ماذا بعد فشل أمريكا في استغلال "الدين" في دافوس ؟!
11 محرم 1426

اعتاد سكان مدينة دافوس السويسرية التي تستضيف كل عام في منتجع "دافوس" الشهير مؤتمر أغنى أغنياء العالم ليقرروا مصير العديد من الاستثمارات والنقاط الاقتصادية والسياسية الساخنة في العالم أن يروا مئات المشاهير والأغنياء يدلفون إلى قريتهم الصغيرة بهيئتهم وحاشيتهم وأزيائهم الباهظة الثمن ، ولكنهم فوجئوا منذ عام 2002م بتزايد وجود شيوخ بالجبة والقفطان وقساوسة بالزي الكهنوتي المعتاد ، وحاخامات بالطاقية إلى هودية الشهيرة يدخلون قريتهم !<BR>والسبب أن المنتدي الاقتصادي الشهير الذي يُعقد في هذه المدينة منذ قرابة 34 عاماً (بدايته عام 1971 ) بدأ – منذ هجمات 11 سبتمبر – يتحول بفعل الضغوط الأمريكية لبحث دور الدين بدل الاقتصاد – وخصوصاً الإسلام – في التأثير على القضايا الدولية ، وقضايا الحوار بين الأديان وتحديداً بين الإسلام والغرب في محاولة لفهم ما جري ومعرفة حقيقة ما جرى وهل الإسلام – كما يدعون - هو المحرك لهذه الهجمات ؟ <BR><BR>ولهذا تحولت منتديات أعوام 2001 و2002 و2003 و2004م من منتديات اقتصادية بحتة ولقاءات بين رجال الأعمال إلى منتديات دينية تناقش فيها على أوسع المستويات القضايا الدينية ، وتخصص جلسات بالكامل لبحث القضايا الدينية وتم الربط بخبث بين الإسلام والإرهاب ، وجري التوسع في هذا الحوار في المنتدى حول الدين ودعوة شيوخ من لجنة الحوار بين الأديان التابعة للأزهر الشريف منذ عام 2002م، بجانب قساوسة غربيين وشرقيين .<BR><BR>بل أن المنتدى جرى اختطافه بشكل علني لصالح الأمريكان رغم أنه منتدى أوروبي بالأساس ، وأصبح حضور كبار رجال إدارة بوش في المنتدى من نائب الرئيس "تشيني" حتى "باول" وزير الخارجية السابق ، أمراً عادياً ، ولأول مرة يقرر المنتدى – في يناير 2003 م– تشكيل "مجلس" يضم مئة شخصية، نصفها من الدول الغربية ونصفها من العالم الإسلامي بهدف إطلاق حوار حول نقاط التباين بين الغرب والإسلام.<BR> حيث أوضح بيان صدر عن المنتدى أن "مجلس المئة" (سي-100) يضم مئة شخصية موزعة بالتساوي على خمس قطاعات اجتماعية: خبراء، ورجال دين، ومسؤولون سياسيون، ومسؤولون إعلاميون، وجامعيون ومثقفون معروفون منهم الشيخ فوزي الزفزاف (وكيل الأزهر الأسبق، ورئيس لجنة الحوار بين الأديان بالأزهر) ، ونائبه د. على السمان .<BR><BR>أين ذهب الأمريكان ؟!<BR>والجديد هذا العام أن الحكومة الأمريكية غابت تماماً عن منتدى دافوس 2005م الذي عقد في المدة ما بين 26 و 30 يناير 2005 م ولم يشارك في المؤتمر أي مسؤول رسمي باستثناء غير الرسميين ، الأمر الذي يثير التساؤل عن سر هذا الغياب ، وهل هو راجع لانشغال إدارة بوش في تشكيل حكومة جديدة لمدة الولاية الثانية ، أم أنه يعني يأس واشنطن من استغلال "الدين" في التصدي لحالة العداء المستشرية في العالم العربي والإسلامي ضد سياساتها .<BR><BR>ويزيد الأمر غموضاً أن هذا الغياب الأمريكي عن دافوس - والذي تبعه تراجع مناقشات الدين والإرهاب في دافوس هذا العام- واكبه اتهامات واضحة من محللين وخبراء أمريكان لإدارة بوش بأنها تراجعت عن شن ما أسمته سابقاً " حرب أفكار" مع الإسلاميين بهدف هزيمتهم أولا لمقدمة لهزيمة ما تسميه "الإرهاب" !! <BR><BR>ومن الواضح أن الخطط الأمريكية لتحويل منتدى دافوس إلى منتدى لمناقشة قضايا الأديان ومحاولة فرض أساليب للتعاون – عبر إغراءات اقتصادية لبعض الحكومات – قد فشلت ، بدليل أنهم لم يهتموا بالمشاركة في منتدى هذا العام ، ولم تطرح قضايا مثل محاربة الإرهاب وحوار الحضارات في منتدى العام الجاري .<BR><BR>حيث عاد مؤتمر هذا العام إلى أصله كمنتدى اقتصادي – هيمنت عليه أوروبا كسابق عهدها - يناقش قضايا العالم الاقتصادية ومشاكل الفقر والتعاون الدولي وهي القضايا التي حددها "جيد ديفيس" مدير إدارة مركز الآفاق الاستراتيجية للمنتدى في خمسة محاور هي: محاربة الفقر، تحقيق عولمة تتسم بمزيد من العدالة، سبل مواجهة التغييرات المناخية، ضمان التعليم الأساسي لجميع سكان العالم، وتحسين أسلوب إدارة الحكومات الدولية .<BR>ودفع هذا صحف سويسرية للحديث عن "روح جديدة " لدافوس إزاء المحرومين حول العالم ، والعودة إلى الاهتمام بالمواضيع التقليدية، السياسية منها والاقتصادية ، خصوصا في ضوء الهزائم الأمريكية في العراق على يد المقاومة ومناطق أخري وظهور بوادر اعتراف أمريكي بخطأ الاعتماد على النفس والغرور بإمكانية الانتصار على من يسمونهم "الإرهابيين" ومن ثم العودة للتنسيق مع أوروبا وعدم تجاهل دورها .<BR><BR>وقد ألمح لهذا (وزير الدفاع الأميركي) دونالد رامسفلد أمام مؤتمر ميونيخ حول الأمن عندما قال : " إنه لا يمكن لأمة وحدها أن تقاتل الإرهاب ولا أن تقف بوجه "التهديدات العشوائية في عصرنا الحالي الجديد" ودعا لتحسين الأجواء بين الأوروبيين والأميركيين!!<BR><BR>هدف حوار الأديان انكشف !<BR>وما زاد فشل إدخال الدين في مناقشات دافوس أن الهدف من حوار الأديان الذي دعا له الأمريكيان والبريطانيين قد "انكشف" ، وظهر أن الهدف هو النيل من الإسلام وتصويره بمظهر المحرض على الإرهاب ، ومن ثم الدعوة لتطوير الدين ومناهج التعليم الديني وحذف كل ما يشير فيها للصراع من اليهود أو كراهية غير المسلمين .<BR><BR>فمعروف أن أول اتفاق يدخل ضمن حوار الأديان بين الأزهر والغرب المسيحي جرى توقيعه في عام 1998م مع الفاتيكان ، وتلاه ثان في يناير 2001م مع الكنيسة البريطانية ، وبلغ التعاون بين الأزهر والكنيسة الأوروبية لتوقيع (اللجنة الدائمة للأزهر لحوار الأديان السماوية) اتفاق تعاون مع الكنيسة الإنجليكانية 30-1-2002م يقضي بالعمل سوياً لتحقيق كرامة الإنسان في العالم، حيث وقع الاتفاق عن الأزهر الشيخ فوزي الزفزاف (رئيس اللجنة الدائمة لحوار الأديان السماوية)، والدكتور على السمان (نائب رئيس اللجنة)، بينما وقع القس "كريستوفر لامب"، والمطران "منير حنا أنيس" أسقف مصر وشمال أفريقيا والقرن الأفريقي عن الكنيسة الإنجليكانية، وجرى التوقيع في حضور الدكتور/ محمد سيد طنطاوي (شيخ الأزهر)، و"جورج كاري" كبير الأساقفة والرئيس العام للكنيسة الإنجليكانية في ذلك الحين .<BR><BR>ورغم ترحيب الأزهر بالحوار مع الكنائس الغربية ، فقد اهتم بمطالبة الفاتيكان بإدانة الحروب الصليبية الغربية في العالم الإسلامي ، حيث أصدرت اللجنة الدائمة للحوار بين الأديان بالأزهر الشريف بياناً في أكتوبر 2000 م أدانت فيه مذابح القدس الشريف والمدن الفلسطينية على يد الجيش "الإسرائيلي" داعية الفاتيكان لإصدار بيان يدين فيه "إسرائيل" بوضوح بسبب المجازر التي تجري هناك. <BR><BR>وقال الشيخ فوزي الزفزاف (رئيس لجنة الحوار بالأزهر) بأن اللجنة وجهت رسالة إلى المجلس البابوي للحوار بالفاتيكان تطالبه بموقف صريح منه تجاه الاعتداءات "الإسرائيلية" وإصدار إدانة رسمية لهذه المأساة، وذلك طبقاً لاتفاقية الحوار والموقعة بين المجلس البابوي للحوار بالفاتيكان، ولجنة الحوار بالأزهر في مايو 1998م ميلادياً ، ولكن الفاتيكان لازال يرفض حتى الآن إدانة مذابح الصليبيين ضد المسلمين رغم اعتذاره عن مواقف الكنيسة السابقة تجاه اليهود !<BR><BR>وهو ما يشير إلى أن الحوار – ضمن منتدى دافوس – لم يكن له سوى هدف مصلحي للغرب ضمن سعيهم لتغيير الخطاب الديني الإسلامي وتغيير مناهج التعليم الإسلامية بدعوى مواجهة الإرهاب، وعندما فشلوا أو بمعني أصح نجحوا في بعض التغيير الطفيف بالضغط على الحكومات الإسلامية ، سعوا لتغيير خططهم وأصابهم اليأس .<BR><BR>مؤتمر 2004م يتهم المسلمين بالإرهاب !<BR>ولا يجب أن ننسى أن المؤتمر قبل الأخير عام 2004م في دافوس ركز على مناقشات مشبوهة حول الإسلام في حضور شيوخ وقساوسة ، ودارت حلقات نقاشية عن الإرهاب الذي لا تزال دوائر غربية تربط بينه وبين الدين الإسلامي عموماً دون تمييز .<BR><BR>ففي منتدى 2004م سعت أطراف غربية وأمريكية لاتهام المسلمين بالإرهاب والسعي لاستهداف الغرب ورد عليهم مسؤولون عرب ومسلمين متهمين الغرب بازدواجية المعايير وعدم فهم الدين الإسلامي الحقيقي والخلط بين أعمال عنف يقوم بها مسلمون وبين الدين رغم أن أحداً في العالم الإسلامي لم يتهم الدين اليهودي بالمسؤولية عن المجازر الصهيونية ضد الفلسطينيين ، ولا اتهم الجماعات المتطرفة المسيحية الغربية بأن السبب في تطرفها هو الدين المسيحي .<BR><BR>وقد تحول النقاش حول هذه القضية إلى مناقشات حول صراع الحضارات والفجوة بين الغرب والعالم الإسلامي إلى مواجهة بين أطراف إسلامية وعربية (الحضور العربي كان نشيطاً هذا العام) ، وبين أطراف غربية ، بل وسعت أطراف عربية مثل المملكة العربية السعودية لعقد حلقات نقاشية عن الإصلاح في المملكة بهدف الرد على المطالب الغربية برفض الدول الإسلامية للإصلاحات تحدث فيها أجانب وعرب حول هذا الصراع بين الطرفين وسعي غربيين لكيل اتهامات ظالمة للعالم الإسلامي .<BR><BR> وانتقد الرئيس الباكستاني في كلمة له أمام المنتدى تعرض الإسلام للتشويه في الغرب وقال: "إن أحد خطر عاملين يتسببان في سوء التفاهم بين الغرب والمسلمين هما نظرة الغرب للإسلام كدين يدعو للتطرف (على غرار ما قاله قساوسة غربيين )، وأنه مضاد للحداثة" ، وشدد على أن الإسلام "ديموقراطي في الأساس" ويقبل الأديان الأخرى ويساند السلام والعدالة والمساواة ، وأن أفعال قلة من المتطرفين لا تمثل الدين ككل ، كما انتقد (الرئيس الإيراني) محمد خاتمي الهجوم الظالم ضد الإسلام وعدم فهم الغرب لحقيقة الإسلام .<BR><BR>وجاءت هذه الانتقادات رداً على الاتهامات الغربية -على لسان المشاركين الغربيين والأمريكيين- التي ذكرت أو ألمحت إلى أن الدين الإسلامي الذي يعتنقه العرب يؤوي الإرهاب وأن أنظمتهم في حاجة للأخذ بالديموقراطية والإصلاحات بما فيها تحديث مناهج التعليم الديني !<BR><BR>عودة الغائب .. الاقتصاد<BR>وربما يكون التركيز على الاقتصاد الغائب هذا العام وتراجع الحديث عن الدين له مدلول آخر ، من حيث الدعوة إلى إزالة أسباب الفقر والتخلف الاقتصادي كأسباب تدفع – في نظر بعض الغربيين – إلى التطرف عموماً ، إذ لوحظ هذا العام أن هناك تركيزاً على كارثة تسوناني في جنوب شرق آسيا وكيفية مواجهة ما يجري هناك.<BR><BR>وكان من الملفت أن الأمريكان سعوا لما قالوا إنه تحسين صورتهم أمام العالم الإسلامي من خلال زيادة مساعداتهم من 35 مليون دولار إلى 350 مليوناً ، وعد وزير الخارجية الأمريكي ذلك "دليلاً على إنسانية أمريكا وعدم عدائها للإسلام " في حين راح وولفيتز (نائب وزير الدفاع الأمريكي) يكيل الاتهامات للعالم الإسلامي بأنهم يتبرعون فقط بأموالهم في حالة الدعوة للجهاد (مثل أفغانستان) في حين يتراجعون عن بذل الأموال في الحالات الإنسانية رغم أن معظم ضحايا تسونامي مسلمون !؟<BR><BR>صحيح أن منتدى هذا العام ناقش عدة قضايا تخص الدين، مثل : "الإسلام والتحديات المطروحة للنقاش داخل المجتمعات الإسلامية"، و"حظوظ السلام في الشرق الأوسط بين الفلسطينيين وإسرائيل" ، والتساؤلات المطروحة حول زعامة الولايات المتحدة في العالم ومن أجل فهم توجهات الإدارة الأمريكية الجديدة، وقضايا التجارة العالمية وأسلحة الدمار الشامل" ، ولكن القضايا الدينية لم تأخذ ذات الحظ الواسع من المناقشة كما جري في دورات سابقة ، ونوقشت في الندوات الجانبية غير الرئيسية.<BR><BR>وحتى الحديث عن الإصلاح تحول من التركيز على الجانب السياسي للإصلاح – كما ركز عليه الأمريكان في منتديات سابقة – إلى التركيز على الجانب الاقتصادي في منتدى هذا العام 2005م ، وكان هناك حضور ضخم من الدول العربية ورجال الأعمال العرب وتطرقت الكثير من المناقشات لقضايا الإصلاح في العالم العربي والديموقراطية ، ولم تغب هذه القضايا عن اهتمامات الوفود العربية الرسمية سواء من مصر أو من الوفد الفلسطيني الذين ركزوا على أن النمو الاقتصادي يساعد على الاستقرار السياسي في المنطقة .<BR><BR>ويبقي السؤال : ماذا بعد فشل أمريكا في استغلال "الدين" في دافوس ؟! .. هل يكون دافوس 2005م نقطة تحول في فشل السياسة الأمريكية في استغلال الدين لتحقيق مصالحها ؟ وهل يعني ذلك أنها اختارت التركيز على أمور أخرى غير الدين مثل الاقتصاد ؟ أم هل يعني أنها لم تعد تعير العرب والمسلمين التفاتاً وتقرر ما تريده بالقوة المسلحة دون حاجة لحرب أفكار أو حرب دينية على الهواء ؟؟!<BR><BR><br>