الإصلاح بين الدعاة والساسة
8 ذو القعدة 1424

لا يبدو أن بلداً عربياً يتردد فيها الحديث عن الإصلاح هذه الأيام كما هو الحال في السعودية، وهذا من غرائب هذا البلد التي لا تنتهي، فقبل سنين معدودة كان مجرد الجرأة على الحديث عن فكرة حاجة البلد للإصلاح يعد من الكبائر؛ لأنه يقتضي بطبيعة الحال الاعتراف بوجود الخطأ والقصور، ذلك الاعتراف الذي لم تكن طبيعة البلد وتركيبته التي صار إليها لتقبل به أبداً، وتبعاً لسياسية التزكية المطلقة الرسمية تراكمت الأخطاء، وفُرِضَ على بقية الأطراف المؤثرة الاختيار بين الالتزام بهذه السياسة والانخراط في منظومة المصالح والتواطؤ على التغاضي عن الأخطاء أو التحفظ على كل ذلك والقبول بالخروج خارج اللعبة السياسية تماماً.<BR>وكان لتدفق الثروة النفطية وتربع البلد على أكبر مخزون نفطي عالمي دور كبير في تمكين صاحب السلطة من فرض إرادته بشراء وترغيب المعارضين أو ترهيبهم إن لزم الأمر، حتى تكاثر المنتفعون وتضخمت وتشعبت شبكات المصالح النخبوية على حساب صالح البلد العام.<BR>وليس بخافٍ على المتابع أن المملكة قد واجهت في مسيرتها تيارات معارضة سياسية إما فكرية كالقومية والبعثية أو مذهبية كالشيعية والصوفية، لكن رجل الشارع وعامة الناس لم يسمعوا بهذه المعارضة تفصيلاً، ولم يشعروا بنضالها أو مطالباتها من أجله أو من أجل المصلحة العامة كما تروج هذه التيارات أو المذاهب، بل الحقيقة التي يصر هؤلاء على إخفائها، ويحرصون كثيراً على طمس معالمها وتلبيس تاريخها، أنهم جميعاً قد ناضلوا من أجل مصالحهم الفئوية الضيقة واستجابوا للإغراء والترغيب فقبلوا بالحلول الرسمية التي فرضت عليهم، واندمجوا في السياق العام دون تردد، بعد سنوات من التضليل لشباب البلد والتعدي على معاني السيادة الرسمية للدولة في الداخل والخارج، لا لشيء إلا لأن بعضاً من مطالبهم الحزبية أو الفئوية الضيقة تمت الاستجابة لها ومنح بعض رموزهم مناصب قيادية فعالة ومؤثرة في كيان الدولة، ضمن ما تم التعارف عليه رسمياً بسياسة الاحتواء التي نجحت كثيراً مع هذه الفئات. غير أن هذه السياسة وإن كانت قد أوقفت النضال المزعوم بالامتيازات والفرص الشخصية أو الفئوية، لكنها لم تعالج أصل المشكلة وأتت على حساب الأغلبية الصامتة. <BR><BR>تلك الانتهازية السافرة والمصالح الفئوية الضيقة، لا يتوقع منها أن تتراجع أو تتنازل عن مصالحها وأهدافها، ولئن كانوا قد استجابوا لسياسة الاحتواء وتفاعلوا معها وأظهروا الإخلاص لها تحت مظلة وعباءة الوطنية الواسعة الفضفاضة، فإنه سيكون من المهم دراسة حقيقة وصدقية هذا التفاعل والإخلاص من قبل صاحب القرار الذي منح هذه الفئات ثقته التامة، ومن قبل شرائح المجتمع التي لا تزال تنخدع بهذه الفئات ويلبس عليها أمرها، رغم أننا لا نغفل أن هذا المطلب سيكون بالغ الصعوبة في هذه المرحلة، وقد تشابكت المصالح وتعددت وتعقدت علاقات المنتفعين.<BR><BR>المؤسسة العلمية الدعوية الرسمية هي جزءٌ من تركيبة البلد بطبيعة الحال، ولقد تفاعلت مع مسيرة البلد التحديثية كما تم الإشارة إليه في المقال السابق، وحاولت – ما أتيح لها المجال – مدافعة الخروقات التي تحدثها الأطراف المعارضة سابقاً والمتنفذة حالياً، في سفينة المجتمع، كما حاولت تنبيه صاحب السلطة إلى حقيقة وخطر هذه الفئات وما تهدف إليه.<BR>ولا ينفي هذا أن يكون قد وجد من الأوساط العلمية والدعوية مَن استجاب كذلك لعروض الترغيب والترهيب وانساق في منظومة المصالح المترابطة، فذلك من طبيعة النفس البشرية التي لا يسلم منها أي توجه، لكن الفارق أن هذه العناصر تبقى محدودة ومنتقَدة، كما أنها لا تمثل التوجه العام الذي يشمل الأوساط الدعوية في كافة طبقات المجتمع السعودي المحافظ بطبعه.<BR>إلا أن الأغلبية في الأوساط العلمية والدعوية _وخصوصاً المستقلة منها_ لم تجد أنه سيسعها المجاملة والمداراة في هذه المسائل أو تحقيق المصالح الحزبية على حساب الصالح الشرعي العام، حتى ولو كان في ذلك سبب للتضييق عليها بذاتها وبأفرادها، ولذلك اضطرت لإعلان خطابها الإصلاحي العام وتسجيل ملاحظاتها وانتقاداتها الإصلاحية على مسيرة البلد بشكل علني، وخصوصاً منذ وقوع أزمة الخليج الثانية وما تبعها من تطورات، وقدمت جهودها التوعوية المتنوعة بأساليب سلمية ومراعية لطبيعة البلد، والتي شملت فيما شملت وثيقة المطالب ومذكرة النصيحة الشهيرتين اللتين قدمتا للجهات الرسمية في البلد، وتحمل الجميع من العاملين في هذه الأوساط لسوء الظن بهم والإساءة المعنوية والحسية بسبب تلك المطالب الإصلاحية التي أعلنوا بها وصرحوا، وجعلوا عموم الناس يطلعون عليها ويحكمون على حقيقتها ومقاصدها وأهدافها.<BR>في ذلك الوقت بالذات لم نسمع للفئات الأخرى الفكرية منها والمذهبية أي نداء للإصلاح مع الانكشاف الواضح للأخطاء السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي كان البلد يسير وراءها وكان لا بد من إصلاحها قبل وقوع هذه الأزمات التي يعاني منها الجميع الآن.<BR>لم نسمع منهم أي نداء للمشاركة السياسية ولا لحرية الرأي والتعبير، ولا المطالبة بحفظ الحقوق الخاصة والعامة، ولا الإصلاح الاقتصادي، ولا الإصلاح الاجتماعي، وخصوصاً في شأن المرأة، لم نسمع منهم شيئاً من ذلك سوى المحاولة الصبيانية الطائشة في قيادة عدد من النساء للسيارة أو الكتابة الصحفية المشوهة لصورة الدعاة المصلحين من مثل رسائل ما سمي بـ "حتى لا تكون فتنة!!!".<BR>هذه الفئات المتنفذة الآن والمنتفعة آثرت الصمت و ساهمت في خطاب التزكية والتمجيد الذي كانت البلد لا تزال تسير فيه، طبعاً لأنها لا تزال منتفعة ومتسترة ومتغلغلة داخل البلد، ولا تريد أن تفقد هذه المزايا بتبني المواجهة والمطالبة بالإصلاح، وسيكون من مصلحتها بحسب نظرتها الانتهازية الفئوية أن تترك التيار الإسلامي المستقل ليقوم بهذا الدور، ويحرك سكون البلد والمجتمع إلى أن يحين لها الدخول لقطف ثمار هذا الدور.<BR>الآن – والآن فقط – بعد أن اضطرت السلطة السياسية تحت وقع التحديات الخارجية والداخلية، أن تعترف بوجود الأخطاء، وتسعى بنفسها للخروج من هذا المأزق وحشد الجميع ممن كانت تختلف معهم سابقاً بشكل جزئي أوكلي للوقوف موقفاً موحداً في مواجهة تلك التحديات تحت مظلة "الوطن".<BR>في هذه اللحظة فقط، وبوجود التأييد والدعم الخارجي والأمريكي منه خصوصاً، انطلقت تلك الفئات تصرخ وترفع صوتها مطالبة بالإصلاح فانهالت على المسؤولين بالبيانات المتعاقبة والزيارات المتتالية، وأصبح البلد في مشهده العام لمن يرقبه من بعد، يسير في سباق محموم بين مراكز القوى المختلفة دون أن يدري أي منها في تقديري إلى أين سيؤول هذا الصراع، ولمصلحة من؟ بل إن البعض منها أصبح يطالب بمطالب تقترب من الانقلاب الدستوري الأبيض على حقيقة البلد وجوهره دون أن يؤدي ذلك لتوترات أو اعتقالات كما قد أدى من قبل، ولا شك أن فارق التوقيت له دور، لكنه أيضاً اختلاف المصدر وتنوع أو تضاد الشخصيات الموقعة يفسر التغاضي عنها، فالسقف هنا هو الوطن وليس الحزب أو المذهب، وهكذا يجيد الساسة اللعب على الحبال.<BR>وللاعتراف بالحقيقة المرة، التي بدأ يتلمسها الكثيرون من أبناء البلد ومتابعيه، فلا بد من القول أيضاً: إن بعض أطراف التيار العلمي الدعوي المستقل كان لهم دور – هذه المرة – في مضاعفة الأزمة التي تعيشها البلد ولا تزال تنذر بالمزيد، بل يرى بعض المراقبين أن مجموعة "الملأ" القابضة على زمام منظومة المصالح ومراكز القوى المتشابكة في البلد قد نجحت - إلى حدٍ ما- في استقطاب عددٍ من أطراف هذا التيار للتوافق والتعاطي والانسجام مع المنظومة ذاتها، وأقنعتهم بشتى التسويغات والتبريرات للمساهمة فيها والانسياق معها، وهذا بالتحديد ما يدفع بالكثيرين إلى وضع أيديهم على قلوبهم شفقةً على مسيرة ومنجزات الصحوة الإسلامية العميقة في هذا البلد التي كانت تعرض نفسها إلى وقت ليس بالبعيد كنبراس لبقية الحركات الدعوية في العالم العربي والإسلامي، <BR>وحتى يتضح المقصود من ذلك، سأستعرض باختصار اثنتين من القضايا الكبيرة التي تواجه بها الصحوة العلمية الدعوية المستقلة في السعودية من قبل خصومها المتعددين والمتبايني الاتجاهات، والمتفقين على موقف واحد من الأغلبية المحافظة ورموزها المستقلة في ذات الوقت، حتى نتلمس الفارق بين معايير ومقاصد الإصلاح بين هذا الطرف أو ذاك.<BR><BR><font color="#FF0000">أولاً: مسؤولية الخطاب الديني عن الإرهاب: </font><BR>هذه اللافتة الضخمة المتضمنة للعديد من الجبهات التي يتم فيها حالياً تصفية الحسابات مع التوجه الديني المحافظ الذي تتسم به البلد وشعبها، لا أدري أبداً كيف ننساق وراءها تلقائياً ودون تمنع.<BR>ففي العرف السياسي التفاوضي، أنت لا تسقط اتهامات الخصم بالاعتراف بهذه التهم ثم محاولة الالتفاف عليها؛ لأنك ببساطة تثبت هذه التهم بالاعتراف وإن أتبعته بـ"لكن".<BR>فدعونا نتساءل أولاً هل الخطاب الديني مسؤول عن الإرهاب؟!!<BR>الإجابة قطعاً لن تكون سهلة ولا مباشرة بسبب سعة طيف هذا الخطاب بين الرسمي وشبه الرسمي، والعلمي المنهجي والعلمي الدعوي الاجتهادي، والحركي المستقل والحركي الحزبي، فعن أي خطاب ديني يتحدث هؤلاء، ما لم يتم التفصيل والوضوح والصراحة فسنقع في الخلط والتضليل، وأدنى ما يجب أن نطرحه أن هذا الطيف الواسع في الخطاب الديني لطالما وقعت بين أطرافه الاختلافات إن لم أقل حتى الخصومة في الاجتهادات والقراءات التطبيقية على الواقع، فعلى ذلك من الإنصاف والعدل أن تطرح الأمور بكل تفصيل وتحديد حتى نعرف أي هذه الأطياف الخطابية كانت أكثر مسؤولية عن الإرهاب وما نسب المسؤولية عند كل طرف منها إن كانت تتحمل شيئاً منها.<BR>هذا أمر، أما الأمر الآخر فهو من الجانب التاريخي الواقعي، إذ كان من المنتظر على أطراف التيار العلمي الدعوي المستقل أن يجادلوا بأن خطابهم ونشاطهم السابق ساهم للحقيقة في تأخير الإرهاب وتأجيله لا في تأجيجه كما يدعي المدعون، فحين كان خطابهم الديني سائداً ومتميزاً عن بقية الخطابات الدينية لم نشهد شيئاً من هذه التفجيرات، وكان رموز هذا الخطاب يحتوون حماس الجموع بحجة أنهم يقومون بدور الإصلاح عنهم فلا داعي للتهور والاندفاع، وكانوا يحذرون الجهات الرسمية مما يسمعونه ويشاهدونه من هذه ا لمعاني، إلا أن الموقف الرسمي حينها كان يردد السخرية والاستهزاء بهذه التحذيرات.<BR>وحين أسكت هذا الخطاب وحوصر وأحرجت أطرافه المختلفة في عام 1995م، اندفعت من بيننا تلك العناصر المتحمسة مُوَجَّهةً هذه المرة بخطابٍ ديني جديد يستدل على صحة اجتهاده بفشل الخطاب العلمي الدعوي المستقل -كما يدعي- وبإسكاته رسمياً، وبإطلاق نوع آخر من الخطاب الفكري والثقافي والاجتماعي لا يحترم المسلمات الدينية مصحوباً بتطبيقات وخطوات ومشاريع متنوعة في مجالات المجتمع المختلفة حادت عن المراعاة المعتادة في هذا البلد لهذه المسلمات.<BR>هذا هو المسؤول عن الإرهاب المنظم الذي بدأ من تفجير الرياض لعام 1996م، لا "الخطاب الديني" بذاته الذي يعمم الحديث عنه هكذا بإطلاق ودون تفصيل، بينما يراد الآن من محاصرته الإجهاز ليس فقط على "الإرهاب" وليس فقط على الخلفية الدينية المعينة التي تكبل البلد كما أصبح يردد دعاة الانقلاب الشامل، وإنما الإجهاز على جوهر الحقيقة المعرفية الأساسية للدين الإسلامي الحنيف القائمة على أن الحقيقة الشرعية الدينية مطلقة وليست نسبية قابلة للقراءات المتعددة المتغيرة بتغير الزمان، كما بدأنا نقرأ صراحةً هذه الأيام في الكتابات الصحفية، ويغلفون ذلك كله بأنه هروب من المفاهيم الدينية "الخاطئة" التي يروج لها دعاة "الإسلام الحركي المسيّس" ...!! ذلك المصطلح الذي تحرص وسائل الإعلام المحلية كثيراً على ترديده مؤخراً وربطه بصورة مغرضة ومباشرة بالإرهاب.<BR>فهل يا ترى نقبل بإصلاح يوصلنا لهذه النتائج ويحطم أركان المسيرة الدعوية الإصلاحية لهذا البلد من أساسها إذا كنا سنستجيب لمراوغات الساسة وألاعيبهم؟!<BR>نأمل ألا يكون ذلك.<BR><BR><font color="#FF0000">ثانياً: حرية الرأي والمشاركة السياسية: </font><BR>الأدبيات السياسية تقرر أن الاستبداد هو أسهل أنظمة الحكم التي عرفها التاريخ بالنسبة للحكام إذا تيسر لهم ذلك، واستطاعوا إقناع من حولهم به، لكنه أكثرها عرضةً للقلاقل وعدم الاستقرار إذا بدأت بذور التذمر والتظلم من هذا الاستبداد تنتشر بين الناس، وحينذاك ينصح الساسة الأذكياء بالتوقف عن الاستبداد والبدء بمنح ا لفرص والمشاركات وتوسيع الحريات.<BR>والحقيقة أن التاريخ الأوروبي يشهد بأن الديموقراطية كنظام حكم حديث نشأت في ظل التمرد على مظاهر الاستبداد الذي كانت تمارسه الكنيسة ورجالات الإقطاع، وحصلت حينها الصراعات بين مختلف مراكز القوى في المجتمع الأوروبي، حتى تمحور مفهوم الديموقراطية على حكم الأغلبية دون إخلال بحقوق الأقليات ومفهوم الحقوق على الحرية الفردية تلك القيمة الأساسية التي ترتكز عليها مجتمعاتهم، لكن يبقى السؤال هل تمكنت هذه التحولات السياسية الاجتماعية من إنهاء الاستبداد بالكلية ومن منح الحريات الحقيقية أم أنها مجرد امتصت حماس الجموع، واستوعبت التغيرات الطارئة، وأعادت توزيع الخارطة السياسية مع احتفاظ الأطراف الرئيسة بمفاصل القوة والقرار.<BR>القراءة الدقيقة للأساليب والمعايير السياسية من عدد من المتخصصين، تلمح أحياناً وتصرح أخرى أن هذه التحولات السياسية بما فيها نموذجها الغربي "الرمز" تهدف بالأساس لحفظ خارطة القوى التي صنعتها دون تهديد من الأزمات والتحديات التي تواجهها من الأطراف المختلفة، لكن من خلال معايير وأدوات خدّاعة ومضللة للجماهير.<BR>الآن بالانتقال للواقع السعودي الراهن، كيف يمكننا أن نقرأ حقيقة المطالبة الرسمية وشبه الرسمية بتوسيع المشاركة السياسية أو حرية الرأي والتعبير، وحقيقة التعاطي الإيجابي معها من أصحاب الفئوية الفكرية أو المذهبية، تأييداً وترويجاً.<BR>حتى نقرأ ونفهم هذا المتغير الضخم في تاريخ البلد، وكيف أصبحت هذه الأطراف هي التي تطالب به، لا بد أن نسأل من هو الطرف المبعد والمقصى تاريخياً وواقعياً عن العملية السياسية، وعن مراكز النفوذ والقرار، وسنجد بدون تردد أن الطرف الإسلامي العلمي الدعوي المستقل هو المبعد ليس بأشخاصه ورموزه فحسب، بل وحتى برؤيته وأطروحاته للحل والإصلاح.<BR>فهو إذ كان أول من بدأ بنداءات ومطالب الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي العامة وليست الفئوية الحزبية، وهو في الحقيقة من يمثل الأغلبية الصامتة في هذا المجتمع المحافظ.<BR>فلا بد أن يكون إذن هو المستفيد الأول والمطالب الأول، لكن الغريب أن المطالبة والاستفادة أصبحت بيد غيره هذه المرة وهو لا يزال يتفرج.<BR>وذلك لأن اللعبة السياسية القائمة تم الاتفاق فيها بين أطرافها الفاعلين المتظاهرين بالوطنية والتقدمية على الاستمرار في إقصاء هذه الأغلبية المحرجة لهم والمهددة لمصالحهم وممثليها الحقيقيين والاستمرار في منح الفرص والامتيازات للأطراف الفئوية الفكرية أو المذهبية، لكن هذه المرة من خلال بعض جوانب "اللعبة الديموقراطية" التي كما ذكرنا سابقاً أنها تهدف في الأساس لتقنين وتشريع تهميش الأغلبية وأطرافها غير المتنفذة وغير المنسجمة مع منظومة المصالح والقوى المتسيدة، بأساليب عصرية وعالمية و"ديموقراطية". ولك أن تتلمس مثل هذه الشروط والقواعد المدروسة من خلال الاحتكار والتوجيه الإعلامي الضخم الذي لا تزال البلد تغرق فيه، ومن خلال بعض الكتابات الصحفية التي بدأت تطالب من الآن بتنمية ثقافة المشاركة السياسية وحرية التعبير، والتي ينبغي في سيناريوهاتهم أن تبتعد عن التأثيرات القبلية أو الدينية "السلفية" كما كتب أحدهم مؤخراً. <BR>ويبررون كل ذلك بالحرص على إنقاذ البلد من الإرهاب وإعتاقه – كما يقولون – من الأحادية المذهبية الفقهية والأحادية الثقافية، بل وأحادية القرار الخاطئ ومظاهر الفشل والإخفاق المتعددة الجبهات التي أصبحت تلقي مسؤولياتها كلها وبدون استثناء على "الخطاب الديني"، وخصوصاً في صورته المستقلة. أي إجحاف وخلط وتلبيس أكبر من هذا الذي نشهده ونراقبه، وأي إصلاحٍ لن يزيد الأمر إلا سوءاً واستفحالاً وسيهدم البناء على ساكنيه جميعاً أشنع مما يقدم لنا، والويل كل الويل لمن يقف في طريقه.<BR>وإلا بالله عليكم فسروا لنا سر الحصار الإعلامي والاجتماعي الذي يحاط به هذا التيار ورموزه المحافظين على استقلالهم، والذين لا تمنح لهم في زمن الإصلاح أي فرصة ولا يعطون أي مشاركة سياسية أو غيرها ولا تكفل لهم أي حرية أياً كانت ولو كانت نشاطاً طبياً علمياً (...!!)، إلا إذا قبلوا بالمعايير الجديدة للعبة، والتي تقتضي المشاركة بالشروط المفروضة، والاندماج في المنظومة المتماسكة والمساهمة في الحد الأدنى من التزكية وغض الطرف الذي لا بد أن يقبل به الجميع، والتسليم بالتخلي عن القناعات القديمة والمكتسبات والإنجازات من خلال التنازل عنها للآخرين أو إشراكهم فيها، بحجة أن ذلك هو الوسيلة الوحيدة لاستئصال "الإرهاب"، ثم مع هذا يأتي من يأتي ويدّعي بأن العلماء والدعاة المستقلين يريدون أن يخطفوا البلد في لحظة عابرة..!!.<BR> ولا ندري في ظل هذا الكيد والتلبيس مَن الخاطف ومَن المخطوف...!! كما لا ندري إلى أين سينتهي السباق "الإصلاحي" المستعر بين الدعاة والساسة ، ومن الذي سيتمكن من تحقيق "الإصلاح" الذي يتطلع إليه!؟ غير أن اليقين بحفظ الله لهذه البلد المؤسسة على مهبط الوحي وأرض الحرمين هو الذي يمنح الطمأنينة للقلوب والثقة بأن جهود الدعاة المصلحين القديمة والحديثة في هذه الأرض لن تذهب سدىً في ميزان العزيز الحكيم، ولكنها المداولة للأيام كما قال _تعالى_: "وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ" (آل عمران: من الآية140).<BR><br>