قرنان على معركة رشيد.. المقاومة ممتدة إلى أرض الرشيد
18 ربيع الأول 1428

عندما يطالع الناس الإنجازات الهامة التي تحققها المقاومة الإسلامية ضد الاحتلال الأجنبي في الفترة المعاصرة، يتصور البعض أن هذا الإنجاز بما يحمله من خبرات ونتائج أمراً جديداً علينا، وفي الحقيقة فإن الأمر قد تحقق من قبل في كل مراحل الصراع وأن المعادلة كانت دائماً موجودة، فالمقاومة الشعبية المستندة إلى الإسلام تنتصر كلما أخذت بالأسباب من ناحية وتمسكت بوجدان ودين وعقيدة الجماهير من ناحية ثانية ، اعتمدت إذن على الإنسان وليس على الآلة العسكرية ، فالإنسان دائماً أقوى من التكنولوجيا، والإيمان والإرادة أقوى من الطائرة والدبابة، ودائما تنجح حرب المجتمعات في مواجهة الغزو الأجنبي بالضرورة ، أما حرب الجيوش فهي محسومة لصالح الأقوى، ويمكننا أن نطلق على هذا الأمر استراتيجية مقاومة الضعيف، حدث هذا مثلاً في حرب الشعب المسلم في مصر ضد الحملة الفرنسية 1798 – 1801 وفي حملة فريزر 1807 وفي معركة السويس بقيادة الشيخ المجاهد حافظ سلامة عام 1973 وهي تحدث الآن في العراق وأفغانستان والصومال بإذن الله وبمناسبة الذكرى الـ 200 لمعركة رشيد فإننا نقدم هذا النموذج من المقاومة.<BR>لنقارن حقيقة بين هذه المقاومة التي نعيشها إن في العراق أو فلسطين أو أفغانستان، نشهد هذا المشهد في رشيد ونرنو بأبصارنا إلى عاصمة الرشيد، بغداد التي تناضل ضد المحتل وهو ينفذ عملياته ضدها، فالفرق هنا في الأسماء "فيكوب" أصبح "كيسي" و"الحملة العسكرية" أضحت "خطة أمنية".. <BR>إلى الإسكندرية نزل الإنجليز، وزحفوا منها إلى رشيد فتظاهر أهل رشيد بتسليم المدينة، وما إن دخل الجنود إلى حاراتها وأزقتها حتى انهمر عليهم الرصاص كالمطر وقاوم كل رجل وامرأة في المدينة. وسقط الكثيرون من جنود الإنجليز صرعى في الشوارع، فقتل الجنرال ويكوب، وقتل الكثير من ضباطه، فاستولى الذعر على نفوس الإنجليز ولاذوا بالفرار وانتهت الواقعة بهزيمة الجيش الإنجليزي وارتداد الأحياء منه عن رشيد في حالة يأس وفشل. <BR>وإلى أم قصر نزل الإنجليز وخلفهم الأمريكيون، ومنها زحفوا إلى بغداد، فتظاهر أهلها بتسليم المدينة، وما إن استتب لهم الأمر فيهم حتى عاجلهم الثوار المخلصون فأوسعوهم قتلاً بعمليات محكمة طاشت معها استراتيجيتهم الحربية.<BR>يقول الجبرتي: "في يوم الجمعة رابع عشر من محرم سنة 1222 هـ وردت أخبار من ثغر رشيد يذكرون بأن طائفة من الإنجليز وصلت إلى رشيد في صباح يوم الثلاثاء حادي عشرين، ودخلوا إلى البلد وكان أهل البلدة ومن معهم من العساكر منتبهين ومستعدين بالأزقة والعطف وطبقات البيوت، فلما حصلوا بداخل البلدة ضربوا عليهم من كل ناحية فألقوا ما بأيديهم من سلاح وقبضوا عليهم وذبحوا منهم جملة كبيرة وأسروا الباقين وفرت طائفة إلى ناحية أبي قير فقاتلها كاشفها فقتل بعضهم وأخذتهم أسرى وأرسلوا السعاة إلى مصر بالبشارة فضربوا مواقع وعملوا شنكا" <BR>ويقول الرافعي: "إن الفضل الأكبر في هذا النصر يرجع للأهالي ـ وأن الحامية العسكرية بالمدينة كانت قليلة، وأن أهالي رشيد كانوا قد رفضوا مددا من الجنود عرضته عليهم القاهرة وقتها". <BR><BR>هذا يثبت أن أهالي رشيد كانوا يملكون من الثقة بالنفس ما يكفي لصد العدوان، ويثبت أن أهالي رشيد قد استفادوا من دروس الحملة الفرنسية حيث لم يفلح الجنود النظاميون في صد قوات الحملة في حين نجح الأهالي في المقاومة، وكل هذا يثبت صحة رأينا في أن الرد الصحيح على الاستعمار هو المقاومة الشعبية. <BR>وقد بادر حاكم رشيد بعد الموقعة إلى إيفاد الأسرى الإنجليز إلى القاهرة ومعهم رءوس قتلاهم ليكون ذلك إعلانا للنصر الذي نالته رشيد، ثم ليبعث هذا المنظر في نفوس الجنود والشعب روح الأمل والثقة.<BR>يقول الجبرتي: "فلما كان يوم الأحد 26 محرم سنة 1222 هـ ( أبريل 1807 ) أشيع وصول رءوس القتلى، ومن معهم من الأسرى إلى بولاق، فهرع الناس إلى الذهاب للفرجة، ووصل الكثير منهم إلى ساحل بولاق وركب أيضا كبار العسكر ومعهم طوائف لملاقاتهم فطلعوا بهم إلى البر وصحبتهم جماعة العسكر المتسفرين معهم فأتوا بهم من خارج مصر ودخلوا من باب النصر وشقوا بهم من وسط المدينة وفيهم " نسيال " " ضابط كبير " وآخر كبير في السن وهما راكبان على حمارين والبقية مشاة في وسط العسكر ورءوس القتلى معهم على نبابيت، ولم يزالوا سائرين بهم إلى بركة الأزبكية وضربوا عند وصلوهم شنكا ومواقع وطلعوا بالأحياء مع مسيالهم إلى القلعة وفي يوم الاثنين وصل أيضا جملة من الرءوس والأسرى إلى بولاق فطلبوا بهم على الرسم المذكور". <BR>أوليس هذا هو المشهد الذي عايناه للأمريكيين في الفلوجة ومن قبل في مقديشو ثم عاودنا رؤيته حين سحلت نساء المقاومة الصومالية الجنود الإثيوبيين في شوارع العاصمة الصومالية منذ أيام؟<BR><font color="#0000FF"> فلنعد مجدداً للتاريخ.. </font><BR><BR>ففي القاهرة كانت روح الجهاد متقدة وحركة الشعب المسلم في أوجها ـ وما أن وردت أنباء المعركة الأولى حتى استنفر العلماء أهل القاهرة إلى التطوع للقتال وخطب خطباء المساجد في حث الناس على الجهاد، فأقبلوا على التطوع مختارين وقبلوا الدعوة راضين , أخذ المتطوعون يذهبون في صبيحة كل يوم إلى أطراف المدينة، يعملون في حفر الفنادق وإقامة الاستحكامات شمالي القاهرة لصد الإنجليز إذا جاؤوا بطريق شبرا، وبادروا إلى العمل في ذلك وسارعوا إلى الاستعداد للقتال وعلى رأسهم السيد عمر مكرم، وكان الفقراء يعملون متطوعين نصف النهار ثم يعودون إلى أعمال معاشهم عند الظهر. وظهرت العاصمة بروحها المعروفة في ثورتي القاهرة الأولى والثانية. <BR>يقول المسيو مانجان في هذا الصدد: "كان السيد عمر مكرم يذهب في صبيحة كل يوم تتبعه الجماهير إلى حيث يشتغل العمال في إقامة الاستحكامات وكثيرا ما يبقى هناك النهار كله في خيمة أعدت له، وكان حضوره يثير الحمية والشجاعة في نفوس الناس جميعا، وقد بذل كل إنسان ما في وسعه لإقامة الاستحكامات". <BR>وقال الجبرتي: ( 16 ) "وفي يوم 26 محرم سنة 1222 نبه السيد عمر مكرم على الناس أمرهم بحمل السلاح والتأهب للجهاد ضد الإنجليز حتى مجاور الأزهر. أمرهم بترك حضور الدروس وكذلك أمر المشايخ المدرسين بترك إلقاء الدروس".<BR>ويضيف الجبرتي: "وشرعوا في حفر الخندق المذكور وإقامة الاستحكامات ووزعوا حفرة على مياسير الناس وأهل الوكائل والخانات والتجارة وأرباب الحرف والروزنامجي وجعلوا على البعض أجرة مئة رجل من الفعلة وعلى البعض أجرة خمسين وعشرين وكذلك أهل بولاق واشتروا المقاطف والفلقان والفئوس والقزم وآلات الحفر وشرعوا في بناء حائط مستدير بأسفل تل قلعة السبتية" ولم يقتصر تطوع سكان القاهرة على الدفاع عن العاصمة بل هبوا لنجدة أخواتهم أهل رشيد وتطوع كذلك أهالي البحيرة والبلاد المجاورة لرشيد. <BR>إن العلماء يتجلى جهدهم وعملهم في العمل المقاوم وفي الحث عليه، ولكم أكرم التاريخ وفادة الشيخ عمر مكرم عليه، مثلما سيكرم علماء العراق الثائرين.<BR>يقول الجبرتي: " وفي يوم الخميس غاية محرم ورد مكتوب من السيد حسن كريت نقيب أشراف رشيد يذكر فيه أن الإنجليز لما أوقع بهم أهل رشيد ورجعوا في هزيمتهم إلى الإسكندرية استعدوا وحضروا إلى ناحية الحماد قبلي رشيد ومعهم المدافع الهائلة والعدد ونصبوا متاريسهم على ساحل النيل إلى الجبل عرضا وذلك ليلة الثلاثاء ثامن عشرين، فهذا ما حصل أخبرناكم ونرجو الإسعاف والإمداد بالرجال والجبخانة والعدة والعدد وعدم التأني والإهمال، فلما وصل هذا الجواب قرأه السيد عمر النقيب على الناس وحثهم على التأهب والخروج للقتال والجهاد فامتثلوا ولبسوا الأسلحة وجمع إليهم طائفة المغاربة وأتراك خان الخليلي وكثيرا من العدوية والأسيوطية وأولاد البلد وسافروا إلى رشيد".<BR><BR><font color="#ff0000"> معركة الحماد 21 أبريل 1807: </font><BR><BR>كانت واقعة رشيد هزيمة شديدة أصابت الإنجليز، فأراد الجنرال فريزر أن يمحو أثر الهزيمة التي حاقت به في تلك الواقعة، واعتزم تجريد جيش آخر يستأنف الزحف على رشيد وعهد بقيادته إلى الجنرال ستوارت. <BR><BR>تحرك هذا الجيش من الإسكندرية يوم 3 أبريل زاحفا على رشيد، ولما صار على مقربة منها أنفذ الجنرال ستوارت كتيبة احتلت " الحماد " التي تقع جنوبي رشيد بين النيل وبحيرة إدكو، وكان الغرض من احتلالها تطويق رشيد، ومنع وصول المدد إليها من الجنوب وحماية مشاة الجيش الإنجليزي. واحتل الإنجليز أيضا " أبو مندور " وركبوا عليها المدافع ليضربوا رشيد بالقنابل وعسكر معظم الجيش غربي رشيد وجنوبيها وأخذ يحاصرها 7 أبريل ويضربها بالمدافع. وكان الإنجليز يظنون أن ضرب المدينة بالمدافع يلقي الرعب في نفوس الحامية والأهالي ويضطرهم إلى التسليم، وقد أنذروهم غير مرة بأن يسلموا المدينة، ولكنهم رفضوا (..) وصمموا على الاستبسال في الدفاع عن مدينتهم، بالرغم مما أحدثته القنابل من تخريب البيوت وقتل العدد الكثير من السكان، فإنهم صابروا وصبروا واحتملوا الشدائد بشجاعة، وكانوا يخرجون من المدينة من آن لآخر لمناوشة القوات الإنجليزية، واستمر الضرب والحصار نحو اثني عشر يوما دون أن يفوز الإنجليز بطائل. <BR>وبعد عدد من المناوشات ـ حدثت المعركة الفاصلة ـ في 21 أبريل 1807، يقول الجبرتي: " وذلك أنه اجتمع الحجم الكبير من أهالي البحيرة وغيرها وأهالي رشيد ومن معهم من المقطوعة والعساكر وأهل دمنهور، وصادف وصول كتخدا بك وإسماعيل كاشف الطوبجي إلى تلك الناحية فكان بين الفريقين مقتلة كبيرة وأسروا من الإنجليز طائفة وقطعوا منهم كثيرا من الرءوس ". <BR><BR>ويلخص لنا الجبرتي المعركة برمتها قائلا: "وكذلك أهل البلاد قويت همتهم وتأهبوا للبروز والمحاربة، واشتروا الأسلحة ونادوا على بعضهم بعضا بالجهاد، وكثر المتطوعون ونصبوا لهم بيارق وأعلاما، وجمعوا من بعضهم دراهم، وصرفوا على من انضم إليهم من الفقراء وخرجوا في مواكب وطبول وزمور، فلما وصلوا إلى متاريس الإنجليز دهموهم من كل ناحية على غير قوانين حروبهم وترتيبهم، وصدقوا في الحملة عليهم وألقوا أنفسهم في النيران ولم يبالوا بزيهم، وهجموا عليهم واختلطوا بهم وأدهشوهم بالتكبير والصياح حتى أبطلوا رميهم ونيرانهم وقبضوا عليهم وذبحوا الكثير منهم وحضروا بالأسرى والرءوس على الصورة المذكورة وفر الباقون إلى من بقي في الإسكندرية، وليت العامة شكروا على ذلك أو نسب إليهم فضل ـ بل نسب كل ذلك للباشا وعساكره وحوربت العامة بضد الجزاء بعد ذلك".<BR><font color="#ff0000"> قالها الجبرتي.. </font><BR><BR>في يوم 19 سبتمبر 1907، تم جلاء الإنجليز عن الإسكندرية، نتيجة للمقاومة الباسلة التي قام بها الشعب المسلم في مصر , وكان معنى هذا أن محاولات الغزوة الصليبية المسماة بالاستعمار قد فشلت في تجربتها الأولى، برغم أكبر دولتين استعماريتين، أقوى الجنود والأسلحة وأعظم القواد: نابليون وفريزر، وبرغم التفوق الآلي. <BR><BR>كانت القوى الاستعمارية قد اعتمدت على أن قوة العثمانيين قد ضعفت، وأن الجيوش النظامية في بلاد الإسلام لن تصمد أمامها؛ بسبب التفوق الآلي والفني وخطط الحرب الحديثة وكان هذا صحيحا. إلا أن قوة عملاقة ظهرت، وحسمت المسألة لصالح أمتنا، كانت تلك القوة هي قوة الجماهير المسلمة بقيادة العلماء وعلى حين تبدد شمل الجيوش النظامية أمام الفرنسيين والإنجليز، فإن تلك القوة قاومت وانتصرت، هزمت بونابرت ومعه 36000 جندي وجنرال وكان بونابرت هو أعظم قواد أوروبا، وهزمت فريزر ومعه جيش الإنجليز، وكان فريزر قائدا فذا. <BR>ولم تكن تلك القوة العملاقة تملك القدرة على الجهاد ضد الكفار وهزيمتهم فقط، بل كانت تملك أيضا رؤية صحيحة عن الإسلام والشريعة الإسلامية وعلاقة الحاكم والمحكوم وحقوق الجماهير واستطاعت أن تبطل المظالم، وأن تنتفض ضد الظلم الاقتصادي وأن تسقط الولاة، وكل هذا في إطار المحافظة على وحدة الأمة. <BR><BR>وكان معنى هذا كله أن هذه الروح الإسلامية الفذة سوف تسري في الأمة كلها وليس في مصر وحدها، فتؤدي إما إلى تجديد شباب الأمة في عطائها ورسالتها. ولكن القوى الشيطانية كانت بالمرصاد فخرجت وفي نيتها العودة، خرجت وقد أدركت أنها كي تعود لا بد من إخراج قوة المقاومة من حلبة الصراع، وهكذا ستشهد الفترة اللاحقة لذلك تكتيكات خبيثة لتحقيق الهدف الشيطاني في إخراج تلك القوة من الصراع وفصم علاقة الجماهير بالعلماء، وتطويق المد الجماهيري بأكثر من أسلوب على أنه لا بد هنا من كلمة، قالها الجبرتي حين لخص سبب انتصار الأمة على أعدائها قائلا: " فدهموهم ـ يقصد الجماهير ـ من كل ناحية على غير قوانين حروبهم وترتيبهم " أي أن النصر الذي حققته الأمة كان بسبب إتباع تكتيك الحرب الشعبية وليس الحرب النظامية؛ لأن هذا يكون على غير قوانين المستعمرين الحربية وترتيبهم وهذا يثبت صحة رأينا في أن الرد الصحيح على الاستعمار هو أسلوب الحرب الشعبية ".<BR><BR>وكان الجبرتي أيضا موفقاً حين فطن إلى أن تلك القوة ستتعرض لمحاولات تصفيتها حين قال: "وليت العامة شكروا على ذلك أو نسب إليهم فضل، بل نسب كل ذلك للباشا وعساكره وحوربت العامة بضد الجزاء بعد ذلك". <BR>والله أكبر يا جماهيرنا المسلمة.<BR><BR><BR><br>