الصومال .. مأساة أمة
10 جمادى الأول 1427

قد يصعب إيجاد مثال لتمزق الأمة، وغياب رؤيتها الشاملة كالذي تقدمه حالة الصومال.. فبينما تتقاتل الأمم بكل وسائل القتال لاكتساب أرض جديدة وبشر جدد لهيمنتها، أو سوقها، أو ثقافتها، نجد العرب والمسلمين يسلمون أرضا مسلمة عربية وشعبا مسلما، لأعداء هذه الأمة وهذا الدين، ولا يفعلون ذلك بالصمت القبيح فقط، بل وبحصار الشعب الصومالي اقتصاديا لكي يصبح فريسة سهلة، لقناصين تعددت جنسياتهم وملاتهم وأيديولوجياتهم، حتى كاد لا يغيب عن التناحر على الساحة الصومالية سوى العرب والمسلمين، وليت هذا يعود على الصومال وحده، ولكن العجيب أن من يسلمون بوهنهم الصومال للأعداء، هم أول ضحايا الخلل في ميزان القوى الناتج عن سقوط الصومال لا قدر الله.<BR>ولفهم هذه الصورة القاتمة لابد من تسليط بعض الضوء على المناطق المظلمة في الرؤى الرسمية للمسألة الصومالية، كما يجب الوقوف على بعض المفاصل التاريخية لتطور الأزمة في الصومال.. أو.. أزمة غياب الرؤية الشاملة للصراع لدى النظامين العربي والإسلامي، خلال العقود الستة الأخيرة.<BR><font color="#0000ff"> الصومال في التجربة القومية العربية..</font> <BR>منذ أن بدأت حقبة الأربعينيات من القرن الماضي، وسادت حركات التحرر المنطقة العربية والإسلامية، وجاء زرع الكيان الصهيوني في قلب الأمة.. منذ ذلك التاريخ، نما لدى الدول حديثة التحرر وفى مقدمتها مصر الناصرية إحساس قوى ـ يفتقد الوعي ـ بأهمية المحيط الإسلامي والإفريقي، وكان طبيعيا لهذا الإحساس المفتقد إلى الوعي ألا يضع الأولويات الصحيحة لبناء الاستقلال ـ سواء استقلاله أو استقلال معسكر الحلفاء ـ ونتيجة لهذا الإحساس والطبيعة العسكرية لقادة هذه الفترة فقد سيطر الهاجس الأمني العسكري على الرؤى الشاملة.. وجاء القرن الإفريقي " الصومال " في مقدمة اهتمامات القيادة الناصرية " مع اليمن " لتأمين المدخل الجنوبي للبحر الأحمر وتحويله إلى بحيرة عربية.. وفى إطار هذه الرؤية الصحيحة عسكريا، والقاصرة عن ضرورات الصراع الشامل جاء الدعم والاهتمام المصري والعربي للصومال.. وإن تحكم في هذا الموقف المصالح الإقليمية والوطنية الضيقة فتراوحت المواقف في هذا الاتجاه بين فترة وأخرى.. وعلى الجانب الآخر كان معسكر الأعداء يعمل وفق رؤية كلية محكمة، فغذى الدول المعادية لكل ما هو عربي إسلامي بأسباب القوة لتجزئة الصومال واقتطاع أجزاء من أراضيه، ودعم الروح القبلية والنعرات العرقية لإثارة القلاقل وزرع الفتن وتضييع الهوية بين إفريقية الصومال وعربيته، مبعدا إسلاميته عن طاولة البحث حتى لا تكون عاملا جامعا موحدا، كما أقام الدول التي تمثل فتيلا دائم الاشتعال, " إرتريا " لتلعب دور العراب لعملية الدخول الصهيوني إلى وسط إفريقيا المسلمة.<BR>وبالرغم من الصراعات التي تحكم العلاقات بين معسكر الأعداء (الفرانكوفون.. والأنجلوأمريكان) <BR>حول النفوذ وأنصبة كل منهم من الكعكة الإفريقية الطازجة، إلا أن سياساتهم بعيدة المدى كانت تصب في نفس الاتجاه وتعمل لخدمة نفس الأهداف (التفتيت.. التفرقة العرقية.. إضعاف بنى الدولة.. تجنيد العملاء من الصفوة).<BR>ونتيجة لثبات سياسة الأعداء، وتقلب السياسة العربية والإسلامية.. فقد تقلب الصومال بين معسكرات الأعداء، رغم اختياره الانضمام لجامعة دول العجز العربي، فكان محسوبا على المعسكر السوفييتي المنهار ردحا من الزمن، ثم انقلب دون سابق إنذار ليخطب ود واشنطن ويطرد 7000 آلاف خبير سوفييتي بعد اندلاع حربه مع أثيوبيا.. والتي رأى السوفييت أنها أولى بدعمه.. وقد دفع الشعب الصومالي المسلم من حريته ورفاهته وطاقاته التنموية ثمنا باهظا لهذه الذيلية سواء للسوفييت أو الأمريكيين، ولكن الثمن الأهم، هو ما تكبده هذا الشعب من خسائر وجراح في جسد هويته وعقيدته.<BR><font color="#0000ff"> هزيمة النظام الرسمي العربي.. </font> <BR>إن اندلاع الحرب الأهلية في هذا القطر من العالم لم يأت مصادفة وبدون مقدمات، بل كان هناك سيناريو خفي أحكمت خطوطه ومفاصله من قِبَل أعدائه، وفي الوقت الذي سقطت فيه حكومة مقديشو عام 1991م قال (الرئيس الأثيوبي السابق) منجستو هيلا ماريام في كلمته أمام البرلمان، أنه حقق للأمة الإثيوبية ما لم يحققه رئيس إثيوبي من قبل وهو إسقاط الحكومة الصومالية لتتحول الساحة الصومالية بعد ذلك إلى بحر من الدماء، وتغير لون مياه نهري جوبا وشيبلى إلى لون الدم.<BR>ويبدو أن العام 1991 م كان عام الحصاد لكل ما زرعه الأعداء من فتن، ولكل ما زرعه رؤوساء النظام العربي والإسلامي من فرقة وقصر نظر، فهو يمثل بحق عام بدء الهجوم الشامل على الأمة، حيث توحدت الحضارة المادية تحت لواء "الكاوبوى" الأمريكي بسقوط الدب الروسي وانتهى الصراع الأيديولوجي في الحضارة الغربية المادية، وكان من الطبيعي أن تعدل أمريكا القائدة ومعها التابع الشريك الصهيوني من أهدافها في إفريقيا بما يتناسب مع حالة الانفراد التي تتمتع بها، وأن يكون هذا التعديل على حساب الفرانكوفون.. ولكن لكي يحدث هذا بين الحلفاء فلا بد وأن يحدث بأيد داخلية لها أسماؤنا ولون بشرتنا وترتدي ثيابنا.. وكانت قد أعدت مسبقا.. وهكذا جاء أمراء الحرب من كل مكان.. أرتريا، أثيوبيا وجيبوتي... إلخ.<BR>وتتبدى هزيمة النظام الرسمي العربي والإسلامي ليس فقط في الحصار الذي انصاع للمشاركة فيه نزولا على رغبة الأعداء لشعب الصومال العربي المسلم، ولكن أيضا في الانسحاب المهين للدور العربي والإسلامي في تسوية الأزمة الصومالية، مخليا مكانه وفق الرغبة الأمريكية لدول " الإيجاد " التي لعبت الدور الرئيس في إيجاد المشكلة وتأزيمها، وإفشال المبادرات والمؤتمرات ومساعي التهدئة التي بلغت ثمانية عشر مبادرة ومؤتمرا على مدى سبعة عشر عاما. <BR>لقد استطاعت الأمم المتحدة أن تحل مشكلة سيراليون، وليبيريا، وغيرها من القضايا الأخرى، كما اهتمت جميع الدول الأفريقية القوية منها والضعيفة بمشكلة البحيرات العظمى: بورندي وروندا والكونغو الديمقراطية (زائير سابقاً)، كما نزعت منظمة الوحدة الأفريقية فتيل الأزمة العسكرية بين (أسمرا، وأديس أبابا) عام 1998 م، ولكنها تهمل وبعمد الملف الصومالي رغم احتكارها له.<BR>إن المأساة الصومالية يراد لها أن تستمر لحين انضاج الأوضاع بين الحلفاء الفرقاء في معسكر الأعداء، وليس هناك من ظرف أكثر تيسيرا لتحقيق ذلك من حالة الهزال العربي الإسلامي التي تتجلى في كل الملفات المطروحة على طاولة هموم الأمة.. فلسطين، العراق، الصومال، السودان ومن يدرى أي من أقطار أمتنا سيضم اسمه إلى القائمة غدا فالسيناريو المطروح ليس خاصا كما يصرح مجرمي الحرب في أمريكا وغيرها.<BR><font color="#0000ff"> والخلاصة.... </font><BR>أن الرؤى الجزئية والإقليمية للصراع، ومحاولات اللإلتفاف على المواجهة بالرضوخ لإرادة الأعداء، والاعتماد على مساحات التناقض بين صفوف قاتلينا، والتنقل على موائد اللئام شرقا وغربا، لم يعد على أمتنا إلا بالوبال والخزي، وأن سياسة مبنية على مواجهة طويلة المدى، تنظر إلى الصراع في عموميته وباعتبار أن معركتنا وأمتنا أمة واحدة هي الطريق الوحيدة الموصلة إلى نصر موعود.. إن الدرس الصومالي يحتوى من العبر ما لا يحتمله مقال موجز.. ولعل أهم هذه العبر هو ميلاد النقيض الإسلامي المواجه مع تفكك النظم الواهنة، وهو درس متكرر في العراق ولبنان وأفغانستان وفلسطين والصومال.. فسبحان الذي يخرج الحي من الميت.. سبحانك اللهم، إنك على كل شيء قدير.<BR><br>