احترام العقول أولاً!
7 محرم 1426

إن من أعظم ما وهب الله للعبد عقلاً سليماً، وفكراً ناضجاً، وإدراكاً ثاقباً، وسعة في الأفق، واستيعاب للحق، به يرتقي ‏أناس، وينحط به آخرون. ‏<BR>‏ ميّز به الإنسان عن بقية الحيوانات، بتعطيله، أو انحطاط تفكيره يفقد الإنسان إنسانيته، وينخرط في عالم الحيوان البهيمي ‏‏"وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا ‏أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ".‏<BR>‏"وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً".‏<BR>به يسود الفرد، وينال الصدارة، ويميز الخير من الشر، ويعمل النفع ويبتعد عن الضر، ويؤصل أمته إلى بحر الأمان حتى ولو ‏كان نحيل الجسم، وذميم الخلقة "إنما المرء بأصغريه بلسانه وعقله".‏ ‏ ‏<BR>ولعظم منزلة هذا العقل كان أحد الضرورات الخمس التي اتفقت الشرائع على حفظها، فحفظه حسياً ومعنوياً غاية من غايات ‏هذه الشرائع. ‏<BR><BR>ومما يمدح به الفرد، أو الشعوب حينما يتصف بصفات العقل السليم التي وهبها الله للعبد، ولهذا فلا غرو أن يكون أغلى ‏ما تملكه الشعوب من الثروات هي هذه العقول، وإن كانت فقيرة بالثروات المادية، لكنها استطاعت أن تتقدم على شعوب طغت ‏عليها الثروات المادية في جميع الميادين، وبعقولها استطاعت أن تسود الأمم، وتشجع هجرة عقول الأمم الأخرى جماعات ووحداناً ‏، وتحتضنها وتغذيها، وانحطت شعوب وأمم لما انحطت عقولها، وزهدت في عقول رجالاتها، وكان هم الواحد منهم لا يتجاوز ‏أسقطة المتاع؛ مع أنها من أغنى الشعوب بالثروات المادية.<BR><BR>ولمكانة العقول السليمة لدى الشعوب الواعية الطموحة المثمنة للكنوز يكون همها ليل نهار الحفاظ على هذه الكنوز، ‏واحترامها وتقديرها، والاحتفاء بها، والدفاع عنها، وتسخير ما تستطيعها من قدرات لتطويرها وتفعيلها، وتُهيأ الأسباب ‏والأجواء لتنتج الكثير وما الاهتمام الفائق بالموهبين الصادق إلا نتاج ذلك.‏<BR>وهذه العقول لا تخل منه أمة من الأمم، أو شعب من الشعوب " إن بني عمك فيهم رماح "فهذا من عدل الله ورحمته وإحسانه ‏بعباده المتتابعة.<BR><BR>ومن سنة الله في خلقه تفاوت هذه العقول تفكيراً، ووعياً، وإدراكاً، وهداية، واستفادة، مع اتفاق في أصل العقل وسلامته ‏وأنها قابلة للزيادة في التعقل والتأمل، وهيئت للسعي فيها قدماً، و التوسع في المدارك والأفق.<BR><BR>ومن حق هذه العقول علينا احترامها وتقديرها والاستفادة منها، وعدم الاستخفاف أوالاستهانة بها، أو الإسقاط من شأنها، ‏أو السعي الحثيث لقصرها على ما يراد منها لا ما تريده.<BR><BR>والاستخفاف بالعقول له صور وأشكال ظهر الكثير منها والبعض الآخر في طريقه إلى الظهور؛ لأن مشوار الاستخفاف ‏بالعقول ما زال مستمراً، وتعدد ممتهن هذا الاستخفاف بدلاً ما كان مقتصراً على أصحاب السياسة، وأرباب الشعارات، ‏والذاتيين، فبدأنا نسمعه ونشاهده ممن يدعي الإصلاح، والسعي الحثيث لتوعية العقول وتوسعة المدارك، والنقلة بالأمة. ‏<BR>وإن كان ظاهر صيحاتهم ونداءاتهم النصحة للأمة، والخوف من المستقبل، حلت بثوب الرحمة والشفقة، إلا أن الحفاظ على ‏رأس المال مقدم على الربح.<BR><BR>وللتطور الهائل في هذا العصر في وسائل المعلومات، والاتصال؛ حتى أصبح العالم كالقرية الواحدة، فبدأ الوعي ينتشر في ‏أوساط المجتمع، ويحرص الناس على معرفة الحقيقة، وأنهم ما عاد تنطوي عليه الأمور مثل ما كانت تنطوي عليهم في السابق، ‏فمصادر المعرفة تيسرت، وتعددت، وأحبوا أن يعرفوا الأمور بأنفسهم لا أحد يملها عليهم، وبدؤوا يستقلون بتفكيرهم وآرائهم ‏ونتائجهم الحاضرة والمستقبلية ليتحرروا من تبعية الغير وتسير الأخر لما يريده هو لا ما يريدونهم، وأن حبال الثقة المتبادل قد انقطع ‏، ويَردوا قانون " وما أريكم إلا ما أرى " إلى مقننه ومستحسنه، وأنهم لا يريدون السياسة الفرعونية أن تمرر عليهم سياسة " ‏فاستخف قومه فأطاعوه".<BR><BR>ومن صور وأشكال الاستخفاف بالعقول أنه عندما نقوم بطرح الأفكار والآراء، سواءً كانت فكرية أو سياسية أو تربوية..... ‏نطرحها وفي قرارة أنفسنا أن المجتمع ما زال مصاب بسطحية التفكير وضحالته، وقلة الوعي، وأنه تمشي عليه بساطة الأمور فكيف ‏بعظامها، وأنه يجيد سرعة الاقتناع، ونخاطبه على أنه مجتمع ما قبل التسعينات؛ ولهذا تأتي الطرحات والأفكار هزيلة ومتميزة ‏بالبساطة والسذاجة والشطط، ومما يحزن المرء أن كثيراً ممن يتصف بهذا ممن يحمل شهادات عالمية عالية، ويقال أيضاً إن مثل هذا ‏الطرح يلق رواجاً ممن يحمل مثل هذه الشهادات.<BR><BR>ومن هذه الصور أننا نجيد التهرب من فشل طروحاتنا وخيبة أفكارنا، وسذاجة تحليلاتنا، ومن ثَم نحمل هذا الفشل الذريع إلى ‏فهم الآخرين له، وأن ما قلناه لا غبار له، وإنما أتى الخلل من هذا الفهم، ولإصراره على هذا الاستخفاف يصعب عليه الاعتراف ‏بمجانبة الصواب مع أن ما قاله لم يخصه بأفراد، وإنما قاله على الملأ، ولجودة هذا الطرح حُرص على حفظه واقتنائه فلهذا لا يمكن ‏أن يندثر أو يطوي في عالم النسيان، فالأفكار والآراء من أصعب الأمور نسياناً وتجاهلاً.‏<BR><BR>ومن أشكال الاستخفاف والاستهتار بعقول الناس: الشعارات البراقة، والوعود المطمئنة، والدعايات الساحرة بدأً بالسياسة ‏، ومررواً بالاقتصاد وحقوق المرأة، وانتهاءً بمحاضن التربية والتوجيه ولا أخالك ناسياً مسمار جحا هذا العصر " الإرهاب ‏والتطرف " ومصطلحة الحرية والديمقراطية.‏<BR>فيبدأ بمشواره رافعاً عبارات براقة مع وعود مؤكدة فتذهب الأيام والسنون فلا نراء لهذه اللافتات أثراً في الواقع، وإنما نسمع ‏جعجعة ولا نراء طحناً.<BR><BR>ولغلبة المادة على الكثير منا استغل ذلك ضعاف النفوس، مع استغلال وسائل الدعاية الحديثة والمتنوعة، فيبدأ بطرح ‏مشاريعه التجارية مع وعود بأرباح باهرة مع وقت قصير تجعل المرء يقبل عليها بشراهة وبدون تروي فلا مكان له مع هذه الأرباح ‏فالفرصة لا تعوض، فيذهب الوقت المحدد وأضعافه، وصاحبنا لم يستيقظ إلا وهو في وسط الفخ، فوصل به الحال إلى أن يتمنى ‏رأس ماله، وعلم أن هذه الوعود ذهبت مع أدراج الرياح، بل وصل ببعض هؤلاء النفوس أنه استغل الدين وأهله في ترويج نصبه ‏وخداعه.<BR><BR>ومن الأسباب التي تجعل المرء يتمادى ويستميت بهذا الاستخفاف أن نظره مقصور على الساعة الحاضرة فهو وقتي فلا يفكر في ‏عاقبة طرحه عند وقوف الآخرين على الحقيقة، ولا يهمه ذلك، ولا يستشعر حال الناس إذا فرغ صبرهم من طول انتظارهم ‏للوعود التي دغدغت مشاعرهم، والتوصيات، والحلول الناتجة عن دراسات وتحاليل.<BR><BR>فهذا أحد النخب! على الملأ في أحد القنوات الفضائية لما طُرح عليه عمله الذي خالف فيه أحد الأحاديث الصحاح مع أنه لا ‏يمكن له بحال من الأحوال أن يتجاوز ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيد أنمله - وهذا هو المؤمل من كل إنسان - أجاب بكل‏ ثقة أنه بعد ما ‏جمع طرق هذا الحديث ودرسها توصل إلى أن معنى هذا الحديث يختلف اختلاف جذرياً مع ما عَلمه من مشايخه وأساتذته وهو المعنى ‏السائد لدى الناس، والذي على إثره انبهر المستمعين، وعندما ترجع إلى دواوين الحديث تجد أن هذا الحديث لا طريق له إلا طريق ‏واحد عن أحد الصحابة، فهل فكر صاحبنا بالساعة التي تلي البحث من الآخرين عن هذا الحديث ومعناه!؟<BR><BR>وهناك أستاذ آخر من عِلية النُخب مما طرحه من أفكاره في مجمع من المجامع الثقافية متعددة المدارس والأطياف أن من مميزات ‏عصور طفرة الثقافة المتقدمة أنها لم تتقيد بمدرسة واحدة أو مذهب واحد يُقصر الناس عليه، بل إن السلطة في ذلك الزمن ضمنت ‏لكل فئام المجتمع وأطيافه حريته الثقافية، وأراه العقدية أياً كان ما دام أن صاحبها مُستظل تحت مظلة الإسلام بخلاف حالنا الآن.<BR>فهذه النتيجة يعلم صغار السن والمعرفة أن صاحبها قد أبعد النجعة، وأن التاريخ يكذب ذلك.<BR><BR>فنقول لصاحبنا: هل عصر المأمون ـ الذي يُعد من أزهى عصور الثقافة لدى فئام من المثقفين ـ ينطبق عليه ما طرحته؟ فماذا ‏يُعد امتحان خيرة علماء ذلك العصر، وضرب خيارهم بعدما قيدوا بالأغلال، وامتحن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل، ويدرك ‏ذلك عوام الأمة فضلاً عن النخب.<BR><BR>وقل ذلك في ما بين القرني الرابع والتاسع في مصر، وابن تيمية وكتبه ومدرسته وتلاميذه شاهد على خلاف هذا الطرح.<BR>بل أن الدين الحق لا يمكن أن يرضى بذلك، وأن الكثير يعلم ما هي مهمة درة عمر الخطاب التي في كل عصر يتمناه كل ‏غيور.<BR><BR>فثقة المرء لدى فئام من الناس لعلمه وطرحه وإدارته وماضيه تجعله يتكئ على هذه الثقة عند طروحاته وأفكاره الحاضرة ‏والمستقبلية، ومن ثم تؤثر على جودة طرحه وصدقه، بل قد يصل به الحال إلى الاستخفاف بالعقول واستتغفالها، وبما أن الناس ‏أغلاء ما يملكون هي عقولهم لا يتحملون ذلك منه فيبدأ مد ثقته ينحسر شيئاً فشيئاً، فينفضون من حوله جماعات ووحداناً. ‏<BR>وصلى الله وسلم على نبينا محمد هادي البشرية إلى الرشاد، وعلى آله وصحبه أجمعين.<BR><br>