بوصلة دحلان
4 ذو الحجه 1427

[email protected]<BR>لم تكن العلاقة بين حماس وفتح دوماً في حالة وفاق، ولم تكن كذلك في حالة صراع مستمرة، فقد تراوحت كثيراً ما بين الخصومة والتوافق، وشهدت الحركتان خلال العقدين الماضيين لحظات تمكنتا فيها أن تجدا مساحات واسعة للقواسم المشتركة بينهما حينما حددتا البوصلة باتجاه العدو الصهيوني المحتل، حيث الإجماع الوطني معقوداً على ضرورة تحرير الأرض الفلسطينية، والخطورة هنا ليست في وجود الاختلاف السياسي أو حتى الخصومة السياسية ما دام كلا الطرفين حريصاً على المصلحة الوطنية ومحافظاً على الثوابت العامة، وإنما أخطر ما في الأمر أن يتخذ فريق من المتنفذين في طرف منهما سبيلاً مغايراً لتلك المصلحة ومتقاطعاً مع أجندة العدو الصهيوني من أولئك الذين تمكنوا من السيطرة على القرار الفتحاوي أو قسط منه. <BR>ونريد هنا أن ننظر إلى المشهد الاحترابي في غزة خصوصاً من زاوية وجود ميليشيا لا يرضيها أن يحدث توافق بين الحركتين الكبيرتين، ونعني هنا من عرفوا على الصعيد الداخلي الفلسطيني باسم "أيتام أوسلو"، الذين اعتبروا هذه الخطيئة السياسية وما تخلف عنها دِيناً يذاد عنه ويدافع عن "مقدساته"، هؤلاء الأيتام الذين تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت كلما حدث اتفاق بين حكماء حماس وعقلاء فتح على ضرورة التجذيف بمجذافي حماس وفتح في مركب السياسة والمقاومة الفلسطينية لتحقيق المصلحة الوطنية والمحافظة على الثوابت الدينية والوطنية، فإذا ذهب خوفهم على مناصبهم سلقوا حماس بألسنة حداد أشحة على الخير. <BR>هؤلاء الأيتام معروفون لكل فلسطيني اليوم ولم يعد ذكرهم سراً من الأسرار، ويقع في صدرهم رئيس السلطة الفلسطينية ذاته محمود عباس، وزعيم كتلة فتح في المجلس التشريعي عزام الأحمد، والوزير السابق نبيل عمرو، وزعامات فتحاوية بارزة مثل العقيد سمير المشهراوي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، ورشيد أبو شباك نائب رئيس الأمن الوقائي الفلسطيني سابقاً، ورئيس جهاز الأمن الوقائي في غزة سابقاً محمود دحلان، وهذا الأخير هو الذي يتردد ذكره اليوم في غزة كمسؤول مباشر عن فرق الموت المرتبطة بجهازي الاستخبارات الأمريكي و"الإسرائيلي"، والتي تبدت أفعالها في الآونة الأخيرة تشعل النار في النسيج الفلسطيني المتماسك حتى غدت محاولات فتنتها كمثل من يرتبطون بهم في تل أبيب "كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً".. كلما طفأ الحكماء فتنة عمدوا إلى نار الفتنة فأشعلوها من جديد، ثم بالإضافة إلى هؤلاء سفيان أبو زايدة وهو عضو لجنة حركية عليا لحركة فتح والذي اختطفته كتائب القسام مؤخراً للضغط على دحلان للإفراج عن كوادرها المختطفة من قبل ميليشياته، ثم أفرجت عنه كبادرة لحسن النية استتبعتها إفراجات مماثلة من قبل حركة فتح. <BR>والمشكلة الآن ليس في وجود هذه الميليشيات فهي موجودة منذ زمن بعيد وإنما في وجود البيئة المهيأة لعملها التي يصلح فيها خروج خفافيش دحلان، والذي يبدو أنه قد عقد اتفاقاً "مع جهة ما" على إطاحة الحكومة الفلسطينية مهما جرت من تفاهمات بين حركتي حماس وفتح.<BR> والمتتبع للحالة الفلسطينية منذ بدأت الحكومة الفلسطينية في ممارسة مهامها أن دحلان وعصبته المتركزة في غزة قد آلوا على أنفسهم عرقلة عمل الحكومة الفلسطينية بشتى الطرق الممكنة، ويلحظ أن فريق هنية كلما حقق بعض الإنجازات في الداخل أو الخارج سارع رئيس السلطة الفلسطينية إلى تسخين الأجواء السياسية بإطلاق بعض التصريحات السلبية المتزامنة مع تحرك تقوده ميليشات دحلان والحرس الرئاسي لإثارة الفوضى بدعوى المطالبات بالأجور المتأخرة (والتي بالفعل قد وصلت لهذه القوات والميلشيات مع بداية كل شهر مثلما هو معلوم في فلسطين)، وعمد عزام الأحمد وسمير المشهراني إلى تحريك النقابات والمؤسسات الشعبية لوضع العصي في دواليب الحكومة الفلسطينية. <BR>والواقع أن ليس ثمة جديد فيما يحدث، إذ تسير الأحداث وفقاً لما هو متوقع تماماً، فالولايات المتحدة و"إسرائيل" اللتان لا تخفيا دعمها للرئيس الفلسطيني ودحلان إذ يثمن الرئيس الأمريكي "اعتدال" الأول، ويبدي إعجابه بالثاني، "يعجبني هذا الفتى"، قالها بوش في "قمة" العقبة يونيو 2003 ، ومن ثم فلا غرابة في أن يثير الاثنان الغبار بوجه حماس في تلك المرحلة، وإذا كان الزمن الآن لاستعراض القوة فإن نفوذ دحلان يصبح أكثر تأثيراً من نفوذ الرئيس الفلسطيني، وإذا كان الحوار بطلقات الرصاص فلا أمهر من دحلان يمتلك الجرأة لتنفيذ سياسة الاغتيال وإطلاق فرقة الموت تعمل أسلحتها في المناضلين، لأن من سواه ربما كانوا أقل منه اندفاعاً وتهوراً، وللرجل جرأة لا يحسد عليها في طعن المجاهدين والمناضلين بالظهر، ومن في فلسطين من يضاهيه وهو قد بلغت جرأته حداً ذات يوم أن وضع الشيخ أحمد ياسين رحمه الله في الإقامة الجبرية، بعد مصادرة الحواسيب والبرامج والملفات من مكتبه، ورافق اغتيال الدكتور الرنتيسي _رحمه الله_ أنباء لم ينفها دحلان عن مشاركته في جهد اغتيال الرنتيسي، بعد أن كان هدده بالقتل بناء على رواية الصحفي جهاد الخازن رئيس تحرير الحياة اللندنية الأسبق. <BR>وليس ثمة جديد في أن دحلان يعد حماس أكبر تهديد له، في مسعاه نحو السيطرة على غزة وربما أراضي 67 كلها، وأن يأسه من إزاحتها من طريقه هو السبب الأول في اندفاعه بالصراخ في الفضائيات هذه الأيام، في ظل غياب نجاح حقيقي له في ترجيح كفة فتح على حماس على الصعيد السياسي أو للدقة مجموعة أوسلو في فتح بالخصوص، وهو الذي ينفق بسخاء من مال يتدفق إليه هذه الأيام من الخارج ـ بخلاف ملايين الأموال التي يمتلكها في فندق الواحة وقصر الشوا بغزة المؤكدة واستثماراته العقارية "الظنية" في دبي والتي قدرت الأخيرة وحدها بمئة مليون دولار ـ من أجل شراء ضعاف النفوس في حركة فتح للمشاركة في محاولته الانقلابية على الحكومة الشرعية في غزة والضفة.<BR>ولا جديد في أن دحلان اتخذ محاور عديدة في مسعاه نحو السلطة فعذب مناضلين من حماس والجهاد، ونسق مع الكيان الصهيوني أمنياً للحد الذي جعله يتمكن من إحباط عدة عمليات نضالية ضد "إسرائيل" ووضع مناضلين غائبين عن أعين الكيان الصهيوني في حيز رؤية الشاباك، وأغلق إبان قيادته الأمن الوقائي العديد من المؤسسات الخيرية التابعة لحركة حماس والجهاد الإسلامي، وأطاح بخصومه في حركة فتح وسعى نحو تحويلها من خط النضال إلى الأسلوية البغيضة.. <BR>لا جديد في كل هذا، غير أن الجديد أن البوصلة التي وضع مؤشرها دحلان باتجاه أهداف ومرامي "إسرائيل" والولايات المتحدة تقوده نظرياً فقط نحو هدفه المرجو، غير أن واقع الأرض ما زال يحرف بوصلته يمنة ويسرة، إذ الخصم عنيداً عصياً على التدجين، فما يلمسه الناس اليوم في غزة خصوصاً أن عصابة دحلان لم تستطع تجييش الشعب الفلسطيني معها، ورغم كل الاستطلاعات الغربية الملغومة إلا أن التفاف الشعب الفلسطيني خلف الحكومة الفلسطينية لا يحتاج إلى شهادة دوائر الاستطلاعات المغرضة، فما يبدو من المشهد أن دحلان وعصابته وإن نجحوا في تنظيم الآلاف من المرتزقة والغوغائيين خلفهم إلا أنهم سيخفقون في نقل هذه الارتزاقية والغوغائية إلى جموع الشعب الفلسطيني البطل، الذي نراه محجماً دوماً عن المشاركة في الاضطرابات التي يشعلها دحلان ثم تنطفئ، والسبب أيضاً كامن في حكمة حماس في بسط الشرعية القانونية على القوة التنفيذية القريبة منها، وحكمتها في إدارة الصراع الداخلي بما يضع مزيداً من الكرات في سلتها ويسلبها من الارتزاقيين، فالشعب الفلسطيني صاحب أكبر نسبة تعليم في العالم العربي ليس غبياً ليجهل الفارق بين من يهرب الأموال إلى الخارج ـ كدحلان ـ ومن "يهربها" إلى الداخل ـ كهنية ـ، وليس جاهلاً حتى لا يدرك أن الحصار المفروض عليه بسبب التمسك بالمبادئ والقيم والذي تعليه حماس فوق حطام الدنيا، وأن مجرمي الحصار لا ينحصرون في "إسرائيل" والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، بل يمتدون ليشملوا أناساً من جلدتهم من بلاد العرب ومن فريق أوسلو الفلسطيني. <BR>إنها في النهاية بوصلة خربة الذمة، منحرفة السلوك، لا تثبت على شيء ولا تأل إلى شيء مهتزة متراوحة، أما أصحابها فليسوا سوى أدوات خارجية تتردد ما بين مصالح دول الاحتلال ومصالحهم الشخصية التي تتعاكس قليلاً مع الضغوط الخارجية حيث الأرض لا تسعفهم في التخريب، فتراهم "مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء".. <BR><br>