سِرّ 7 من صَفر!!
28 ربيع الأول 1428

لا، ليس ولعاً بأحاجي الأرقام، لا، ولا سعياً خلف مفردات تغوص بنا في عمق تطفو من فوقه أزماتنا الراهنات، إنما في الحقيقة رغبة أردت أن أشاطركم إياها في البحث خلف هذه الأكمة عن هذا التوافق الغريب الذي يجمع ما بين حوادث تأثيرية بالغة الأهمية جمعها هذا اليوم. <BR>الفوضى ربما هي عنوان هذا اليوم لدى دول اهتزت عروشها فيه، ومن قبل "الفوضى الخلاقة" التي "بشرت" بها (وزيرة الخارجية الأمريكية) كونداليزا رايس، كانت هذه تنخر في جسد دول لها في العالم مكانة، ولو اهتزت في أزمنة أو تراجع دورها. <BR>القاسم المشترك إذن هو التحلل الداخلي الذي يعبد الطريق دوماً للغزو وأطماعه، أو للفتح وطموحاته، وفي قلب هذا التحلل وتلك الفوضى يسكن الظلم ويعشش الفساد.. تهرم الدول ـ كما يقول ابن خلدون ـ وتتفكك عراها، ويتشتت أهلها، إذ لابد وأن يسبق الغزو ـ أو الفتح ـ الفساد، وحتماً يتعاضد الظلم مع القادم، فلا يبقي من إرادة الشعوب شيئاً في المقاومة أو لا تحسن تقاتل حينها، أو ربما استحسن بعضها القادم، عله يمنحها قسطاً مما ظمئت إليه ولم ترتو بمائه لسنوات أو عقود من الحرية والعدالة. <BR>حين سقط تمثال الرئيس الراحل صدام حسين في مثل هذا اليوم (7 من صفر 1424 هـ الموافق 9 من إبريل 2003 م)، كان السقوط دالاً وقتها على أسباب تراكمية عديدة، صبت جميعها في هذا الانهيار المفاجئ الذي ظهر به هذا النظام، الذي صمد بادي الأمر ثم سرعان ما اهتزت أركانه بعد ذلك، وتساقطت رموزه كأوراق الخريف في أيدي الاحتلال الأمريكي وأشياعه، وكما يقول الشافعي رحمه الله: ولا تُرِ للأعادي قط ذلاً.. فإن شماتة الأعداء بلاء؛ فإن كثيرين استنكفوا عن محاكمة الماضي لاعتباره سيضع أثقالاً في كفة الاحتلال... <BR>لا غرو إذن، ولكن هل كان طول التمثال بما يمثله من تقديس للقائد سيصمد في وجه غازٍ استجمع قوته وحشد من خلفه الدول وفي طليعته الأعوان؟! بالطبع، لا، فقد كان هذا التمثال وقرناؤه نذر شؤم، وشارة هزيمة عالقة بين السماء والأرض قبل أن تدق الحرب طبولها؛ فالعراق لا تحميه التماثيل ولا "العتبات"، بل يحميه عدل يسجى على ربوعه ويملأ أركانه، وهو ما افتقر إليه قبل الغزو وافتقده تماماً بعده. <BR>كانت بغداد التي ظلت حاضرة العالم الإسلامي لخمسة قرون تعلن عن يوم تبدل فيه وجه العالم هذا القرن، في السابع من صفر، حيث غمرتها الجيوش من أقطارها، وبدأت من فورها مقاومة توشك أن تصنع انقلاباً في استراتيجيات الدول من أطراف روسيا والصين وكوريا الشمالية إلى حدود فنزويلا وبوليفيا ونيكاراجوا، مروراً بسلسلة طويلة من الدول زلزلها هذا التاريخ ودفعها خطوات إلى الأمام أو الخلف.. <BR>بغداد كانت في الحقيقة تملك في ذلك الوقت أسلحة قمينة بأن تبقيها صامدة لفترة أطول كثيراً من تلك التي ظل ما بقي من جيشها في حينه يطلق زخات رصاص متفرقة دون جدوى أو ربما لتصمد حتى دحر عدوها، لكن جيشها لم يفعل لسبب ربما عسكري أو ربما نفسي يتعلق بقوة الإرادة والبناء الإنساني وقتها، ربما أسباب كثيرة نعلمها أو لا نعلمها، بيد أن بعضاً منها يتشابه إلى حد بعيد مع تسليم بغداد أو غزوها على أيدي المغول في ذات اليوم أيضا (7 من صفر سنة 656 هـ)، حيث الخليفة المستعصم ذاهل عن فداحة ما ينتظر دولته، تنتشر في أرض بلاده المظالم، وينشغل بذاته ورفاهيته ومن حوله عن رعيته، وإعادة بناء دولته على أركان العدل الراسخة..<BR>معطيات الأحداث كانت تقود إلى بديهية إعدام المستعصم من قِبل المغول مثلما أعدم صدام حسين من قِبل الأمريكيين وأشياعهم، لا فرق بينهما إلا بطريقة القتل، وإن تعمد الغزاة من أصحاب الجلود السميكة في الحالين إهانة حاكم بغداد ساعة إعدامه، سواء أكانوا همجاً مبنىً ومعنىً أم حجبت جلودهم السميكة ذلك. <BR>جيش المستعصم كان هزيلاً، لكن جيش صدام لم يكن كذلك، لا ولا جيش مراد بك الذي قاد الجيش المصري في (7 من صفر 1213 هـ الموافق 21 من يوليو 1798م)، فقد كان بالتأكيد ضعيف التسليح لكنه كان وفير العدد، حين التقى الفرنسيين في معركة الأهرام قرب إمبابة (داخل القاهرة الكبرى حالياً)، حينها كانت الإرادة خائرة، والقادة يخشون غائلة القادمين، لم يكن يمنع من التسلح شيئاً سوى الفساد وإدارة الظهور كالعادة إلى الشعوب، فتحرير الأرض يسبقه تحرير الرقاب، وبناء الإنسان يتقدم على بناء الجيوش والقلاع، وحين تستشعر الأمة المهانة من حكامها تستمرئ ذلاً يفرض عليها من خارجها أو على الأقل لا تقوى على مجابهته فتحدث الكوارث.. هنا القاهرة بلا حامية، فر مراد بك ومعه إبراهيم بك شيخ البلد وكثير من المماليك إلى الصعيد حيث الأمن أوفر، ليشرب الشعب كأس الصمت والخنوع والانقياد مترعة.. وتضيع القاهرة حاضرة العروبة والإسلام، لتبدأ المقاومة من قلبها ثانية ولكن ليس من مراد بك وإبراهيم بك وزمرة المماليك الآخرين، وإنما من أولئك الذين هم ذخيرة الشعوب وزخرها. <BR>ظلم واستبداد وفساد وعلو في الأرض بغير الحق، يقود حتماً إلى تلك المصارع، وهذه النكسات، وقد تعلو أصوات ترشد إلى ضرورة كف الظلم وتخلية الطريق أمام الشعوب لتنال حقوقاً ترفع من قيمة العدل والإنصاف وتدعو للخير وبث القيم الفاضلة، فلا يلتفت إليها، بل يقف حيالها الأكاسرة حاجزاً منيعاً أمام الخير أن ينساب في ربوع بلادهم، تماماً مثلما وقف كسرى أبرويز يمزق كتاب رسول الله صلى الله حين قُرأ عليه، فوصل خبره للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال "مزق الله ملكه"، وأصاب كسرى من دعوته تلك فوضى دبت في أركان دولته، فظلت مدن فارس وحواضرها تسقط واحدة خلف أخرى، حتى غدا سعد بن أبي وقاص وجنوده إلى ضاحية بهرسير على تخوم المدائن، فاستعصت عليهم ثم فتحوها ظافرين، وفي مساء ذلك اليوم (7 من صفر عام 16 هـ) كان قصر كسرى بين أيديهم يشهد على انهيار إمبراطورية فارس، حيث إيوانه على مرمى بصرهم.<BR>هكذا يجمع هذا اليوم بين حوادث تأثيرية ومتسعة الامتداد الجغرافي/السياسي، كما يضم أياماً هي ذات جذور دينية تنقدح آثارها في الأذهان لحد اليوم؛ ففي ذاكرة الشيعة ـ بحسب كتبهم التي عدت إليها ـ يعني السابع من صفر، يوماً حزيناً، لأنه اليوم الذي قُتل فيه موسى الكاظم رحمه الله (كما في أعيان الشيعة جـ 4 صـ 80)، ومولده، وكذلك وفاة الصحابي الحسن بن علي رضي الله عنه (بحسب ما ورد في توضيح المقاصد ومصباح الكفعمي)، وللراحلين ذكرى لا تنمحي في العقل الشيعي..<BR>وإذن للجميع أفراحهم وأتراحهم في ذلك اليوم الذي يحمل سراً تاريخياً فريداً..وعجيب أن يكون كذلك من دون أن تجد في المقابل شيئاً يدعوك لربط كل هذه الأحداث ببعضها أو افتراض تعمد اختيار أي منها!! لكن الأرقام لا تغيير من واقعٍ شيئاً، دار في زمنه ما دار، ما دام عنوانه سيظل فوضى تعبد الطريق أمام الغازي أو الفاتح.. <BR><BR><br>