أنت هنا

بين دفاع أوغلو وغياب الرواية في الأدب الإسلامي
17 صفر 1429

ذكريات جامعية عزيزة انسابت بهدوء إلى نفسي، وأنا أتجوّل في معرض الكتاب بالرياض في الأسبوع الماضي، وتعاظمت تلك الذكريات، وقتما تراءت صور وحوادث مع نفرٍ غالين من زملاء الجامعة، وألفيتنا ونحن نغشى معارض الكتاب التي راجت في الثمانينيات بمدخراتنا القليلة من مكافآتنا الجامعية، ونتسابق في اقتناء أحدث الإصدارات، ولطالما وقفنا عاجزين أمام شراء بعضها لفحش السعر بالنسبة إلينا. وكنا كمن يقع على كنز أو غنيمة، وتتحلّب أشداقنا، إذا ما عثرنا على كتاب ممنوع أو قيّم كنا نجدّ البحث عنه، ولربما بالغنا تفاخراً - بحسب فورات العمر تلك - فيمن كانت مكتبته الأكثر والأغنى بالكتب التراثية النفيسة. وبالطبع كانت أيام الإجازات هي الأفضل بالنسبة لنا، ونحن ندّخر مجموعات الكتب العميقة لقراءتها، وتلخيص أهمّ محتوياتها؛ ليتمّ النقاش حولها إذا جمعتنا مقاعد الدراسة. بيد أن ذلك العصر الذهبي ولّى مع ولوجي لعالم الصحافة، الذي أكل الأخضر واليابس من الوقت، فلم يعد لي ذلك الترف الذي أمضيه في هوايتي الأثيرة مع القراءة، لذلك وجدتني متحسّراً وأنا أطالع كتباً في المعرض لطالما تمنيت اقتناءها وقراءتها، بل تفاجأت كثيراً- كصاحب خبرة وتجربة مع هذه المعارض - بكتبٍ لم أتصور يوماً أن تدخل بلادنا، وبالتأكيد أنا مع دخول معظمها، وعدم الحجر عليها، لأن التجارب أنبأتنا بأننا عند منعها يشتهر أمرها ويتزايد الإقبال عليها من جهة، ومن جهة أخرى بات أي ممنوع متاحاً مع شبكة الانترنت، فالذي يريد الحصول عليه سيجد كتابه دون عناء.

وإذ دلفت للخيمة العملاقة التي تُلقى فيها المحاضرات، معوّضاً حسرتي على عدم اقتناء الكتب، لشكرت ما بيني وبين نفسي القيّمين على المحاضرات لحسن اختيارهم لمحاضري هذا العام، وقد تجنـّبوا ما حصل في العام الماضي من احتقانات سلبية، فجلبوا لنا أعلاماً وأسماء لها عمقها التخصصي، مبتعدين عن أولئك الذين طغت توجهاتهم الفكرية المؤدلجة على تخصصهم.

واستمتعت كثيراً بحضور جزء من محاضرة للبروفيسور أكمل الدين إحسان أوغلو، واستمعت إليه يتحدث عن الدولة العثمانية، ولشدّ ما أذهلني أنه فجّر عدة قنابل - لم أسمعها قط ّمن غيره- وهو يعترض على الدكتور عبدالعزيز المانع الذي عقب على محاضرته، ووصف عصور الدولة العثمانية الأخيرة بأنها عصور انحطاط وظلام واستبداد، فرد أوغلو عليه بأن ذلك غير صحيح، بل ذهب أبعد من ذلك عندما قال بأن المستشرقين، وغلاة القوميين العرب هم من شوّه تاريخ الدولة العثمانية، وأشاعوا بأن التنوير دخل العالم العربي مع مطبعة نابليون، بينما الحقيقة غير ذلك، لأن نابليون جلب مطبعته لخدمة احتلاله لمصر، وطبع بيانات الحكومة الفرنسية المحتلة، وأنه أخذ تلك المطبعة معه لفرنسا بعد اندحاره عن مصر، وجزم أوغلو بأن التنوير بدأ مع عصر محمد علي، وتساءل – ببراءة ودهاء - عن عدد الضحايا الذين ماتوا على أيدي خصوم جمال باشا(السفاح) بعد رحيله، وغير ذلك مما تقرأوه اليوم في تغطية (الرسالة).

ما طرحه أوغلو - وبالتأكيد أتفهّم انحيازه لقوميته- يحتاج منا إلى إعادة نظر، ولعلّي أطلب من المتخصصين في حقبة الدولة العثمانية من أكاديميينا بأقسام التاريخ إكرامنا بمداخلات تسلّط الضوء على الدولة العثمانية، وتضع ما قاله الرجل عنها في مكانها الصحيح بتجرّد علمي ورؤية أكاديمية .

الأمر الآخر الذي أثارني في معرض الكتاب، هو فشوّ الروايات، وإقبال الناشئة عليها، ما جعلني أضرب كفاً بكفٍّ، وأنا أتحسّر عن غياب الرواية الإسلامية. فتشت في ذاكرتي الشائخة، أبحث عن روائيينا الإسلاميين الذين يمكن لنا أن نفاخر بهم في هذا الميدان، فلم أجد سوى علي أحمد باكثير في روايتيه (الثائر الأحمر)، و(وا إسلاماه) أو بضع روايات لنجيب الكيلاني (عذراء جاكرتا)، أو (ليالي تركستان)، أو ( دم لفطير صهيون).. وجلّها بالتأكيد لا يرقى إلى الرواية الأدبية المحترفة، ويمكن أن نضيف إليها بضع روايات لمحمد عبدالحليم عبدالله، ولا أجد بعد ذلك أية أسماء لامعة لا محلية ولا عربية..

أيُّها السادة: شابة مثل رجاء الصانع قلبت المجتمع فترة ليست بالهينة، بسبب روايتها (بنات الرياض)، وقبلها تركي الحمد في (ثلاثيته)، وتصطف أسماء في طابور طويل تبدأ بـ "عبده خال"، وتمر بـ "ليلى الجهني"، و"زينب حفني"، ولا تنتهي.. صحيح أن معظم تلك الأعمال لم تبلغ درجة الاحترافية الروائية، غير أن خوضها في التابوهات الاجتماعية هو مَن أعطاها الشهرة والزخم، كل ذلك لا يهمني بقدر ما أسأل أساطين وروّاد الأدب الإسلامي: لماذا لا يوجد لدينا روائيون ينطلقون من رؤيتنا وعبر أصالة هذا المجتمع؟ أيعقل أن يختزل حِراك مجتمع كبير في رؤية فئة ربما تكون مجهرية، لكنها من تترجم هذا الحراك بلسانها؟ أسئلة كثيرة تلوب في نفسي تبحث عن إجابة، فهل يتفضل أحد من المهتمين لإجابتي بشجاعة عن سبب غياب الرواية والروائيين في التيار الإسلامي ؟.