جبهة متجددة ضد السودان اسمها "زغاوي"
25 ربيع الأول 1428

لم تشكل العمليات العسكرية الأخيرة التي وقعت على جانبي الحدود السودانية التشادية إلا حلقة ضمن سلسلة من المواجهات والعمليات العسكرية التي تشهدها المنطقة منذ سنوات، نتيجة الأوضاع المتوترة هناك، ونتيجة بعض المسائل الجغرافية والتاريخية العالقة، لم تستطع أي جهة حتى الآن إيقافها أو حتى التبشير بقرب حلّها.<BR><BR>وتبدو الأحداث متشابهة في كل مرة يتم فيها تسليط الضوء إعلامياً على تلك المنطقة، لترتفع معها أصوات الحكومات بين اتهام ودفاع، فيما تتزايد المخاوف يوماً بعد يوم من حدوث حرب جديدة بين البلدين، لن تعدو أن تكون حرباً أخرى تضاف إلى حروب القارة السوداء، التي استحقت بامتياز أن تكون "قارة الحروب الدموية" على الأقل خلال العصر الحالي.<BR><BR>السودان وتشاد تمتلكان مقومات وإرث تاريخي مشترك، أكثر ما يميزه وجود قبائل متداخلة بين البلدين، تتميز هذه القبائل بالتناحر الدائم والصراع المستمر، لدرجة أن أصبح القتل عندهم شبه يومي، لا يحتاج لاجتياح عسكري أو عملية مدروسة، إذ يكفي أن يكون شخص ما ينتمي لقبيلة معادية كي يقتل. وهذا الخلاف ينتمي أصلاً _كأي شيء هناك_ إلى النظام القبلي، من بينها قبيلة تعرف باسم "الزغاوى" والتي ينتمي إليها الرئيس التشادي الحالي إدريس ديبي.<BR><BR>وكان يمكن للأحداث أن تتغير لصالح الاستقرار والهدوء أكثر لو أن العرف العام الذي يسود إفريقيا كان أكثر مرونة ويسراً. فالدول الإفريقية تتميز بطابع عام يجعل الحركات الانقلابية عمليات في غاية الصعوبة، على خلاف الانقلابات في الكثير من الدول الأخرى، إذ لا يكفي أن يقوم قائد عسكري أو جنرال سابق أو رجل دولة ذو نفوذ واسع، بانقلاب سلمي على السلطة، ليحصل على كرسي الحكم، بل عليه _في إفريقيا_ أن يكّون جيشاً قوياً، ويحصل على تمويل كاف، ليقود عمليات عسكرية، تبدأ بالاستيلاء على المدن الواحدة تلو الأخرى، وصولاً إلى العاصمة، كما حدث في أوغندا وزائير والصومال وتشاد نفسها، وغيرها، مع ما يسقط خلالها من قتلى وجرحى يصل عددهم لمئات الآلاف.<BR><BR>وقبيلة الزغاوي هذه قبيلة ذات جذور عميقة في المنطقة، لديها أطماع توسعية لا تخفى على الكثيرين، إذ أنها تنظر إلى وطن قبلي كامل لها، يمتد من تشاد إلى السودان، ويقتطع أجزاءً من ليبيا.. هكذا هو الحلم لديهم!<BR>في بداية التسعينيات، تلاقت مصالح زعماء هذه القبيلة، مع مصالح فرنسية في المنطقة، فجاء الدعم الفرنسي ليشكّل الحجر الأساس لتوليهم السلطة، عبر انقلاب عسكري دموي أطاح بنظام الرئيس السابق حسين هبري، ووضع إدريس ديبي على كرسي السلطة.<BR>إلا أن القبيلة التي بدأت تمارس حكم ديكتاتوري _لا يختلف كثيراً عن معظم الحكومات الإفريقية_ أدت إلى ردة فعل عكسية من قبل القبائل الأخرى، التي بدأت تتململ من هذه السيطرة المطلقة، فنشأت معارضة شعبية ضد الحكومة، بدأت تتنامى يوماً بعد يوم، إلى أن انشق أحد الضباط الذين كانوا قد ساندوا ديبي في انقلابه، وهو الضابط محمد نور، رافقه عدد من الضباط العسكريين في الجيش التشادي.<BR><BR>وبسبب تداخل الحدود بين السودان وتشاد، تلك الحدود التي تتيح للتشاديين التسوّق من أسواق سودانية حدودية بشكل طبيعي، كما العكس أيضاً، ولعدم وجود حدود طبيعية بين البلدين (كالأنهار أو البحيرات أو الجبال...) فإن المعارضة التشادية اتخذت من الحدود المشتركة موطناً لها لتنفيذ هجمات (كر وفر) على القوات التشادية.<BR>نشأت حتى الآن 3 فصائل عسكرية مسلحة، إحداها فصيل محمد نور، شنت هذه الفصائل عمليات عسكرية ضد القوات التشادية، محاولة شق طريقها باتجاه العاصمة، لإسقاط حكم الرئيس ديبي، ورغم أنها نجحت في إحدى المحاولات ببسط سيطرتها على بعض المدن، وتهديد العاصمة نفسها، إلا أنها اضطرت للانسحاب تحت ضراوة المعارك التي خلفت أعداداً ضخمة من القتلى، تناثرت جثثهم لأيام في الشوارع والمدن، من بينهم مجندين أطفال بالآلاف.<BR><BR>تشاد التي تعيش حالة فساد سياسي داخلي بسبب ديكتاتورية الحكم التي ينظر إليها الأهالي على أنها شكل من أشكال الاستعمار، تدعم منذ سنوات طويلة القبليين المنتمين للزغاوي في دارفور، فكانت بذلك سبباً لزيادة حدة التوتر هناك، وزيادة الدعم العسكري والمالي لفئة من فئات الصراع في المنطقة.<BR>وبذلك، تنظر حكومة تشاد إلى الخرطوم على أنها الداعم الرئيس للمنشقين من جماعة محمد نور وأتباعه، مستندة إلى أن هؤلاء المسلحين باتوا يرون في المناطق الحدودية مع السودان ملجأ لهم. وهذه الاتهامات المستمرة كانت سبباً رئيساً من أسباب الأزمة المتوترة بين البلدين، إلى درجة وصلت معها الأمور قبل عدة أشهر إلى أن أعلنت تشاد حالة الحرب ضد السودان، وحشدت قواتها وجندها على الحدود السودانية، وبدأ الآلاف من الأهالي في المناطق القريبة بالنزوح خوفاً من حرب لا تبقي ولا تذر.<BR><BR>إلا أن الأمور عادت للتهدئة، دون أن يكون هناك حل حقيقي للأزمة، ورغم الاتفاقية الأخيرة التي رعاها الزعيم الليبي معمر القذافي، وقّع فيها كل من الرئيسين السوداني والتشادي على اتفاقية لوقف الاعتداءات المتبادلة، والتي لم تكن الوحيدة بينهما، إلا أن الأمور تعود لتتفاقم من جديد. إذ لا تزال قوات محمد نور والفصائل الأخرى تهاجم القوات التشادية الحكومية على الحدود المشتركة، ولا تزال حكومي ديبي تحاول وأد هذه المعارضة، دون أن تتمكن أي جهة من كسر شوكة الأخرى. ووسط هذا الصراع الدموي المرشح للاستمرار، تبقى أزمة دعم حكومة تشاد للقوات القبلية في دارفور، وتبقى اتهاماتها موجهة للسودان بدعم المعارضة، دون أدنى حل.<BR><BR>الأزمة الأخيرة ألقت بظلالها على المنطقة، وجددت المخاوف من نشوء حرب بين الدولتين، هذه الحرب التي لن تكون في صالح أي من البلدين، بغض النظر عن المخطئ والمصيب. خاصة أن هناك أكثر من منطقة توتر بين البلدين، إحداها في دارفور التي أكدت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة، أن 400 شخص قتلوا شرقي تشاد قبل أشهر قليلة في مواجهات مسلحة بين التشاديين والجنجويد السودانيين. فيما اقتحمت القوات التشادية مدعومة بمدرعات وعربات مسلحة منطقة فور برنقة الحدودية الواقعة قرب الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور، أدت إلى مصرع 17 جندياً سودانياً.<BR><BR>الجميع يخشى من أن تصل المناوشات بين الجانبين إلى درجة حدوث حرب حقيقية، التي سينتج عنها معارك تطحن الآلاف من الجنود من الجانبين، وستؤدي إلى مقتل وتشريد آلاف الأهالي الآمنين، وتزيد من الجوع والخوف والفقر في بلدان تعتبر في أسفل قائمة الدول النامية اقتصادياً، تحتاج كل منها للمليارات لتحسين دخل أفرادها، بدل سحب الملايين لتمويل الأسلحة والذخائر باهظة الثمن، التي تبيعها الدول الراعية لحقوق الإنسان والديمقراطية !!<BR><BR>السودان قد تكون مستعدة عسكرياً لأي تدخل تشادي في أراضيها، ولكنها بطبيعة الحال ليست مستعدة اقتصادياً، ولا اجتماعياً ولا نفسياً، إذا جاز إطلاق الحالة النفسية على دولة كاملة.. فهذا البلد العربي المسلم قد عاش أطول حرب عرفتها إفريقيا في العصر الحالي، بين الشمال والجنوب، راح ضحيتها مئات الآلاف، انتهت أخيراً بتوقيع اتفاقية قد تأخذ من الخرطوم أكثر مما كانت تخاف أن تخسر فيما لو استمرت الحرب مع الجنوب.<BR><BR>كما أن قضية دارفور لم تحسم بعد، في ظل وجود توتر مستمر هناك، ترعاه تشاد ودول أخرى، قد ترتدي في البعض الأحيان قناع الأمم المتحدة والجهود الدولية الرامية لإحلال السلام!<BR><BR>جبهات عديدة تعيشها الحكومة السودانية، داخلياً وإقليمياً وعالمياً، ليس آخرها إطلاق صفة (راعية للإرهاب) عليها من قبل الولايات المتحدة، ولا محاولات نشر قوات أممية في أراضيها، ولا النفط المستخرج جنوباً لصالح الدول الغربية، ولا الحركات السياسية الداخلية... جبهات سياسية وعسكرية واقتصادية، قد تشكّل قبيلة (زعاوي) _فيما لو نشبت حرب بين الطرفين_ الجبهة الجديدة ضدها.<BR><BR><BR><BR><br>