الديكتاتوريات الإعلامية....وفن الإقصاء
1 ربيع الأول 1424

     كانت السعودية قد تعرَّضت في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر لحملات إعلامية أمريكية مركَّزة وعلى فترات متفاوتة، وذلك من خلال افتتاحيات كبريات الصحف الأمريكية وكتَّاب الأعمدة البارزين فضلاً عن البرامج التلفزيونية الحوارية المشهورة. </br> في المقابل تمحورت المواقف الرسمية في البلدين على وصف تلك الحملات بالآراء الصحفية لإعلام حر مستقل لايعبِّر عن الرأي الرسمي. مما حدا – فيما يبدو – بالإعلام السعودي إلى أن يحاول ممارسة ذات الدور حتى ولو كان بطريقة مصطنعة متكلَّفة، متناسياً أن هذا الدور الإعلامي لابد أن يمر بطريق طويل من المواقف والخطوات المستقلة استقلالاً حقيقياً والملتزمة بمعايير الصنعة الصحفية المعتبرة والمتحدثة بمسئولية وأمانة عن شرائح المجتمع المختلفة، والمعبِّرة عن آمالهم وآلامهم في مقابل أجهزة الدولة المختلفة. </br> أما وواقع الإعلام السعودي والصحفي منه تحديداً مما لايخفى على الجميع، فإنه لم يكن مستغرباً أن تواجه أستاذة علم الأديان المقارن بجامعة الملك فيصل الدكتورة / أميمة الجلاهمة ما واجهته من رئيس تحرير الجريدة التي كانت تكتب فيها، حين ظنت أن هنالك تغيراً ما طرأ على الجريدة مع هذه المتغيرات فكتبت مقالاً قوياً عن اليهود ونفوذهم داخل أمريكا، مما أثار حفيظة السفارة الأمريكية بالرياض وأوساطها المناهضة لما يسمَّى بمعاداة السامية، فأرادت السفارة أن تعيد هذا الإعلام إلى واقعه الحقيقي، وكان لها ما أرادت، فاعتذرت الجريدة بقلم رئيس تحريرها وأوقفت الدكتورة المتخصصة عن الكتابة بل وتداولت الأوساط الإعلامية المحلية نبأ زيارة اعتذار ومجاملة من رئيس التحرير للسفير . <BR>     كانت هذه الحادثة رداً كافياً لإعادة هذا النوع من الصحافة والإعلام إلى نمطه الطبيعي ودوره الحقيقي الذي يصنَّف على أساسه، فهو يصنف كأحد القطاعات الحكومية العامة المكبَّلة بعوائق العمل العام والمقيَّدة بالعقليات المتكلسه لموظفي هذا القطاع وبالشخصيات القيادية منهم خاصة، التي عادةً ماتبقى في مكانها لسنوات احتكارية طويلة فتتحوَّل إلى أهم أسباب الإعاقة لهذا الإعلام مع طول الزمن. ومهما حاول الفكاك والتحول إلى العمل الخاص والاستقلال ظاهرياً فلن يستطيع مادامت نفس الشخصيات لاتزال تحتكره. <BR> هذه المعضلة تحديداً هي التي تفسِّر الإخفاقات المتتالية لهذا الإعلام وعجزه المتأصِّل عن تقديم أساسيات العمل الصحفي الحقيقي واختزال دوره إلى مجرَّد مشاريع اقتصادية ضخمة لنشر الإعلانات المحلية والمتاجرة بها مع شيء من زوايا الكتاب لأسماء تقبل شروط تلك الديكتاتوريات الإعلامية المتسلِّطة ومضايقاتها التعسفية، انتفاعاً من البعض، واضطراراً من البعض الآخر الذي لايجد وسيلة لمخاطبة الجمهور صحفياً إلا من خلال هذه "المؤسسات" الصحفية الحكومية ومن خلال قياداتها المتسلِّطة ويتحمل في سبيل ذلك الكثير من المضايقات كما هو حال الكاتبة المرموقة وصاحبة القلم المهموم بمآسي وآلام الأمة الدكتورة نورة السعد، والتي نرجو ألا يصل بها الحال إلى مثل النهاية التي دفعت بالدكتورة أميمة الجلاهمة إلى الإعراض تماماً عن هذا النوع من الصحافة والتوجه إلى صحيفة خارج البلد .<BR> بل فوق هذا وذاك نجد أن هذه المعضلة المتأصِّلة في هذا " الإعلام المحلي" هي أحد أهم الأسباب التي دفعت الجهات الرسمية في السعودية إلى إنشاء مؤسسات إعلامية ضخمة خارج البلد لتقوم بدور التغطيةالإعلامية لشئون البلد الخارجية واختزال دور الإعلام المحلي في واقعه المتكلِّس الذي تديره الشللية الإعلامية منذ سنوات وتعيق أي محاولة لمعالجته. <BR><center><font color="#0000FF"> * * * * * * * * * * * * * * * </font></center><BR>     الآن وبعد انتفاء الحاجة للحملات الإعلامية المتبادلة التي أنهت أغراضها مع انتهاء الحرب الأمريكية العسكرية على العراق، وذهول المنطقةمن قدرة الأجنبي على اختراقها من خلال بعض الانتهازيين فيها، وكبح جماح العواطف أوالانفعالات التي ارتفعت أثناء الحرب مع مفاجأة الصدمة لها. <BR> بعد ذلك كله تنفست الأوضاع العربية الرسمية والإعلامية الصعداء وبدأ كل يفسِّر الأحداث بما يخدم قضيته، ويوجهها بما يصفي به الحسابات مع هذه الجهة أو تلك في الداخل. <BR>وانطلق ديكتاتوريوا الإعلام المحلي يحشدون الجميع للتسليم بالأمر الواقع والتعايش مع النفوذ الأمريكي الجديد، بل ويشنِّعون على " المغفَّلين" و " اللاعقلانيين" و " التصنيفيين" الذين " يروِّجون لأفكار معزولة عن حقائق المجتمع وحقائق العالم عبر أشرطة الكاسيت " و " المشغولين بتصعيد أهميتهم الدينية والاجتماعية في عيون الناس" <BR>و " أصحاب الكتل الثقافية الشبيهة بقبائل البادية التي تغيِّر ولاءاتها لمن يدفع أكثر" و " الأقلية" و " الظاهرة" التي قامت "بتلميع ذاتها وترويج كفاءة قدرتها عن طريق استخدام الإسلام رداءً لتحقيق طموحات شخصية". <BR> هذه ليست مبالغات بل كلمات وفقرات بالنص من الحملة الصحفية المطلقة مؤخراً في الصحافة السعودية على الدعوة الإسلامية في هذا البلد وبعض رموزها. والتساؤل الذي يتداوله الكثيرون على إثرها، ترى كيف ننظر لهذه الحملة أهي آراء لصحافة حرةٍ مستقلة(…..) أم أنها جزء من برنامج رسمي حكومي،انطلاقاً من طبيعة ونمطية هذا الإعلام المحلي… !!؟<BR> والذي أتوقعه – من خلال معرفة ومتابعة لهذا الإعلام المحلي ورموزه وقياداته – أن الحملة لاتعدو أن تكون فلتات وتنفيس عما كان يجيش في الصدور الإعلامية وهم يرون هذه الدعوة يرتفع شأنها ويعلو قدرها بين الناس، بل وهم يرون رموزها يحظون بتقدير الشخصيات الرسمية في البلد الذين عرفوا فيهم رجالاً غير الرجال، وخبروا منهم مواقف غير المواقف، فأُسقِطَ في أيدي الدكتاتوريين الإعلاميين ومن يساندهم ولم يجدوا بداً من استغلال تحكمهم في الإعلام المحلي لتمرير هذه الحملة والاستمرار فيها، لو ترك الأمر لهم في ذلك. <BR><BR> الغريب أن حملتهم هذه تركَّزت على شخصية وعطاء فضيلة الشيخ سلمان العودة – الذي توفَّر له <BR>حضور إعلامي ملحوظ مؤخَّراً – دون تسميته، ودون أن يتجرأوا على النيل المباشر منه إلا بعد تسليم بغداد والاجتياح الأمريكي لها…!!، رغم أنهم كانوا يعلِّقون على مشاركات إعلامية للشيخ تسبق الاجتياح بأسبوع على الأقل، ولقد أغفلوا بشكل متقصد الكثير من الطروحات الإيجابية التي يقدمها الشيخ مؤخراً، والاجتهادات التي تدعم الاستقرار المحلي وتحظى بتقدير عددٍ من الأوساط المحلية، ويتعرض الشيخ بسببها لشيء من سوء الفهم في مجمل الأوساط الدعوية .<BR> أغفلوا كل ذلك وأقاموا أساس حملتهم على دعوى تناقض في خطاب الشيخ حول الجهاد في العراق: وبعيداً عن الخلاف الفقهي في المسألة والأغراض السياسية والتأثيرات الواقعية في هذا الموقف أو ذاك، أجدني أقف حائراً أمام التوظيف الانتهازي والتشويهي لمواقف الآخرين لمجرَّد الاختلاف معهم، حتى ولو أوقعهم هذا التوظيف في تناقضات أشد وأكبر. فبكل بساطة نود أن نسأل هؤلاء الإعلاميين والصحفيين البارزين كيف يفسِّرون لنا دعم الانتفاضة الفلسطينية وتشجيع الجهادي الفلسطيني الأعزل رسمياً وإعلامياً وشعبياً بالمقال وبالمال على مواجهة طائرات وصواريخ ودبابات اليهود المحتلين، في نفس الوقت الذي نقرأ ونشاهد فيه الهدم والخراب والتقتيل الجماعي اليومي للفلسطينين في الأراضي المحتلة … !!؟ <BR> أتُرى الفارق عندهم أن هؤلاء يواجهون الأمريكان وأولئك يواجهون اليهود !!؟.. لاأدري..!!، لكن الذي أدريه أن إلحاح الرغبة في إسقاط هذه المجموعات والرموز الدعوية الواسعة الانتشار والحظور والقبول والاحترام الرسمي قبل الشعبي، هو الذي يدفع هؤلاء للتناقض الحقيقي. <BR> <BR>ومن الملفت للنظر أن هذه الحملة وحتى لاتصنَّف أنها ضد الدين أو ضد المتدينين أو العلماء الرسميين، نجد أنها تحرص على تأكيد عدم الوقوع في هذا الخلط، فالحديث في مقالاتهم هو عن " المحافظين" وليس عن المتدينين الذين يمثِّلون المجتمع " كله" و " جميعه" كما يقولون، ولاحظ التوظيف الموحي في مفردة "المحافظين" الجديدة على بيئتنا والمستوحاة من الصراعات الأوروبية القديمة. <BR> كما تحرص هذه الحملة على تأكيد أن هؤلاء الصحفيين ليسوا معزولين عن " المؤسسة الدينية المستفيدة(…) بالعلم والعقل" وأنهم " يلتقون بهم ويستفيدون منهم ويتلقَّون الرأي السديد والتشجيع المستمر منهم" لا كماهو واقع الحال لهذه " الأقلية " و " الظاهرة" المعزولة عن المجتمع والواقع …!!!<BR> ولسان حال الأكثرية من أهل البلد تتساءل بكل مرارة، ترى من هم الأقلية المعزولون عن المجتمع والمصرُّون على فرض أهوائهم ومصالحهم على الأكثرية!!!<BR>مساكين هؤلاء القوم، فهم حتى في تطبيقاتهم الإعلامية المحورية التي يفترض فيها أن تكون مدروسة وملتزمة بمعايير الصحافة المهنية حتى تقنع القرَّاء وتكسب الجماهير، تجدهم يخفقون ويتخبَّطون ويخسرون أكثر مما يكسبون. إن ممارساتهم الإعلامية متهاوية حتى بالمعايير الأمريكية التي يدعون أنهم يروجون لها، ويجاهرون بذلك ولا يسرون !!، فالبون شاسع بينها وبين ممارسات الوفود الصحفية الأمريكية والأوروبية المتكررة التي فتح لها المجال مؤخراً وأخذت تتقاطر على هذا البلد لتنقل بكل وضوح ودون تدخل متعمد ماتراه قياداته الدينية المستقلة من وجهات نظر أو مواقف رغم البعد الجغرافي ورغم الحساسيات السياسية لبعض هذه المواقف على تلك الصحف والدول التي تنتمي إليها. ومع هذا لم يمارسوا حصاراً إعلامياً متقصداً ولا تشويهاً متكلفاً، كما تفعل الديكتاتوريات الإعلامية المحلية لدينا. <BR><center><font color="#0000FF"> * * * * * * * * * * * * * * * </font></center><BR>     هذه الحملة تدفعني – والكثيرين غيري في هذا البلد – لرفع الصوت برفض الديكتاتوريات الإعلامية المتسلِّطة على إعلامنا بوسائله المختلفة والمحتكرة له والمملية لرغباتها وقناعاتها ومشاريعها على هذا الإعلام والمقصية لكل من لايتفق معها. <BR> وبالمطالبة العالية لأصحاب الشأن أن يعيدوا النظر في هذا الواقع الإعلامي، فلقد آن أوان ذلك ونحن نسمع كل يوم وآخرالحديث عن التعددية وتفعيل المشاركة الواسعة لشرائح المجتمع المختلفة، وأن يوقفوا هذا الاحتكار الإعلامي من هذه الفئة والتي تضطر غيرها للكاسيت وللنشر الإلكتروني. أو للتعامل الاضطراري أيضاً مع وسائل الإعلام الخارجية الحرة المتعددة.<BR> لابد أن تتاح للشريحة " المحافظة " الواسعة وسيلتها الإعلامية التي تستطيع أن تحقِّق بها شيئاً من التوازن والاعتدال بين الناس، وأن يكسر الاحتكار الذي تفرضه هذه " التيارات" الإعلامية على وسائلنا لتكون – هذه الوسائل – أصدق تمثيلاً وتعبيراً عن المجتمع، وأن يلزم الجميع بمواثيق ومعايير النشر المعتدلة والموضوعية، وبالمسؤوليات الشرعية والأخلاقية المعتبرة في هذا المجال، وأن يبتعد الجميع عن هذا الاستقطاب والتنافر والاستعداء الذي لايخدم مصلحة البلد أبداً. <BR><br>