المصير المرتقب بعد قرنق
27 جمادى الثانية 1426
إبراهيم الأزرق

لقد كان المستشرفون لمستقبل السودان حال وجود قرنق لا يرون في الآفاق غير ضباب يحجب ما وراءه، فيلجؤون إلى تكهنات تمليها الظواهر التي تُعرض في مسرح الساسة، والله أعلم بما في جُعُبَاتهم!<BR>ولعل المراقبين ما بين طرفين أحدهما يتوقع مستقبل سودان واحد، يريده البعض علمانياً كالحاً، وآخرون إسلامياً تعددياً متعايشاً، وعلى الطرف الآخر أناس يرون أن المآل إلى انقسام، وبعدها لن يرفل الشمال في سلام ولن تستسلم فيه الأحزاب إلى حكم الإسلام.<BR>والحقيقة الماثلة اليوم هي أن الذي فرض نفسه ممثلاً للجنوب، واختارت الإدارة الأمريكية دعمه لاعن عبث قد قضى وانتهى، بَيْدَ أنَّ خلافه مع بقية فصائل الجنوبيين المحاربة – ولاسيما من غير أبناء قبيلته الدينكا- لم ينته.. <BR>فهل في بقايا الحركة الشعبية سياسيون محنكون يحسنون إدارة الخلاف مع فصائل الجنوب الأخرى من جهة، ومع الشمال من جهة ثانية؟ بل هل فيهم من يستطيع أن يحكم قبضته على الحركة رغم التفلت الذي نجح في احتوائه أو التعامل معه قرنق؟<BR><BR>الواقع يقول: خلال بضع وعشرين عاماً من الحرب لم يثبت هناك إلاّ جون قرنق. <BR>ولك أن تتساءل كيف بقي الدكتور قرنق رئيساً لحركة يفترض أنها ديمقراطية شعبية قرابة ربع القرن!<BR>ربما كان نفوذ قبائل الدينكا وجموعهم الأكثرية من بين القبائل الجنوبية، سبباً مسوِّغا لأن يكون زعيم الحركة منهم، ولكنه لا يسوغ بقاءه في المنصب -من بين ملايين الدينكا- لبضع وعشرين عاماً وفقاً لحسابات الديمقراطية على الأقل، فكيف وقد تناقلت الأنباء قديماً أخبار تصفيات في الحركة لبعض المتذمرين، مع غياب شخصيات بارزة بصورة مفاجأة، وكذلك الانسلاخات والانقسامات المتعددة في كيان الحركة.<BR>وكل ذلك قد يشعر بنوع اضطراب ساعد على ضبطه من اختارته بعض الإدارات الغربية نظراً لحنكته وما جمعه من ميزات.<BR>أما على النطاق الجنوبي خارج الحركة فلم يصفُ لقرنق جو الجنوب، بل ظلت فصائل مقاتلة من قبائل جنوبية أخرى كالنوير –ثاني أكبر قبيلة بعد الدينكا- والشلك –ثالث أكبر قبيلة جنوبية- خارج السيطرة، تجمعها مع الحركة الشعبية المصلحة، وكذلك تفرقها، وهذا ما حصل بعد اتفاق السلام. وقد اهتزت الحركة الشعبية بقيادة قرنق هزات عنيفة في المدة ما بين 1990 و1995م عندما انفصل رياك مشار وهو من أبناء قبيلة النوير، ولام أكول -من قبيلة الشلك- وعرف هؤلاء المنشقون باسم حركة الناصر، وقد تركوا لقرنق الحركة الشعبية التي أصبحت تهيمن عليها قبيلة الدينكا في أسوأ حالاتها إثر الحملات العسكرية التي شنتها الحكومة باسم صيف العبور وبقيادة أحد أبرز قواد مجلس ثورة الإنقاذ الرائد -إذ ذاك- إبراهيم شمس الدين، والذي نجح بمساندة قوات الدفاع الشعبي في إجبار قرنق على الإنزواء من جبال النوبة في جنوب منطقة غرب السودان، إلى شريط حدودي ضيق بين السودان وكل من كينيا وأوغندا. <BR>وما كانت لتستمر الحركة الشعبية –في تقدير مراقبين- لو لا الدعم والتثبيت الأمريكي الذي لا تروقه له الدولة الإسلامية الجديدة إذ ذاك بقيادة الترابي والبشير، ولا تروق له أطروحات الانفصاليين الداعين لإقامة دولة جنوبية كرياك مشار ولام أكول المنسلخين عن حركة قرنق كما نادوا بذلك في مؤتمرهم الأول عام 1991م بمدينة الناصر، فناسب حينها أن تدعم أمريكا ابنها الذي تخرج في جامعاتها، وشهد دورات تدريبية عسكرية فيها، وكان ذلك الابن هو الدكتور جون قرنق.<BR>فقد انضم جون قرنق منذ الستينيات إلى حركة جوزيف لاغو مؤسس (الأنيانيا) جبهة تحرير الجنوب، وكان قرنق أول أمره رقيباً ثم عين مساعداً لزعيم الحركة، وبعد الاتفاق بين الأنيانيا وحكومة جعفر نميري انضم قرنق عام 1972م إلى صفوف الجيش السوداني برتبة نقيب وسافر إلى أميركا للدراسة والتدريب، وما إن رجع عام 1981م حتى عين عقيداً في الجيش السوداني.. والشاهد أن جون قرنق عرفه الأمريكان وعرفوه، تخرج من جامعاتهم وتلقى الدورات العسكرية التدريبية عندهم في عهد النميري، فأهله ذلك بعد عندما رأت الحكومة الأمريكية خطر وجود حكومة أصولية في المنطقة إلى أن يتولى تحقيق أهدافها الجديدة والملخصة في سودان علماني كبير وجديد يخدم الأهداف الأمريكية وتبعاً لها الصهيونية، فدخل هذا الهدف على حركات التمرد منذ ذلك التاريخ وإلاّ فلم يعهد في الحركات المتمردة القديمة، والتي انضم إليها قرنق مطالب سوى الانفصال، وبطبيعة الحال لا يقر قادة الجنوب بدءاً من جوزيف لاغو صاحب أول حركة تمرد انفصالية بأنهم انفصاليون، بل يحتجون بأنهم لم يظفروا بحكم ذاتي فيدرالي يخلص أبناء الجنوب من الفقر والضنك وسوء الحال بسبب استئثار الشمال بالثروة والسلطة لهذا اضطروا للمطالبة بالانفصال، وربما كانوا على قناعة بذلك حقاً، ولهذا لما تبنى قرنق الهدف الأمريكي جاء انشقاق رياك مشار ولام أكول وفصيليهما الداعي لانفصال الجنوب وتلك هي الدعوة التقليدية للحركات المتمردة التي لاتثق في فيدرالية تديرها حكومة شمالية، ولو كان مراد الحركات المتمردة في الجنوب حقيقة مجرد حكم فيدرالي عادل لما أصبح لاعتراض فصائلها على الاتفاقية الأخيرة كبير معنى، بل لما أصبح لحرص الحركة الشعبية على تقرير المصير معنى بعد تقسيم السلطة والثروة، ولكن وراء الأكمة ما وراءها بسبب الاعتبارات الأيدلوجية والنعرات العرقية التي لم يسلم منها الجنوبيون أنفسهم.<BR><BR>ولئن لم يكن قرنق محل إجماع تلك الفصائل فلا أظن أن دينكاوياً آخراً من الحركة الشعبية سوف يكون محل إجماعها، بل لو ظفر أحد أبناء الحركة الشعبية بإجماع الحركة الشعبية وحدها فحسن. ولايستغرب هذا في ظل حركة عرف تاريخها انشقاق كاربينو كوانيين الدينكاوي عن حليفه وزميل دربه منذ نشأته وابن قبيلته قرنق، عندما شكل الأول الحركة الشعبية مجموعة منطقة بحر الغزال عام 1992م ثم تقلبت به الأحوال حتى قتل عام 99م وسط اتهامات جنوبية متبادلة بتصفيته.<BR>ولعل الناظر فيما سبق يخلص إلى أن الخيار الأمثل الذي سوف يدعم في المنطقة من قبل الغرب هو خيار الوحدة، وحدة يجتمع فيها من ينادي بفصل الدين عن الدولة من الأحزاب الشمالية والجنوبية لفرض رؤيتهم في الشمال والجنوب، ولهذا فإن المتوقع أن تدعم أمريكا رئيس الحركة الجديدة وتحاول أن تلعب به دور قرنق.<BR>فقد كان قرنق مرشحاً جيداً لإقامة دولة جنوبية موحدة بشيء من الدعم الغربي في حال ما إذا عجز عن إقامة دولة السودان الجديد كما تريد الحركة الشعبية، ولاسيما أن موقعه كنائب أول لدولة السودان، وانتشار جنده في الجنوب، مع حُمّى دعم التنمية في الجنوب كفيل بتوفير سيل مالي جيد سوف يسهل خلال الفترة الانتقالية بسط هيمنة الحركة الشعبية هناك، ومع ذلك كان قرنق من الذكاء بحيث لم يقطع طريق المفاوضات السياسية مع مخالفيه من أبناء النوير والشلك بل إن موته جاء إثر مغازلته لقواد الفصائل بعيون الساسة. <BR>وإذا كان الأمر كذلك فعندها لن يكون فصل الجنوب بالخيار السيئ لقرنق ولا للغرب، فمصالح الجميع سوف تتحقق بالسيطرة على الموارد المائية والنفطية والبيئية الغنية في الجنوب، وأما الشمال فلن يكون إخضاعه أمراً عسيراً إذا دعمت اضطرابات دولة (السودان العربي الصغير) في الشرق والغرب والجنوب المتنازع عليه مع الدولة الجديدة، مع خنقه من جهة الشمال بتهديد مصر مائياً بنحو مشروع سد جونقلى، بالإضافة إلى رفد الأطراف التي قد تخدم المصالح الغربية بعد، ولهذا كانت قضية تقرير المصير التي ابتكرها البنتاقون وجاءت على لسان السيناتور الأميركي هاري جون ستون عندما جمع كل القوى الجنوبية في واشنطن عام 1993 فكرة عبقرية توفق بين جميع فصائل الجنوب، وتخدم المشروع الأمريكي.<BR>وبهذا يكون مشروع السودان الجديد قد قسم إلى مرحلتين ليس إلاّ، غير أن وجود قرنق ربما اختصر المسافة فحقق مشروعه في مرحلة واحدة، وفي أسوأ الأحوال يمهد إلى تحقيقه عبر مرحلتين.<BR>وقد جاء الدستور الجديد فاتحاً الباب على مصراعيه لاحتمال الانفصال ممهداً له بنظامه الشبيه بالنظام الكنفدرالي بين الشمال والجنوب حسب ما جاء في وصف الدستور للامركزية نظام الحكم والتي تقضي بنيل الجنوب لحكم ذاتي مستقل فإذا جمعت هذا لازدواجية بعض مواد الدستور أشبه أن يكون نظام الجنوب دولة مستقلة بدستورها متحدة مع حكومة الشمال، وبالإضافة إلى ما فتحه الدستور الجديد فلا يملك أحد ضمانات تكفل الوحدة غير وعود ساسة الحركة الشعبية –فقط من بين فصائل الجنوب- ونواياهم الطيبة! بالعمل لأجل الوحدة كما جاء في اتفاقيات السلام.<BR>أما الآن –بعد وفاة قرنق- فالإجماع في الجنوب ربما أضحى بعيداً، بل الإجماع داخل الحركة الشعبية نفسها قد يصبح محل شك، وبالتالي فإن إقامة دولة مستقرة في الجنوب ترعى المصالح الغربية ابتعد عن المنال شيئاً ما. <BR>وليس ذلك لأن سيلفا كير (النائب الحالي لقرنق، والرئيس المرتقب) للحركة لا يؤمن بتكوين حكومة كنفدرالية في الولاية الجنوبية بالتشاور مع القوى السياسية الجنوبية الأخرى هادفة لتحقيق التزامها بالمصالحة وبالوحدة الوطنية، بل إن العبارات السالفة التزم بها سيلفا كير في نص اتفاقية شقدوم التي وقعها عن الحركة مع حزب الأمة في عام 1994م، ولكن لأن تلك مهمة شاقة تتطلب وجود سياسي محنك كقرنق لا مجرد عسكري بارع.<BR>يتأكد هذا إذا تذكرنا أن تجربة الحكم الذاتي لجنوب السودان لم تكن بنت اليوم أو وليدة اتفاقية السلام الحالية، فقد نال الجنوب في عهد النميري حكماً ذاتياً بعد اتفاق السلام الذي وقع في أديس أبابا عام 1972مع الأنيانيا، تحت رعاية الإمبراطور "هيلا سيلاسي" فكان ماذا؟<BR>تنافس على رئاسة إقليم الجنوب –وكان إذ ذاك إقليماً واحداً- الدينكاوي أبل ألير والذي كان في جهة حكومة النميري نائباً له، مع كليمنت مبورو المرشح من قبل قائد حركة الأنيانيا الإستوائي جوزيف لاغو، ففاز بها الأول عام 1972م، فكان ألير أول جنوبي يتولى رئاسة المجلس التنفيذي الأعلى لإقليم الجنوب، ثم بعد ست سنوات عام 1978م تمكن خصمه اللدود جوزيف لاغو من إزاحته وأخذ مكانه في بادرة وصفت بأنها غير دستورية.<BR>وبعد كر وفر فلت المنصب من يد جوزيف إلى غسمالا رساس ثم استحوذه ألير مرة أخرى، عندها قامت حكومة النميري عام 1983م بتقسيم الجنوب الذي كان إقليماً واحداً إلى ثلاثة أقاليم هي: أعالي النيل، وبحر الغزال، والاستوائية، تلبية لرغبة جوزيف لاغو الذي رفض استبداد الدينكا بالجنوب كله، ولاشك أن وجود ثلاث دويلات جنوبية بينها ما صنع الحداد لن يخدم الهدف الأمريكي كثيراً، ولم يبدو في السطح بعد رجل تشير أصابع القدرة إلى احتمال احتوائه لجنوب موحد متماسك، فلم يبق إلاّ الحرص على وحدة سودان تلتقي فيه الأحزاب غير الإسلامية في الشمال والجنوب لتتربع على منصة الحكم في الخرطوم وبعدها يمكن أن يطمئن الجنوبيون لحكم فيدرالي عادل طالما كان الجنوب مقسماً إلى ثلاث فيدراليات.<BR>والخيار الآخر هو عودة الفصائل الجنوبية إلى غابات التمرد مرة أخرى، وخلفها الراعي الغربي لتُظهر السنوات وتتمخض التصفيات عن ظهور قيادة جديدة جديرة بالدعم الغربي، وجديرة بتحقيق أهدافه. وربما رأى الراعي الغربي أهمية الدخول في الميدان بنفسه، فبحث عن فرصة تتيح له التدخل بحجة إنقاذ الشرق أو الغرب أو الجنوب، أو العالم! كما تدخل في حالة صدام.<BR>ولعل الحكومة السودانية لو أحسنت التعامل مع هذه الفرصة فكرست الجهود نحو اتفاق الإسلاميين أياً كانوا، على حد أدنى من التعاون أو التنسيق بحيث يكفل بقاءهم ضمن قائمة موحدة، مع ائتلاف من يمكن ائتلافه من المعارضين الذين تلتقي معهم في بعض المصالح، بالإضافة إلى حسن السياسة والتدبير في التعامل مع المتذمرين، لاحتواء مشاكل الغرب والشرق بل والجنوب، فلعل ذلك يخرج بالسودان ذو الأكثرية المسلمة الناطقة بالعربية إلى بر الأمان. <BR>والسؤال الذي يطرح نفسه: هل الساسة السودانيون وكذا الإسلاميون بحجم التحدي؟ <BR>من يعش يـر والأيـام مقبـلة يلوح للمرء في أحداثها العجب!<BR><BR><br>