الحركات الإصلاحية: من السياسي إلى الثقافي
29 ربيع الأول 1427

ما من حركة إسلامية إصلاحية إلا وهي تهدف لتغيير الواقع الاجتماعي بدرجة أو بأخرى، غير أن جهود هذه الحركة وهي تشتبك مع مشاكل المجتمع وقضاياه تسيس بمختلف درجات التسييس وما ذلك إلا لغلبة العقل السياسي، وهو ما يجعلنا نسأل هذه الأسئلة <BR><font color="#0000FF"> أولاً- لماذا تضخم السياسي</font><BR>انحصرت جهود أغلب المصلحين في القرن العشرين الميلادي –أساسا – في مسألة النظام السياسي وضرورة إصلاحه كشرط لازم لتحقيق العدل والحرية ولقيام المنهج الإسلامي في واقع الحياة حتى عده أحد المفكرين الإسلاميين هو كل ما فقدته أمتنا الإسلامية في غفوتها المعاصرة، فبسقوط الدولة العثمانية رسميا 1924 سقط الكيان السياسي الأخير للدولة الإسلامية في العصر الحديث ونسي –أستاذنا المفكر- إن النظام السياسي لمجتمع ما هو إلا تعبير عن جزء كبير من الفكر والثقافة والاقتصاد والعادات ويؤثر فيها مجتمعة سلبا ويجابا فالنظام السياسي ما هو إلا كالروح في جسد الإنسان وعندما يفقد الجسد مقومات بقائه الذاتية تخرج الروح حيث لا محل لها من الوجود.<BR>وقبل أن يسقط النظام السياسي في الدولة العثمانية كان قد سقط جسم الدولة ومقومات بقائها الذاتية وعندما أضحى لا محل للنظام السياسي فاضت روح ما سمي وقتها رجل أوروبا المريض إلى بارئها. <BR>إن البحث عن عوامل النهوض والسقوط في الأمم الكبيرة لهو بحث في سنن الكون الثابتة وما أشد غياب الفكر السنني عن واقع المسلمين وأفكارهم بل وحركاتهم الإصلاحية .<BR>أيضاً الجزم بأن "الدولة" هي علة المسلمين الأولى لا يفسر لنا لماذا وقعت الدول –المناطق – الإسلامية التي نجت من براثن الاستعمار في نفس أمراض الدول المستعمرة (بالفتح) كما لا يفسر لنا أسباب السقوط الحضاري لأمة الإسلام في الوقت الذي رفرفت في أعلام الدول الإسلامية (الخلافات الإسلامية المتعددة ) في الشرق والغرب من الأندلس حتى الصين. <BR> لذا نقول: إن العلة الحقيقية - كما قال (العبقري) مالك بن نبي - هي تلك "القابلية للاستعمار" التي باضت وفرخت في ديار العالم الإسلامي ؛ شرقه وغربه ، ما نجى منه من الاستعمار وما وقع في براثنه أو بمعنى أصح ما استدعى بضعفه و تفككه الاستعمار لكي يحتله .<BR>صحيح أن الدولة في الإسلام من آكد فروض الأعيان علي الأمة بمجموعها وأشد فروض الكفاية على كل فرض بحسبه وتأثم الأمة متضامنة إن لم تقمها وكما يقول الإمام أبو حامد الغزالي _عليه رحمة الله_: " الدين أس والسلطان حارس وما لا أس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع " والدولة في الإسلام قد ثبتت بإجماع الأمة، فوجوب نصب الإمام فرض علي الأمة يجب تنفيذه وهو رأي أهل السنة جميعا ورأي المرجئة جميعاً ورأي المعتزلة إلا نفراً قليلاً ورأي الخوارج ماعدا النجدات.<BR>فالدولة فريضة وضرورة أما أنها فريضة فلما سبق، وأما أنها ضرورة فلأن بها تندفع أضرار الفوضى وتنفذ الواجبات الدينية والتكاليف الشرعية التي لا تتم إلا بها، ولتحقيق العدل بين الناس وهي ضرورات تزيد من فرضيتها <BR><font color="#ff0000"> ويبقى السؤال هو: هل المجتمع الإسلامي هو الذي يوجد الدولة الإسلامية أم أن الأخيرة هي التي تخلق المجتمع الإسلامي؟</font><BR>تجربة الاتحاد السوفيتي السابق خلال السبعين عاماً التي عاشها أثبتت أن الدولة بكل ما أوتيت من وسائل قهر منظم وإعلام وتعليم وأجهزة قادرة على إعادة تشكيل العقول لم تستطع أن تخلق مجتمع يؤمن بها فيمنع انهيارها إزاء تصاعد معدلات علمنتها و ضغوط النمط الاستهلاكي الرأسمالي الغربي إذ كانت جموع الناس أول الساعين في هدمها .<BR>فالدول التي لم تنبثق من رحم شعب (مجتمع) يؤمن بها ويدافع عن أفكارها هي دولة أتت من سفاح لا تملك مقومات وشرعية البقاء ابتداء ولا مقومات وشرعية الاستمرار انتهاء <BR>و في الحركة الإسلامية الحديثة عندما سيطر "السياسي" علي كل مجالات الحياة اغترب "الثقافي" وانزوى تاركا الساحة (ساحة العمل الإسلامي ) خالية يصول ويجول فيها السياسي يحدد المفاهيم ويرتب الأولويات لخط سير الحركة في سعيها للتمكين وفي خضم العمل السياسي العام ضعفت الحركة الإصلاحية عن إفراز كوادر مثقفة (بحق) تغزو المنتديات بما تحمل فكر ناضج وهم مجتمعي وتصور متسق حتى غدت الحركة محلاً للفعل وموضوعاً للدراسة وكأنها سلبت القدرة على الفعل والدراسة. <BR>ونتيجة مستقبلية لذلك أن تصبح بعض مكاسب الحركة الإسلامية السياسية، سواء على الصعيد البرلماني أو النقابي وهم وزبد يذهب جفاء والمكاسب الحقيقة هي فقط تلك التي تتجذر في وعي الناس وتمكث في الأرض. <BR><font color="#0000FF"> ثانياً : هل هو وعي سياسي حقيقي؟</font><BR>مع كل ما بلغته الحركة الإسلامية الإصلاحية من شأن في أغلب المجتمعات العربية لم تخلق عند عموم أفرادها –في الغالب – وعيا سياسياً حقيقياً إذ إن ضعف الوعي السياسي واضمحلال الثقافة هما جزء من الضعف الثقافي العام الذي يطبع المجتمعات العربية بكل نشاطاتها ، كما أن الوعي السياسي يتطلب ثقافة وإطلاعاً ومتابعة لما يجري ويدور حولنا وهذا لا يتسنى دون امتلاك أدوات ومعايير وموازين يستخدمها الفرد عند الدراسة والبحث والتحليل وتلك الأدوات والمعايير هي أبعد ما يكون في غالب عما ينشر ويمت بصلة إلي الثقافة الإسلامية السائدة، إذ هي في مجملها – إلا ما ندر –عموميات لا تنضج فكراً و لا تصهر أفراداً ولا تصلح واقعاً <BR>إن الوعي السياسي الحقيقي لا ينبت إلا في ظل أرضية نضج وعيها الثقافي واستوى علي سوقه بحيث يصير الوعي السياسي فرعاً عن الوعي الثقافي العام وإفرازاً طبيعياً له .<BR><font color="#0000FF"> ثالثا – المقصود بـ "الثقافي" </font><BR>المثقف ليس هو الأكاديمي المتجرد أو الناقد المؤسس لمفاهيم وأطروحات، إذ إن كل هؤلاء يمثلون النخبة كما الثقافة ليست هي مجموعة المعارف النظرية والعملية ولا هي طريقة وأسلوب أفراد المجتمع في التعبير عن قرائحهم في الآداب والفكر والفن إذ أن كل تلك التعريفات هي المعاني الضيقة للثقافة <BR>والثقافة أساساً: عقلية ونمط سلوك وطريقة في الحياة، بل هي كما عرفها مالك بن نبي" مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يتلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه والثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعة وشخصيته".<BR>والثقافة ليست علما يتعلمه الإنسان بل هي محيط يحيط به وإطار يتحرك داخله وهي بمعناه الواسع (منهج في الحياة) يطبع به مجتمع ما أفراده بحيث يمكن تمييز المجتمع الذي ينتمون إليه من سلوكهم، انظر إلي قول بن نبي عندما يقول: "إذا تصورنا فردين مختلفين في الوظيفة وفي الظروف الاجتماعية ولكنهما ينتميان لمجتمع واحد كطبيب إنجليزي وراع إنجليزي نجد أنهما يتميز سلوكهما إزاء مشكلات الحياة بتماثل معين في الرأي يتجلى فيما يسمى بـ " الثقافة الإنجليزية ". <BR>وبهذا تصبح الثقافة بحق : نظرية في السلوك أكثر مما هي نظرية في المعرفة. <BR><font color="#0000FF"> رابعا – لماذا ضعف الثقافي؟ </font><BR>يقول الأستاذ جودت سعيد في كتابه (حتى يغيروا ما بأنفسهم) عن شباب العالم الإسلامي أن عندهم استعداد لبذل أنفسهم في سبيل الإسلام، ولكن قل أن تجد فيهم من يتقدم ليبذل سنين من عمره ليقضيها في دراسة جادة لينضج موضوعاً أو يصل إلى تجلية حقيقة". <BR>وذلك لأن التضحية بالنفس لا تتطلب أكثر من مجرد حماس دافق وفورة عاطفة، أما البحث والدراسة والتحليل فلا يمكن أن تتم في لحظة حماس أو وفرة عاطفة (أو فورتها )، وإنما لابد من جهد متواصل يحتاج لنوع من الوعي كوقود يجعل الاستمرار ممكناً، ومن هنا نفهم تلك الوصية الخالدة "قليل دائم خير من كثير منقطع" وهذا يفسر لنا توقف انقطاع ما يتم العزم – في غمرة حماس – عليه من عمل دراسات فكرية أو أبحاث علمية تحتاج الصبرعليها لإنضاجها، فلا تستمر قليلاً حتى ينزل الملل ويفتر الحماس .<BR><BR><BR>وأخيراً <BR>إن الحركة الإسلامية التي ترفع لواء الإصلاح في مجتمعاتنا العربية والإسلامية عندما تتقدم ثقافيا فهي بذلك تطرح نفسها بديلاً حضارياً وليس مجرد "مشروع سياسي" وإذا توجهت الحركة نحو مشروع ثقافي شامل صار التحرك السياسي أحد أبعاده، وذلك على العكس مما هو حادث، حيث الثقافة – إن وجدت – أحد أبعاد المشروع السياسي ومن ثم انعكس ذلك على لغة الخطاب وأجندة الحركة <BR>وحينما يصير التوجه الثقافي والاجتماعي هو الأصل العام الضابط لخط السير ويكون التحرك السياسي الناضج أحد أبعاد هذا الأصل العام سيتحرر خطاب الحركة من ضبابيته وعدم وضوحه وعجزه عن جذب وإقناع التيار الاجتماعي لحركة الجماهير – بصرف النظر عن تلك المكاسب الانتخابية الوقتية - ثم يتحول إلى خطاب يتسم بالوعي بسنن الله في الآفاق وفي الأنفس وفي الاجتماع والكون فيساير قوانين بناء الأمم و الحضارات ولا يصادمها كما يغدو خطاباً واقعياً لا يقفز على الواقع ضحية التهوين تارة والتهويل تارة أخرى، والله أعلم.<BR><br>