي الأعلى في فرنسا (مؤسسة تحت الإنشاء العملي ـ أي مجرد ديكور) و في نفس الوقت حارب الحجاب، واعتبره "رجوعا إلى الخلف" وحارب "الرموز الدينية" الأخرى، دون أن يكون اليهود طرفا فيها، باعتبار أن اليهود الذين يملكون مدارسهم و معاهدهم الخاصة غير معنيين لا بهذا القانون ولا بغيره، بدليل أن اليهودي الذي يغيب عن عمله ( أو مدرسته صباحا) يوم السبت لا يتعرض للعقاب، بينما المسلمة التي تدخل إلى مدرستها بالحجاب تطرد شر طرد من المدرسة وتعامل كمشروع إرهابية من قبل أولئك الذين يدافعون "عن الحريات الإنسانية" في الجمهورية الخامسة، ويدافعون عن حقوق الحيوانات والكلاب ويتباكون على الكباش التي تذبح في عيد الأضحى في أكثر من دولة إسلامية!!! <BR><font color="#0000FF">فرنسا التي اختارت! </font><BR>هذا ما يبدو. "اللي يتزوج أمي أقول له يا عمي" هي المقولة التي تنطبق على الفرنسيين اليوم. الغريب أن المهاجرين العرب و الأفارقة الذين صوتوا على سيجولين روايال لم يستطيعوا قلب الموازين، بينما كان يكفي ليهود فرنسا أن استطاعوا فعلها مع ساركوزي. <BR>سيجولين روايال تعرف أن الذين خانوها كانوا من الفرنسيين أنفسهم، وهي التي أثبتت أن الشجاعة ليست في الكلام، وأن ضعفها الكبير كان واضحا ولم يكن ليوصلها إلى الإليزيه أبدا.<BR> الفرنسيون لن ينتخبوا امرأة، وهي المقولة التي رددها أنصار ساركوزي، ورددها هو أيضا بعبارة "امرأة لن تستطيع قيادة فرنسا قوية" في الوقت الذي كانت رسالته الثالثة بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية موجهة إلى المرأة، ووعد بتحرير المرأة في العالم كما لو أن المرأة في العالم تحتاج إلى " السيد" ساركوزي ليأتي ويحررها في الوقت الذي يعتبر "سيجولين روايال" ناقصة في الفعل والعمل ولا تستحق أن تقود "بغلة"!! و صدق من قال: فاقد الشيء لا يعطيه!<BR><br>