القيادة الفلسطينية الجديدة وحبل الإنقاذ السياسي
14 ذو القعدة 1425

رغم ما ظهر من تضافرات السلطة الفلسطينية من توزيع سلسل وسلمي لصلاحيات الرئيس عرفات بعد وفاته، حيث تمت دون أن يعكر صفوها شيء، فالحقيقة أن الخلافات لا تزال تعتمل تحت السطح وجرى تأجيلها وترحيلها بين طرفين على النقيض الأول يسعى لتحقيق أي تسوية للقضية بحسب الشروط والمعايير الأمريكية – الإسرائيلية، وفي مقدمتها وقف الانتفاضة المباركة، والآخر يعتقد أن الرضوخ للإملاءات والشروط المطروحة يعني التضحية ووأد مكاسب الانتفاضة، ويصبح من الطبيعي أن ترتفع صوت الخلافات في أقرب منعطف خصوصاً مع بوادر تنازلات "خليفة عرفات".<BR><BR>يتصرف السيد محمود عباس (أبو مازن) وكأنه زعيم شرعي منتخب للشعب الفلسطيني، ويتحدث بطريقة صارمة وجازمة عن أن المفاوضات هي الطريق الوحيد لاستعادة الحقوق الفلسطينية المغتصبة، ففي أعقاب توليه رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، استجاب أبو مازن للشروط الإسرائيلية على الفور بوقف ما أسماه " التحريض ضد الإسرائيليين"، وأمر القائمين على مؤسسة هيئة الإذاعة والتلفزيون الفلسطينية بمنع بث أي مواد إعلامية يمكن أن تعدها دولة الاحتلال الإسرائيلي تحريضية ضدها، وأكد على ذلك رضوان أبو عياش (رئيس هيئة الإذاعة والتلفزيون الفلسطينية)، الذي قال: إن محمود عباس أصدر تعليماته للتأكد من خلو البرامج من أي مواد قد يفهم منها أنها مواد تحريضية، وهو ما دفع مجموعة مسلحة تابعة لتنظيم (فتح) من السيطرة على مبنى التلفزيون الفلسطيني واستولت عليه.<BR><BR>كذلك عاد للمطالبة بوجود "سلاح فلسطيني شرعي واحد" في إشارة لنزع سلاح المقاومة وعزمه إعادة الانتفاضة إلى نهجها السلمي، وهي الدعوة التي أطلقها خلال ترؤسه لأول حكومة فلسطينية قبل أكثر من عام، وأحدثت حينها قلقاً واسعاً في الشارع الفلسطيني، وأعاد تردديها بالقول: " نريد سلطة واحدة وحكومة واحدة وسلاحاً شرعياً واحداً على الساحة الفلسطينية "، وكذلك الأمر مع (رئيس الوزراء الفلسطيني) أحمد قريع، الذي قال: إن تنظيم السلاح لا يعني إنهاء المقاومة؛ لأن المقاومة مطروحة طالما بقي الاحتلال، لكن شكل المقاومة تحدده القيادة الفلسطينية والظروف المرحلية.<BR><BR>بوادر التنازلات التي قدمها عباس لشارون قبل أن يتولى فعلياً السلطة أثارت المخاوف، سيما وأن السيد عباس لم ينتخب رئيساً للسلطة الوطنية بعد، كما أن رئاسته للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية مشكوك في شرعيتها؛ لأن آخر اجتماع انعقد للمجلس الوطني الفلسطيني الذي ينتخب هذه اللجنة كان قبل عشر سنوات، وهو ما أعاد إظهار الخلافات داخل حركة فتح، وذات الأمر حدث مع حركة حماس التي أبدت نضجاً سياسياً وانتظرت مواقف إيجابية من عباس بخصوص إعلانه الحرص على خيار المقاومة، والسعي الجاد لإشراك كافة القوى بما فيها حماس في القرار الفلسطيني ومؤسسات السلطة، إلا أنها وجدت تهميشاً متعمداً زاد من مخاوفها ودفعها لمقاطعة الانتخابات الرئاسية، حيث أشار إسماعيل هنية إلى أن حماس لا تقدم مرشحاً للرئاسة؛ لأنها تعد أن الانتخابات ليست سوى أداة لدعم السلطة الفلسطينية التي أنشئت حسب اتفاقات السلام المؤقتة التي توصل إليها عرفات مع الحكومة الإسرائيلية قبل عشرة أعوام، والتي ترفضها قيادة حماس وفصائل المقاومة الإسلامية في فلسطين.<BR><BR>وهذا الأمر يضع على عاتق قيادة المنظمة وحركة فتح عبئاً ثقيلاً، يتمثل في حقيقة إدراكهم بأن المقاومة وميراث كل جناح فلسطيني هو عون وسند لهم في المفاوضات المقبلة مع الحكومة الإسرائيلية، بالنظر إلى أن الصور النضالية العسكرية للانتفاضة قطعت شوطاً طويلاً يجعل إعادتها إلى البداية السلمية شبه مستحيل، فقد طورت المقاومة أدواتها وتحولت إلى ما يشبه ثقافة و منهاج حياة، وما عملية النفق الأخيرة في منطقة رفح والتي ذهب فيها قتلى وجرحى من جنود الاحتلال إلا بمثابة عملية نوعية من حيث التخطيط والتنفيذ وهو ما يقال أيضاً عن هندسة تطوير صواريخ القسام ودرجة قدتها ومداها.<BR><BR>الواقع أن رصيد الرجل (السيد محمد عباس ) لدى الشارع الفلسطيني يكاد يقترب من الدرجات الدنيا حسب استطلاعات الرأي التي أجريت قبل رحيل ياسر عرفات، وهذا الرصيد لا يؤهله بالطبع للدخول في مجادلات ومشاحنات مع فصائل المقاومة إذا ما قرر المضي قدماً في خطته لنزع أسلحتها. <BR><BR>فإذا كانت هذه الفصائل التزمت جانب الصمت حفاظاً على الوحدة واللحمة الوطنية الفلسطينية في مواجهات سابقة مع أجهزة الأمن الفلسطينية أثناء السنوات الأولى لاتفاقات أوسلو فربما لن تأخذ ذات الموقف هذه المرة، علاوة على كل ذلك فإن المعضلة الحقيقية أمام السيد عباس والأكثر إلحاحاً ستكون من داخل حركة فتح ذاتها وتحديداً جناح صقور فتح وكتائب شهداء الأقصى ولجان المقاومة الشعبية، وهي كلها جماعات وقوى تعمل تحت مظلة الحركة التي تهيمن على منظمة التحرير، والتي من المفترض أن محمود عباس يتزعم اللجنة التنفيذية فيها، وهي أعلى مؤسسة داخل المنظمة. وتؤمن هذه الأطياف الحركية بالعمل المسلح كطريق موضوعي لتحرير التراب الفلسطيني، وفي هذا الإطار فإن إعلان مروان البرغوثي سحب ترشيحه في انتخابات الرئاسة لا يلغي خطر التناطح والتشظي والصراع على السلطة بذريعة التنافس بين جيل قديم وجيل جديد أو يوهم بأن حركة فتح متوحدة ومتماسكة.<BR><BR>كما لا يفهم أن انسحاب البرغوثي من قائمة مرشحي الرئاسة الفلسطينية بأنه انعزل عن العمل السياسي الفلسطيني، فما زال له هالته الكارزمية عند الكوادر الشابة داخل الحركة التي ترفع لواء التغيير والإصلاح واستبدال الوجوه، وثبّت موقفه بالشروط التي وضعها، وهو ما يجعل الصدام مع السيد عباس محتملاً في المستقبل القريب؛ لان تلبية هذه الشروط هي نقيض لبرنامج (أبو مازن) السياسي ونسف له.<BR><BR>ومن غير شك أيضاً أن نجاح حركة فتح في لملمة صفوفها في هذه المرحلة لا يعنى أنها قد تستمر في وحدتها الداخلية إلى أجل طويل، خاصة وأن العامل الرئيس في توحيد أطيافها المختلفة هو الشعور بالخطر على فتح وعلى ضياع السلطة من بين يديها، والمعلوم أن البنية الداخلية لفتح ليست قائمة على مؤسسة ديموقراطية كاملة تستطيع وضع حلول للتناقضات والخلافات داخلها فقد لا تستمر في إيجاد حلول لتناقضاتها في مراحل أخرى، الأمر الذي يرتبط أيضاً بقدرة القوى الفلسطينية الأخرى على تشكيل البديل الحقيقي لسلطة فتح.<BR><BR>ما يحتاجه الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة هو قيادة وطنية ترتقي إلى مستوى تضحياته وبطولاته في مواجهة الاحتلال ولا تقدم أية تنازل عن ثوابته، وأن تحافظ على أكبر إنجاز فلسطيني في العصر الحديث وهو الانتفاضة، وعدم المساومة عليها، خاصة أنها بدأت تعطي ثمارها، ويزداد أهمية ذلك بالنظر إلى المأزق الذي يعيشه شارون بعد فشله في الانتصار على الانتفاضة، مثلما فشل في كسب تأييد حزبه لخطته للانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية، كما أن رفيقه الرئيس بوش يعيش هو الآخر في مأزق أكبر إذ يواجه حرب استنزاف في العراق على يد المقاومة الباسلة، ولذلك يطمحان ويريدان من القيادة الفلسطينية الجديدة أن تسخى في تنازلاتها علها تلقي إليهما بحبل إنقاذ سياسي.<BR><br>