هل تطيح دماء الحريري بالسلطة اللبنانية؟
18 محرم 1426

عكس مشهد تشييع جثمان (رئيس الوزراء اللبناني) رفيق الحريري في قلب بيروت، الذي ضم مختلف التيارات السياسية المعارضة، الأضواء على ما سينجم عن غيابه من تداعيات وتعقيدات في ما يتعلق بالوضع السياسي اللبناني.<BR>ربما كان مشهوداً لدى الكثيرين منذ زمن أن الحريري كان زعيماً لبنانياً اخترق قاعدة الزعامة في لبنان، التي منشؤها إما عراقة في البيت ممتدة إلى قرون عدة، أو ارتقاء على ظهر طائفة في لحظة معينة أو اتكاء على جهد استثنائي لحزب.<BR>فالحريري الذي احتاج تغييبه عن الواجهة لأكثر من 300 كيلو غرام من المتفجرات، كان دخوله الرسمي والمعلن إلى عالم الحكم في لبنان، في خريف عام 1992م، من باب الرئاسة الثانية، علامة إيجاب بشرت بقرب النهوض اللبناني. بعد سنوات الحرب العجاف ولكن ثمة من يخشى أن يكون تغييبه المدوي على هذا النحو وفي هذه اللحظة المعقدة في العالم والمنطقة علامة سلب، ربما فتحت الباب أمام تداعي ما بني وتكرس واستقر خلال الأعوام الأربعة عشر الماضية من بنى سياسية واقتصادية واجتماعية، جعلت الكثيرين يباهون بها كبرهان على قدرة الإنسان اللبناني على نقض آثار الحرب عن جناحيه والانبعاث من جديد في سرعة قياسية.<BR>فإن غياب الحريري ليس غياب رجل سياسي بمقاييس عادية، ولحظة تغييبه ليست لحظة طبيعية ممتدة في سياق طبيعي، بمعنى آخر، يخرج الحريري من دائرة الحياة كلياً. في لحظة يعاد فيها صوغ لبنان والمنطقة من جديد، كما كان دخوله إلى دائرة الحكم في لحظة كان يعاد فيها تركيب لبنان في ضوء اتفاق الطائف.<BR>فلم يعد جديداً القول: إن الحريري ارتقى إلى سدة الحكم في ساعة توافق سوري - عربي - أمريكي، كان أبرز تجلياتها اتفاق الطائف الذي وضع حداً لاقتتال أهلي لبناني متوالي الفصول والأشكال استمر نحو 17 عاماً.<BR>قبل مجيئه إلى رئاسة الحكومة بنحو أربعة أشهر، كاد الوضع اللبناني، يعود إلى بؤرة الانفلات والعنف، حيث تدهورت الأوضاع الاقتصادية إلى درجة كبرى وانهارت قيمة العملة الوطنية، حتى اضطر الناس إلى احتلال الشارع مهددين بحرق العاصمة كلها. يومها أسقطت الحكومة التي كان يرأسها حينذاك، وللمفارقة الرئيس عمر كرامي، ووعد الناس بقرب وصول الحريري إلى الحكم ولكن بعد مدة انتقالية قصيرة وهذا ما حصل، فبعد حكومة مؤقتة برئاسة رشيد الصلح، وبعد أول انتخابات نيابية عامة منذ عام 1972م، جاء الحريري إلى السلطة بصورة المنقذ للبلاد والمعيد لها مكانتها بين الدول العربية والأمم، خصوصاً أن شهرته كرجل أعمال قد سبقته. <BR>دخل الحريري إلى الحكم دخول "الفاتحين"، وعليه انعقدت الآمال والرهانات، وبه بعثت دورة حياة كاملة في شرايين الاقتصاد اللبناني التي كانت جافة، وفعل حضور الحريري فعله الكبير، فالثقة به كانت كافية لثبات مشهود للعملة الوطنية، من قبل أن يشرع بمشاريعه للإنماء والإعمار.<BR>أتى الحريري إلى الحكم، ولبنان قد خرج من حروب أنهكت قوى المتحاربين فيه، وفقدوا على التوالي داعميهم الخارجيين، لكنه خرج من الحياة بالأمس القريب، وقد اصطفت قوى البلاد صفين متقابلين يتبادلان التقاصف هذه المرة بمدفعية الكلام والتراشق برصاص الاتهامات، وفوق هذا المشهد سيف قرار دولي، يحمل الرقم 1559، شهر فوق رأس هذه البلاد عنوان إخراج سوريا كلية من لبنان، عسكريا، تمهيداً لإزالة حضورها سياسياً، أو على الأقل التمهيد لإذابة كل البنى السياسية التي راكمها هذا الحضور السوري. <BR>دخل الحريري الحكم، وكانت المعارضة لتركيبة الطائف وللحضور السوري أو هي ما تكون خصوصاً بعد حرب النصارى مع بعضهم (الجيش بقيادة عون والقوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع) وأخرج منه، والمعارضة هي الأعلى صوتاً وأكثر تنظيماً.<BR>وكانت تدعي أن الحريري هو في عدادها، وإن لم ينضم شخصياً إلى صفوفها، علما بأن المقربين للحريري كانوا يعدون أن الرجل بين بين، وإن كان قد مد جسوراً مع المعارضة عبر إيفاد بعض أعضاء فريق عمله إلى لقاءات هذه المعارضة، فإنه كان غير بعيد عن الموالاة، خصوصاً بعد إعلانه تكراراً أن سقفه السياسي هو اتفاق الطائف، وأنه لن يرضى عنه بديلاً ، وثمة من كان يرى أن الرجل يقف على مفترق طرق ينتظر ظروفاً ومعطيات لحسم موقفه، بالمقابل هناك من يعتقد أن الرجل هو رأس المعارضة وكبيرها، الذي يعطيها بعدها الوطني، وإنه إنما دخل طائعاً أو مكرهاً أبواب مشروع كبير صعب ومعقد يتصل بسياق التحضير لإعادة ترتيب أوضاع المنطقة، وذلك من خلال القول بأنه لم يكن بعيداً، بشكل أو بآخر، عن ظهور القرار 1559، والذي يجسد على الطبيعة جزءاً من التوجه الأمريكي لإعادة ترتيب أوضاع المنطقة بدعم فرنسي، خصوصاً بعد أحداث11 سبتمبر وسقوط نظام صدام حسين في العراق.<BR>وعليه يبني هؤلاء على هذا الاعتقاد، ليؤكدوا أن الحريري دخل في لعبة إخراج الجيش السوري من لبنان، أو إنهاء آثار الوكالة المعطاة سابقا منذ أكثر من عقد للنظام السوري لإدارة الشأن اللبناني. <BR>وعليه تصرف جمهور الحريري وكأنه لا يشك ولو طرفة عين، بأن من اغتال الرجل، هو غير سوريا، وقد تجلى ذلك في يوم تشييعه، حيث كانت كل الشعارات التي أطلقها المشيعون في لحظة غضبهم القصوى موجهة ضدة سوريا وضد أركان الحكم اللبناني.<BR>وهكذا كان غيابه وتشييعه لحظة إعلان حرب سياسية على سوريا والحكم اللبناني، وقد بدا هذا الحكم خلال الأيام القليلة الماضية بأنه مربكاً وعاجزاً عن درء الهجمة الشرسة عليه والمتأتية من المعارضة، ومن جمهور الحريري نفسه، وهذه كلها حالة نادرة تحصل في تاريخ السياسة اللبنانية المعاصرة، إذ للمرة الأولى تردد شوارع بيروت أصداء هتافات معادية لسوريا وما تمثله.<BR>والسؤال المطروح الآن بإلحاح: هل يصمد الحكم في لبنان، أمام الفراغ المدوي الذي أحدثه تغييب الحريري على هذا النحو؟ وهل يكون غيابه تغييب لكل التركيبة السياسية التي راكمت نفسها على مدى العقد ونصف العقد الماضي؟<BR>حتى الآن لا جواب حازماً أو قاطعاً في بيروت، لكن الأكيد أن السلطة هي الآن في أضعف محطات حضورها، وثمة في المعارضة وخارجها من يراهن على أن دم الحريري سيطيحها ولكن يوم الانتخابات النيابية.<BR><br>