الإفراج عن المعتقلين في تونس.. إصلاح أم تلميع؟!
4 ذو القعدة 1425

أفرجت الحكومة التونسية بمناسبة عيد اعتلاء السلطة في السابع من نوفمبر الجاري عن نحو70 معتقلاً من حركة النهضة والتيارات اليسارية. شمل الإفراج الذين أنهوا مدة سجنهم، وقد اتُخذ القرار بمناسبة بدء الولاية الرابعة للرئيس زين العابدين بن علي الجديدة، وهذه هي أول مرّة يصدر فيها عفو عن مساجين سياسيين بهذا العدد منذ عام1999م، وجاء قرار الإفراج عنهم منقوصا، حيث ما زال المفرج عنهم قيد المراقبة، حيث درجت السلطات التونسية على فرض رقابة إدارية صارمة على كلّ من ينهي مدّة سجنه من الإسلاميين، وإلزامه بالتردّد على مراكز الشرطة للتوقيع، ما بين مرّة وثلاث مرّات في اليوم الواحد، والكشف عن كلّ تنقلاته في المدينة التي يسكنها.<BR><BR>إلا أنه يمكن اعتبار الإفراج خطوة إيجابية في طريق رفع المظلمة عن الإسلاميين وعودة الحياة السياسية إلى تونس، بل إنّ هناك من ذهب إلى حدّ اعتبارها انفراجاً فعلياً في الوضع السياسي للبلاد، وأنّ المجال مفتوح لتسوية وضع من تبقى من السجناء السياسيين الـ500، وعودة المغتربين، بمن فيهم (رئيس الحركة الشيخ) راشد الغنوشي.<BR><BR><font color="#0000FF">محاولة تلميع: </font><BR>وفي الحقيقة لا يمكن فهم حقيقة ما حصل إلاّ بوضعه في إطاره العام، واستحضار المشهد السياسي الحالي في تونس، فقد بدا واضحاً منذ مطلع الثمانينات، أن الخيار الأمني هو الذي يحكم السياسة التونسية، وقد صدر خلال تلك المدة تقرير لوزارة الخارجية الفرنسية حول أوضاع تونس، يعد كلاً من اتحاد العمال (الاتحاد العام التونسي للعمل)، وحركة الاتجاه الإسلامي التي غيّرت اسمها فيما بعد إلى "حركة النهضة"، قوتين سياسيتين "تهددان مستقبل البلاد بكل جدّية"، فلم يكن في كلا الطرفين ما يطمئن القوى الغربية على مصالحها، لذلك كان ضربهما أولوية أساسية، تساعد في تهيئة الأجواء لمرحلة ما بعد "بورقيبة"، لكنّ تحقيق ذلك لم يكن عملاً سهلاً يتوقّف على قرار حكومي وتوّج مسلسل إنهاء اتحاد العمال سياسيًا بمؤتمر عقد في مدينة "سوسة" عام 1989م، تمكّن فيه الحكم من فرض من يريد في القيادة، وإخلاء سبيل الزعيم التاريخي للاتحاد "الحبيب عاشور" مقابل التزامه بالتخلي نهائيًا عن العمل النقابي.<BR><BR>في نفس السياق، كانت عملية إنهاك الحركة الإسلامية بالاعتقالات والمحاكمات تمضي في طريقها، فقد تمّت حملة واسعة عام 1981م، استعادت الحركة بعدها قوّتها بسرعة، وانتهت بالإفراج عن القيادة المعتقلة بعد ثلاث سنوات، ويبدو أنّ مخطّط تفتيتها الذي كان جاهزًا سنة 1987م قد فشل في تحقيق أهدافه، بل إنّه أعطى للحركة الإسلامية فرصة الظهور كقوة سياسية فاعلة ومتغلغلة في مختلف أنحاء البلاد ومؤسسات المجتمع،وظلت الحركة الإسلامية حاضرة بقوّة في الحياة السياسية بتونس في عهد بن علي.<BR><BR>وجاءت الانتخابات التشريعية في أبريل 1989م لتزيد من تهويل "الخطر الإسلامي الداهم"، فقد شاركت الحركة بقوائم مستقلة، أظهرت أنّ هناك تعاطفًا شعبيًا واسعًا معها، فصدر قرار في عزّ تلك الحملة الانتخابية بمنع الفرصة عن الحركة، وتشديد المضايقات على عناصرها، واستمرّت المضايقات والاستفزازات إلى أنّ تحوّلت إلى مواجهة جديدة، أشرس وأعتى من سابقاتها، وصلت أوجها سنتي 1991 و1992م.<BR><BR>لكنّ هذه الحملة لم تستهدف فقط "حركة النّهضة" كتنظيم، بل شملت كلّ أوجه التديّن في البلاد، فقد كان بعض رجال السلطة من الماركسيين السابقين، يؤكّدون أنّ القضاء على الحركة لا يمكن أن يؤتي ثماره إلاّ بـ "تجفيف ينابيع التديّن"، ووضعت خطّة مشهورة لهذا الغرض، ولأنّ منطق الاستبعاد لا يتوقّف عند حدّ، فإنّ السلطات اتجهت بعد محاكمات سنتي 1991 و1992م لأبناء حركة النهضة والمتعاطفين معها، إلى إسكات ما تبقّى من أصوات؛ فسلّطت الضغوطات على كلّ صوت في البلاد، وشمل ذلك حركة الديمقراطيين الاشتراكيين، وحزب العمال الشيوعي، ورابطة الدفاع عن حقوق الإنسان، وعدة أصوات أخرى علمية وثقافية، ولم يسلم من بطش المؤسسة الأمنية، حتى بعض ممثلي الهيئات الإعلامية والمنظمات الإنسانية الأجنبية المستقرّة في تونس، وهو ما جعل هيئات حقوق الإنسان العالمية تتحرّك وتنشر تقارير عمّا يجري في البلاد، حتّى أصبح ذلك مصدر إزعاج للسلطات، وشهادات لا يجد الحكم ما يردّ به عليها.<BR><BR><font color="#0000FF">تقارب الإسلاميين مع حكومات المغرب العربي: </font><BR>كما يجب ألاّ نسقط من حسابنا ونحن نحاول فهم هذه الخطوة، الظروف الإقليمية التي ساعدت الرئيس التونسي على اتخاذها، فقد ضغطت تطوّرات الأوضاع في كلّ من الجزائر والمغرب بالخصوص على الحكم في تونس، ودفعته إلى التفكير الجدّي في مخرج من حالة الانسداد السياسي التي هو فيها.<BR><BR>لقد كان الحكم التونسي يتوقّع في مطلع التسعينات عندما خاض حملته ضد الحركة الإسلامية، والتي تحوّلت بسرعة إلى حرب ضدّ التدين بمختلف أشكاله وتعبيراته، وحرب على كلّ مسيّس مهما كان انتماؤه، أنّ الوضع الدولي متّجه إلى استئصال الظاهرة الإسلامية من الحياة السياسية. وقد زيّنت له المعركة التي خاضتها السلطات في الجزائر ضدّ الجبهة الإسلامية للإنقاذ أنّ دور بقية الحركات الإسلامية هناك آتٍ لا محالة.<BR><BR>ولكنّ تطوّرات الأحداث اتجهت عكس ذلك وأصبحت الحركة الإسلامية في الجزائر رقمًا سياسيًا لا مجال للتفكير في شطبه، بل شاركت في السلطة بعدد من الوزراء ، وسُجّل في المغرب ترحيب رسمي بدخول الإسلاميين حلبة العمل السياسي من خلال "حزب العدالة والتنمية"، الذي تمكّن من دخول البرلمان وإنشاء كتلة برلمانية.<BR><BR><font color="#0000FF">تقييم الإفراج من الداخل: </font><BR>وحول تلك الإفراجات وطبيعة المرحلة المقبلة يقول علي العريض (الناطق الرسمي باسم حركة النهضة التونسية، الذي قضى14 عاماً في الحبس الانفرادي وأفرج عنه مؤخراً): هذه خطوة إيجابية في الاتجاه الصحيح، وآمل أن تفضي إلى تسريح السجناء الباقين، والذين عددهم يقارب 500 سجيناً إسلامياً أو أكثر، وتنتهي هذه المأساة، حتى تتمكن تونس بكل فعالياتها وطاقاتها وأبنائها، من الخروج من هذه المحنة التي عطلت النمو في جميع اتجاهاته، حيث عاش المجتمع طيلة كل هذه المرحلة أزمة ثقة بين المواطن والدولة، ممّا انعكس سلباً على العديد من الميادين التنموية، ونفى العريض أن يكون قد تم أية اتفاقات مع السلطة وهذا العفو هو سراح شرطي، وللعلم فإن من شملهم هذا العفو، هم أولئك الذين أشرفت مدّة سجنهم على الانتهاء، ولم يبق لهم سوى بعض الأشهر أو الأسابيع، وأعتقد أن هذا الإفراج جاء بمناسبة تجديد الانتخابات، وتزامناً مع حلول عيد السابع من نوفمبر.<BR><BR>ومن أبرز الذين شملهم العفو: عبد الله الزواوي (الصحفي وأحد مؤسسي حركة النهضة)، والدكتور زياد الدولاتي (أحد القيادات السياسية البارزة)، والمهندس التومي المنصوري من القيادات الجهوية، والأستاذ مصطفى بن حليمة (أحد القيادات الروحية)، ولا زالت العديد من القيادات التاريخية بالسجن، من أمثال الدكتور صادق شورو، والشيخ محمد العكروت والشيخ الحبيب اللوز، وحمادي الجبالي، وعبد الحميد الجلاصي، وعلي شنتير... وغيرهم.<BR><BR>ويعلق عبد الله الزواري (الصحفي وأحد مؤسسي حركة النهضة، الذي أطلق سراحه) على الحدث في حوار على الإنترنت قائلاً: إن الإفراج تمّ بانتهاء المدة، لأتحول من السجن إلى سجن الشارع، حيث المراقبة الإدارية المستمرة، والمحاصرة اللصيقة، مما يعطيني إحساساً حقيقياً وليس محض تخيلات، أن السجن لم يفارقني...ولم أر أي تغيير في النهج العام للسلطة، ولا أي مؤشرات من هذا القبيل توحي بنوع من التفاؤل في اتجاه أفق سياسي، وما هو حاصل الآن من مظاهر التصلب واستمرارية الاضطهاد بجميع أنواعه، يجعل الآفاق مسدودة والوضع متردياً، طالما لم تكن هناك إرادة سياسية حقيقية للتغيير، وفتح نوافذ للتنفس من الاختناق السياسي، الذي لوّث الحياة السياسية بكل تفاصيلها...<BR><BR><font color="#0000FF">آفاق المستقبل: </font><BR>وفي النهاية فإن إطلاق سراح المعتقلين وإنهاء حالة الانسداد السياسي في تونس لن تضير بن علي الذي سيجني من ذلك كثيرًا، دون أن يؤثّر على موقعه؛ لأنّ مختلف الأطراف المعارضة، لا تطمح إلى الرئاسة، على المستوى المنظور على الأقل، وأنّ كلّ همّها حالياً، هو: أن تستعيد البلاد عافيتها.<BR><BR>لكنّ بعض القريبين من الحكم، يقولون: إنّ فهم ما يجري في تونس لا يمكن بحال فصله عن مصالح مهندسي الرؤية الأمنية الذين ليس لديهم ما يقدّمون سوى التخويف من انفتاح النظام سياسيًا، وأنّهم يدركون جيّدا أنّهم سيخسرون مواقعهم وامتيازاتهم لو جنح الرئيس بن علي إلى حلّ سياسي مع مختلف الفرقاء، وعلى رأسهم حركة النّهضة؛ لأنّ المنطق الذي سارت عليه البلاد خلال السنوات الماضية، لا يمكن أن يصمد طويلاً، وأنّه لا يجلب للبلاد سوى الكوارث، ويرجّح الملاحظون أن يتّجه الحكم خلال المدة القادمة إلى فتح مفاوضات مع أطراف المعارضة، وعلى رأسها حركة النهضة، من أجل التوصّل إلى حلّ سياسي يضع حدا لحالة الاحتقان الحالية.<BR><BR>وتُلمّح قيادة حركة النهضة وعدد من رموز المعارضة في الداخل والخارج، إلى أنّها مستعدة للتفاوض، وإحداث الإصلاح السياسي المطلوب تحت قيادة بن علي نفسه، لكن شريطة أن يكون ذلك بشكل جدي.<BR><br>