العقيد والإيدز والإخوان
27 ذو القعدة 1426

عندما صعدت الدول الغربية من ضغوطها على نظام العقيد معمر القذافي قبل عدة أعوام، كان على العقيد أن يقرأ الخارطة السياسية بصورة مغايرة عن قراءته لها في زمان العز الثوري. <BR>وكانت القراءة الجديدة تقضي بأن يقدم العقيد تنازلات كثيرة مقابل تأمين النظام بتركيبته الحالية. <BR><BR>الأمريكيون قالوا وقتها: إنهم - وعبر دائرة واسعة من التحقيقات - قد اكتشفوا اللعبة الليبية بتفجير طائرة بان أمريكان فوق لوكيربي الاسكتلندية عام 1988 بجهاز توقيت دقيق الصنع دسه الأمين فحيمة (الضابط الليبي بجهاز الاستخبارات الليبية) وبمعاونة عبد الباسط المقراحي (المسؤول الكبير بالجهاز ذاته). <BR><BR>العقيد كان موغلاً في براجماتيته وسلم الضابطين بعد أن ظلت ليبيا نحو ثلاث سنوات ترفض تسليم المجراحي وفحيمة، ولكن بعد ضغوطات دولية فهم العقيد مآلاتها جيداً تم تسليم المتهمين في 5 إبريل 1999م، وبدأت إجراءات المحاكمة في فبراير عام 2000م في كامب زايست، وأسفرت المحاكمة عن براءة الثاني وإدانة الأول، ثم تم منح أهالي الضحايا 2.7 مليار دولار، وأتبع العقيد ذلك بقراره التاريخي بخروج ليبيا من مرحلة التصابي النووي إلى الواقعية الأمنية والتسليم بآخر ما في جعبته من محاولات المشاكسة النووية ومعها تسليم ما تيسر من أدوات المغامرة البريئة. <BR><BR>وبعدها شاهد العالم معرض الهزيمة الليبية بحديقة البيت الأبيض، وبدأت ملامح الخريطة السياسية تكتمل صورتها عند العقيد، وتولدت لديه أهداب استشعار سياسية تقيه من التعرض لتكرار خزي مفاوضاته الأوروبية إثر الأمريكية؛ فلقد صار يعي الدرس قبل أن يلقى على مسامعه، شأنه في ذلك شأن بقية السياسيين العرب الواقعيين الجدد الذي طالت أهداب استشعارهم لتمس جدران البيت الأبيض قبل أن تفكر واشنطن في الضغط عليهم. <BR><BR>غير أن العقيد زاد تفوقه عن أترابه فأصبح ورعاً لأكثر مما ينبغي، لا سيما في مسألة مئات الأطفال المرضى بمرض نقصان المناعة المكتسب "الإيدز" الذين يعانون لأواء المرض في مستشفى بني غازي من دون أن يعثروا لهذا المرض الخبيث على لقاح أو دواء في العاصمة الثانية لليبيا. <BR><BR>المرض الذي أصاب الأطفال كما هو معلوم - على الأقل قضائياً - لم يكن إلا نتيجة حقن خمس ممرضات بلغاريات وطبيب فلسطيني لـ 380 طفلاً ليبياً توفي منهم 47 في وقت لاحق بفيروس الإيدز القاتل عبر دم ملوث. <BR><BR>والمتهم حقيقة في هذه القضية التي حكمت فيها محكمة بني غازي بالإعدام على هؤلاء النسوة والطبيب الفلسطيني قبل عام ونصف بالتمام كان النظام الليبي من دون أن نبرأ ساحة المتهمين؛ فالإهمال سمة مستشفيات اللجان الثورية والمستشفى من بعد الجريمة عاجزة على توفير اللقاحات للأطفال المساكين، والجواسيس والمخربين يسرحون في أرض ليبيا ويمرحون. <BR><BR>ومن بعد إدانتهم ينتظرون انصياع النظام الليبي لضغوط الاتحاد الأوروبي، والتي كان آخرها طلبات الاتحاد الأوروبي بالإفراج عن الممرضات والتي تكللت بالنجاح الجزئي عندما أعلن القضاء الليبي "المستقل" إعادة محاكمة الممرضات تمهيداً لتخفيف أو إلغاء الحكم الصادر ضدهن (من دون أن نسمع ذكراً هذه المرة للطبيب الفلسطيني الذي ليس له اتحاد أوروبي) من بعد زيارة (مفوضة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي) بينيتا فيريرو والدنر المفاجئة إلى ليبيا في 25 مايو الماضي، واستقبالها من قبل (الزعيم الليبي) معمر القذافي، ومطالبتها له بإعادة النظر في حكم الإعدام على الممرضات البلغاريات الخمس، داعية إلى الإفراج عنهم "بأسرع وقت ممكن"، وتلتها زيارة (الرئيس البلغاري) جورجي بارفانوف لليبيا في 27 و27 من مايو الماضي، ومطالبته العقيد القذافي بالإفراج عنهم. <BR><BR>القذافي بما توافر عليه من حساسية مبكرة للأخطار أجل قبل شهور استئناف المحاكمة لعدة أشهر كحل تمهيدي بدت ملامحه تظهر بعد القرار القضائي الليبي "المستقل" للتوافق مع الاتحاد الأوروبي الذي اعتبر هذه المشكلة مسألة أوروبية ليس يمنع من تصعيدها شيء طالما تظل أهداب الاستشعار السياسية موجودة وتنذر بعواقب وخيمة في حال استمرت ليبيا على عنادها في مسألة إعدام رعايا هذه الدولة التي يبلغ تعدادها 6 ملايين نسمة وتكاد تخلو من أي أهمية سياسية تستدعي هلعاً ليبياً منها. <BR>الجريمة قطعاً في حال ثبوتها شديدة البشاعة ولا تحتاج للعفو عن مجرميها أي قدر من الشفقة والحماسة وإنما قدراً من "عفو الشجعان" الذي يماثل "سلام الشجعان" في وهدته. <BR><BR>على أية حال؛ فإنه يبقى لليبيين بعض الأمل في أن تأخذ العدالة مجراها على هذا النحو المتأني الذي يراجع الأدلة عدة مرات ويقلبها على كل الوجوه ليجد منها ما يفسر لصالح المتهم الذي هو برئ حتى تثبت إدانته، تماماً مثل الأبرياء الذين ينظر لهم نظام العقيد على أنهم "زنادقة" حتى يثبت إسلامهم ووطنيتهم في سجونه من المعارضتين الإسلامية والليبرالية. <BR><BR>وهذه العدالة هي التي جعلت النظام الليبي ينتبه إلى أن ثمة معتقلين قد نساهم في سجونه منذ تم اعتقالهم في يونيو م1998 - وجل من لا يسهو سبحانه وتعالى - وأنهم بحاجة لأن يروا النور؛ فهم لم تتم محاكمتهم؛ لأن مشاغل القضاة في ليبيا التي لا تتجاوز 6 ملايين نسمة كبيرة أو لأن الشيطان قد أنساهم ذكر ربهم فلبث الإخوان في السجن بضع سنين. <BR><BR>قبل شهور مضت، وعلى هامش مؤتمر قناة البحرين "الإسرائيلية" (دافوس) في عمان، وعد سيف الإسلام القذافي بأن يفرج عن الإخوان قريباً وسائر المعتقلين السياسيين الذين لم يثبت بحقهم جرم، وأعلن عن أمله في انخراطهم في المنظومة السياسية الليبية المسماة باللجان الشعبية، أو بمعنى آخر غير مسموح للإخوان بتشكيل حزب أو كيان مستقل لهم، وعليهم أن يفيدوا من هذا الهامش.. لكن العقيد وابنه عادا إلى نسيانهما الذي لم تفلح تظاهرات العرب بلندن في تذكيرهما بمأساة المعتقلين، سيما وأن النظام الليبي يضع تظاهرات أهالي الأطفال المكلومين بفلذات أكبادهم في نفس الخانة التي يضع بها تظاهرات المعارضة الليبية في الخارج، كلاتاهما في دائرة انعدام الاكتراث، ذاك الاكتراث الذي لا يتحقق إلا بعد أن ترصد أدوات الاستشعار خطراً أمريكياً أو أوربياً يتطلب "مراعاة للظرف الذي تمر به البلاد" و" الأخذ بالاعتبار المرحلة الدقيقة التي تمر بها الأمة الليبية"!! <BR><BR>هذا الظرف وهذا الخطر لم يبد أنه لائح في الطريق طالما ابتعد الأوروبيون والأمريكيون عن منطقة حقوق الإنسان ومنح الليبيين قدراً لائقاً من الحرية، وطالما بقي القهر الليبي من دون إدانة أو ممانعة دولية. <BR>وريثما يكون ذلك، ستغدو آذان النظام الليبي صماء عن سماع أنين المعتقلين في سجونه ما لم يختلط بصراخ البلغاريات النافذات - رغم هوان دولتهن على العالم إلا على ليبيا - وسيظل "العدل" الليبي في شأن المعارضة السياسية الأسيرة بطيئاً مثلما هو بطئ في قضية البلغاريات الواضحة. <BR><BR>مع ذلك؛ فهذا البطء لم يسهم في تقليل سرعة العربة الليبية السائرة باتجاه القطب الأوحد، وإنما الذي أبطأ العربة هو تشنجات الاتحاد الأوربي الذي نشط من عقال ليدافع عن البلغاريات من دون أن يسعى حتى لمحاولة منح النظام الليبي العاجز طبياً - وسياسياً أيضاً - عن توفير الدواء لأطفاله باعتباره نظاماً يدير دولة نفطية غنية فقيرة!! ومن قبل أبطأها ما أبدته وزارة الخارجية الأميركية قبل ستة أشهر من قلقها إزاء قضية الإيدز والأطفال في الفاتح من شهر يونيو الماضي، معتبرة قضية الممرضات "مصدر قلق كبير"، مثلما جاء حينها على لسان (الناطق باسم الخارجية) ريتشارد باوتشر بـ"أن القضية شابها العديد من المخالفات".. <BR><BR>وخلاصة القول: إن هذا التريث في موضوع الإيدز يعكس خوفاً من أن تتحول القضية - وهي قد تحولت الآن بالفعل - إلى تكأة لممارسة الضغط على ليبيا مجدداً بدعوى قسوة الحكم الليبي، فيما يعكس التريث في موضوع الإفراج عن الإخوان المسلمين محاولة للإبقاء على المعارضة في مكانها الليبي الطبيعي، خلف الأسوار، لاستمزاج وجهة النظر الأمريكية حيالهم ومن ثم الانصياع لها حتى لو كان هؤلاء في عرف "أمين القومية العربية" زنادقة مثلما وصفهم غير مرة في أيام العز الثوري. <BR><BR>والزنادقة في الشريعة الإسلامية كما هو معلوم هم أولئك المرتدون عن الإسلام الذين يكررون إتيانهم بموجبات الكفر أو يسبون الرسول...إلخ ثم لا يستتابون أي لا تنفعهم التوبة عند الوالي ولا يطالبهم بها قبل قتلهم. <BR>فهذه الزندقة التي لا توبة لها عند العقيد يبدو أنه قد وجد لها مخرجاً في حال واحدة، حين يتوب الأمريكيون عنهم أو يطالبون الأنظمة بإشراكهم في اللعبة السياسية، وثَم فقط تنفعهم توبتهم عند الأمين، أمين القومية... العربية!!<BR><br>