الفلوجة.. تلعفر.. القائم... ثم دمشق!
7 رمضان 1426

لم يجد كاتب افتتاحية إحدى أعرق الصحف العربية كلمات يصف بها الوضع غير الإنساني الذي آلت إليه مدينة القائم في العراق سوى قوله بأن ما يقع لا يعدو أن يكون مجرد حلقة من حلقات العنف المستمر في هذا البلد، والتي لن تؤدي في الأخير سوى إلى تعطيل عملية التنمية.<BR><BR>لن نحاول هنا الاسترسال وراء هذا الرأي المتروك فمجرد تذكيرنا صاحبه بأن بلداننا الأخرى، والتي تعرف في معظمها استقرارا كبيرا، لا تسجل التنمية فيها سوى أرقام يجدر بنا إهمالها سيكون ردا كفيلا بأن يجعل قلق هذا المسكين على مستقبل التنمية مجرد هروب من تفسيرات أكثر شجاعة مما كتب بمعنى أن مراده لن يتحقق بمجرد توقف "حلقات العنف المستمر" ولكن الحالة الراهنة تستلزم منا الوقوف بعض الوقت أمام مثل هذا الرأي الذي كثر كثيرا في الفترة الأخيرة والذي يحرص أصحابه، أيما حرص، على تبسيط الأمور وجعلها مجرد "عنف" لا يمت لأطماع استعمارية كبرى قد ترهن مستقبل أجيال كثيرة وما إلى ذلك من الكتابات التي بمقدورنا أن نضعها تحت إطار واحد يجمعها ثم نضع له عنوانا على شاكلة: "خطاب هجاء المقاومة".<BR><BR>إن العراق الجريح تتراوح عليه مصائب تنسي آخرها أولاها ولا يكاد المرء يفقه ما الذي وقع في إحدى مدنه، حتى تفاجئه تلفزيونات العالم بصور فظائع جديدة تتحدى مشاعر الأمة بأجمعها وتحول حلماً مشروعاً يراود كل أهل تلك البلاد الطيبة إلى كوابيس لا تنقطع حلقات سلاسلها منذ أعلن رسميا عن انتهاء العمليات العسكرية الأمريكية هناك، والتي كنا نظنها فعلاً إيذاناً بقرب نهاية ليل الاستبداد الطويل.<BR>ما زالت صور الفلوجة ماثلة بين أعيننا ولكن الحقيقة التي تجلت بعد ذلك مع الأسف أن تلك الصور التي أثارت كل الشرفاء في العالم، لم تكن سوى مجرد تقديم لسيناريوهات سوف تطال كل القلاع التي يعز على أهلها القبول بمبدأ الإذعان للأجنبي المحتل ولعل الصور الأخيرة التي تناقلها وكالات الأنباء العالمية عن تلك العمليات في مدينة تلعفر لخير دليل على مدى فداحة الخطب ومبلغ الحقد الذي استشرى في نفوس أولئك الذين يتولون تنظيم عملية إزاحتها من الوجود بمحو كل آثار الحياة فضلا عن المقاومة فيها.<BR><BR>لا يحتاج المرء إلى عظيم فطنة ليدرك أن عملية "القبضة الحديدية" -وهذا هو الاسم الذي أطلق على عملية تدمير القائم- لا تهدف في حقيقتها سوى لأمرين جوهريين:<BR>الأول: لفت أنظار وسائل الإعلام الأمريكية لبعض الوقت عن مشكلات الولايات المتحدة الداخلية والتي تولت الأعاصير تعريتها وفضحها.<BR>الثاني: توجيه رسالة بالغة الوضوح إلى سوريا تحديدا من خلال التركيز على الادعاء بأن هذه الأخيرة هي حظيرة "الإرهابيين" بما يعني أن العمليات القادمة قد تستلزم ملاحقة هؤلاء إلى ما وراء الحدود والتي لن تكون بكل تأكيد غير تلك التي تفصلها العراق.<BR>إن الحملة العالمية في الأيام الأخيرة عن فرضية امتلاك المقاومين العراقيين -يقصد بهم هنا طبعاً أعضاء تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين بما أن الأمريكان يضعون الكل في سلة واحدة- لأسلحة ذات قدرات تدمير استراتيجي كالقنابل الكيماوية وكل تلكم الأسماء التي صرنا نسمع كثيراً عنها مؤخراً لا تعني غير حملة إعلامية مألوفة عن نشاط تحضير نفساني قصد تبرير ما سوف يُلجأ له لاحقاً.<BR><BR>أعترف أنني دهشت خلال الشهر الماضي وأنا ألحظ التزامن الغريب في حديث عدد من الصحف في فرنسا، بريطانيا، إيطاليا وأمريكا -بطبيعة الحال- عن حصول أسامة بن لادن على أسلحة نووية ذات تأثير محدود. إن الأمر هنا ليس مجرد مصادفة مثلما نتسرع دائماً في تفسيرنا للأمور، بل إن الحقيقة أعمق من هذا ولا تعني سوى أن الأمريكان قد لا يتورعون مستقبلا عن استعمال أسلحة غير تقليدية لأجل تصفية حساباتهم مع هذه المدينة التي ما زالت مع غيرها من المدن الصامدة، تقف في وجه اكتمال عملية "تحرير العراق" ولا ينبغي أن نستبعد من أذهاننا مثل هذه الحلول إذ ليس من عادة المحتلين أن يفرقوا بين المقاومين وأُسرهم وسنكون سذجا بامتياز لو توقعنا أن القاعدة تملك مثل هذه القدرات لسبب بسيط مفاده أنها ستصير وقتها من غير المغضوب عليهم.<BR><BR>إن الذي يجعل الجرح أكثر عمقاً في الواقع هو تلك الوقاحة المقيتة التي تجعل من الحكومة التي صنعها الاحتلال ويجبر العالم على الاعتراف بها هو أنها صارت لا تكتفي بمجرد المساهمة العملية في هذه المحرقة الإنسانية، بل تتجاوزها إلى الزئير بأن هذا الأتون الملتهب هو جزء من مخطط شامل سوف يطال مدنا أخرى كسامراء وراوى وغيرهما، والهدف الواضح منه هو تكريس حقيقة موازين القوى التي تغيرت معالمها منذ اندحار حزب البعث قبل أكثر من عامين من غير أن ننسى التأكيد على أن نظام صدام حسين لم يكن ذا مرجعية سنية فهو لم يكن في الحقيقة سوى خلط هجين من انتماءات أيديولوجية لا تمت إلى الترابطات الدينية ولا المذهبية بصلة وهذا ما يمكننا الوصول إليه من خلال تحليل التركيبة البشرية لقيادات النظام البعثي ولكن كل هذا مع الأسف هو حقائق تتغاضى الكتابات عنها عمدا بسبب أن الأمريكان لا يريدون تفسيرا غير هذا التفسير.<BR><BR>لا ينبغي السقوط تحت تأثير الأبواق التي تردد كلاماً يجري إعداده في مراكز ليست بالضرورة فوق أرض العراق؛ لأن الحقيقة أن الاختلافات المذهبية لم تكن يوماً مشكلة بين أهل العراق، وأعترف شخصياً أنني تعجبت حينما عرفت بأن الشيعة في تلعفر يشكلون ما يقارب الثلاثين في المئة من مجموع السكان بما أنني كنت فيما مضى أظن أنها مدينة سنية بالكامل، وهذا لا يعبر سوى عن مدى التعايش الحضاري الراقي الذي ساد بين ساكنيها قبل أن تتدخل معاول الفرقة والشقاق بينهم.<BR><BR>إن الذين يؤكدون على وقوف الحقد المذهبي وحده وراء ما يقع في القائم في الواقع هم أناس لا يدركون ما الذي يمكنهم أن يجروه على هذه البلاد فمحاولات التقسيم الفعلي قائمة وجاهزة ولا ينبغي السقوط في فخ النزاع بين المذاهب لأن التمعن في الجيش العراقي الذي أوجدته قوات الاحتلال يجعلنا ندرك أنه مشكَّل في غالبيته فعلا من الشيعة والأكراد ومن هنا يحق لنا التساؤل عما يعنيه وجود هؤلاء الأكراد وسط كل هذا ما دام الأمر مذهبياً صرفاً؟ إننا نساير أطروحات تجر على العراق مبدأ التقسيم وسنكون من غير أن نشعر وسيلة دعائية في هذا الاتجاه. إنني لا أريد أن أنفي حقيقة راسخة بأن بعض العناصر تحركهم الضغائن المذهبية وتحركهم دول أخرى تملك مخططات نفوذ مستقبلية هناك ولكنني لا أريد أن أقع في التعميم الذي جعل من الزرقاوي، بفعل عدم اكتراثه بالتفريق بين المقاتلين والمغلوبين على أمرهم، يخدم مخططات لا أشك لحظة في أنها تتلقى تعليماتها من إسرائيل التي لا يحرص على أمر تقسيم العراق في كامل المنطقة أحد حرصها.<BR><BR>إنه لمن غير المعقول أن يتعايش هؤلاء الفرقاء المذهبيون لقرون كاملة ثم يحدث أن يقع بينهم، هكذا فجأة، ما يجعلهم يتناحرون. إن اللعبة واضحة ولا يعجز عن إدراكها سوى مكابر لا يرضى بغير العالم الجديد قبلة وملجأ.<BR>أعود وأقول: إن التواطؤ بين حكومة الاحتلال وحكوماتنا القائمة لا يختلف كثيراً عن بعضه والكل بالمناسبة أيضاً يخدم مصالح أمريكية واضحة فربما كانت الصدفة وحدها هي من جعلت من هؤلاء الذين يقال بأنهم يمثلون حكومة بغداد يتولون أمر القيام بأداء أدوار العمالة الأكثر نذالة من غيرهم.<BR> لقد ساقني هول ما كنت أراه على الفضائيات من الصور القادمة من تلك المدينة الشهيدة ولقد ساقني حب رؤية ما قد يشفي الغليل من الكتابات فبحثت في كل الصحف العربية غير أنني لم أجد سوى تلميحات بعيدة عن الأمر -إلا من رحم ربي- حتى لكأن المرء يتخيل بأن تورنتو التي يقال بأن مرضا غريبا حط بها، أقرب إلينا من العراق أو هكذا ظننت، زيادة على أنني لم ألحظ كتابنا الميامين سوى تحليل وإعادة تحليل ثم محاولة تركيب ما قد حلل عن "كاترينا" ولم يجرؤ أي منهم على القول بأن هنالك إعصار آخر من صنع الإنسان يعصف في الوقت الحالي بمدينة القائم على الرغم من أن هذه "النخبة" تدعي أنها صانعة الرأي العام في بلادنا حتى وإن كنت من الذين لا يعترفون بوجود هذا "الرأي العام" أصلاً بالمعنى الغربي على الأقل.<BR><BR>على أية حال، إن الأمريكيين ليسوا في مرمى أقلام تجيد تبسيط الأمور الجدية وهم في الواقع، حتى وإن تعارضت مصالحنا معهم، أكبر بكثير من أن يقعوا تحت وطأة مغامرات تهدف إلى إلهائهم عن الحقائق الراسخة التي تتراءى لهم. لقد كتب محرر جريدة الواشنطن بوست قبل مدة في عموده: "لقد انتهى عصر الرئيس بوش، إن عليه أن يفهم أنه كان محظوظاً في أيلول/سبتمبر 2001م؛ لأننا نحن الشعب الأمريكي كنا معه، ولكننا مع الأسف لم نكن محظوظين؛ لأنه كان هو قائدنا"، فليستعد صناع الرأي العام عندنا إلى مساندة القادم الجديد.<BR><BR><br>