ثلمَّ في الدينِ ثَلْمَة..[بعد وفاة الشيخ بكر أبو زيد]!
2 صفر 1429

الحمد لله الذي جعل في كل زمانٍ فترةٍ من الرُّسل بقايا من أهل العلم.. يَدُلُّون من ضلَّ إلى الهدى.. ويُبَصِّرونَ بنور الله أهلَ العمى.. فكم من قتيلٍ لإبليسَ قد أحيَوه.. وكم من ضَالٍّ تائهٍ قد هدوه.. فلله ما أحسن أثرهم على الناس.. ولكن ما أَسوَء أثر المخذلين عليهم.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له.. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.. صلى الله عليه وعلى آله أصحابهِ ومن تبع سُنَّته وحفظ الدينَ وبلَّغه.. ونافح عنه إلى يومِ الدِّينِ... آمين , أمَّا بعدُ (1):

فقد قرَأتُ قبل سنواتٍ عديدةٍ كتابَ "التَّعالم.. وأَثره على الفكر والكتاب" وكان أوَّل كتاب أقرأه لفضيلة الشيخ العلاّمة بكر أبو زيد رحمه الله..

انغرسَ حُبُّ الشيخ في قلبي منذ أول قراءةٍ له.. أحببت ذلك القلمَ الذابّ عن حمى الشرع المطهَّر.. بقية السلف الصالح.. العالم الربَّاني.. فكنتُ أتتبع سيرتَه وكتبَه وأسأل عنه علِّي أظفر بلقاءٍ معه.

اشتريت العشراتِ من مؤلفاته.. وقرأت منها مراتٍ عدة.. أعيد القراءة بتركيز أكثر.. وأخرج بفوائد ولطائفَ أكثر.. أتلذذ بالتنقل بين السطور.. وأتمنى أن لا تنقضي تلكم المتعة.. وكنت أسأل عن الشيخ ولماذا لا نرى له محاضراتٍ ولا لقاءات.. فعلمت أن الشيخ يعاني من مرض شديد ألمَّ به.

فكنت أدعوا الله أن يُيَسر لي طلب العلم على يدَي هذا العالم الفاضل.. كنت أكرر الدعاء مراتٍ ومرات.. وأتتبع أيَّ معلومة عن الشيخ.. كنت أتمنى أن أرى وجهه.. أو حتى أن أسمع صوته.. فلم يحصل لي ذلك.. إلا بقليلٍ من التسجيلات الصوتية القديمة.

حتى هزَّ أعماقي الخبرُ.. وقضَّ مني المضجعَ.. وأبت عينيَ أن تنام وتهدأ.. وأخذتْ ترسل الدموع سيلاً من الألم يتدفق.. ياألله ما أعظم المصاب.. لقد مات ذلك العالم الفاضل.. أقسم أني لم أبكِ على رحيل شخص في حياتي كبكائي على موته.. رحمه الله وتغمده بواسع فضله.

يا إخوان.. والله إنَّ "فقد العلماءِ الربانيين نازلة كبرى.. وكارثة عظمى.. وغياب حملة الوحي ثلمة في الدين.. ومصاب للمسلمين.. وألم للمؤمنين.. وحزن للموحدين.. ياألله ما أعظمَ الخطب.. ياألله ما أفدح الأمر.. شموس تتهاوى.. وكواكب تتساقط.. ونجوم تأفل.. وأنوار تطفأ.. ومصابيح تخمد.. وعلماء يقبضون.. وأولياء يرحلون.. وفتن تحدق.. وأمور ترهق.. وليل يظلم.. وزمان يعتم..

ليس هنالك أكبر ظلمة.. ولا أشد عتمة.. من غياء العلماء العاملين والأولياء الباذلين.. فهم نور الدجى.. وضياء الحياة.. وزينة الدنيا.. الحياة بدونهم جسم بلا روح.. وشجر بلا ثمر.. وليل بلا بدر.. ونهار بلا شمس.. وسفينة بلا ربان.. وركب بغير حادٍ.. وتيه بلا دليل.. ووجود بلا مذاق.. وآبار بلا ماء.. وأدواء بلا دواء!" (2)

والله لقد هالَني الأمر.. لقد أمسكت القلم مراراً فسقط.. هل من كلام أجدى وأبلغ من البكاء؟!.. لستُ بالشاعر حتى أنظم لك القصائد في رثائك يا شيخنا.. ولست بالكاتب حتى أنثر لك السطور.. ولكني تلميذ أحبَّك.. وأراد أن يترجم تلكم الخلجات في فؤاده سطوراً.. علَّ السطور تسعفه..

لكن.. لئن رحلت يا شيخ بجسمكَ فستظل بعلمك وصدقك وإخلاصك تعيش بيننا.. كتبك موجودة ولله الحمد.. ورسائلك ومؤلفاتك وتحقيقاتك عامرة في المكتبات والدور.. وأتمنى أن تعاد طباعتها من جديد.. وتنشر بقية ما لم نجده من كتبه.. نشراً لعلمه رحمه الله.. وبرَّاً به أحسنَ الله مثواه.

طالعوا سيرتَه.. واقرؤوا كتبه ورسائلَه.. تمعَّنوا بلطائف كلامه.. واستفيدوا من نصائحه وكتاباته.. فستعرفون حسن السبك.. وجودة الأسلوب.. والتأصيل العلمي.. والفكر المنهجي الموضوعي.. والدراسات القيِّمة المحكَّمة.. حين تجتمع في المرء كيف تكون.. ولن تعدموا خيرا.

"إنَّ موت العلماء مصابٌ للأمة جمعاء.. كيف وهم مصابيح الدجى.. وعلامات الهدى.. كالشمس للدنيا والعافية للبدن.. فعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد.. ولكن يقبض العلم بقبض العلماء.. حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً.. فسئلوا فأفتوا بغير علمٍ.. فضلوا وأضلوا."

وعن أبي أمامة رضي الله عنه.. عن رسول الله صلى لله عليه وسلم أنه قال: " خذوا العلم قبل أن يذهب " قالوا: وكيف يذهب العلم يا نبي الله وفينا كتاب الله؟.. قال: فغضب!.. ثم قال: "ثكلتكم أمهاتكم , أولم تكن التوراة والإنجيل في بني إسرائيل فلم يغنيا عنهم شيئاً؟.. إنَّ ذهاب العلم أن يذهب حملته".

وعن ابن عباسٍِ - رضي الله عنهما - قال: أتدرون ما ذهاب العلم؟.. قلنا: لا , قال ذهاب العلماء.
ذهاب العلماء معناه: هلاك الناس , فعن أبي جناب رحمه الله قال: سألت سعيدَ بين جبير قلت: يا أبا عبد الله ما علامة هلاك الناس؟... قال " إذا هلك علماؤهم "

وقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: "لا يزالُ عالِمٌ يموت.. وأثرٌ للحق يدرس.. حتى يكثر أهل الجهل.. وقد ذهب أهل العلم فيعملون بالجهل.. ويدينون بغير الحق.. ويضلون عن سواء السبيل".

ويقول الإمام أحمد رحمه الله: "الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب.. لأن الطعام والشرابَ يُحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثاً.. والعالِمُ يحتاج إليه في كل وقت!".

وقال الإمام الآجري رحمه الله: "فما ظنكم رحمكم الله بطريق فيه آفات كثيرة.. ويحتاج الناس إلى سلوكه في ليلة ظلماء.. فإن لم يكن فيه ضياء وإلا تحيروا.. فقيَّض الله لهم فيه مصابيح تضيء لهم.. فسلكوه على السلامة والعافية.. ثم جاءت طبقات من الناس.. لابدَّ لهم من السلوك فيه فسلكوا.. فبينما هم كذلك إذ طفئت المصابيح.. فبقوا في الظلمة.. فما ظنكم بهم؟!"(3).

(وسلامٌ عليكم أيُّها العلماءُ الأجلاّءُ في العلماء العاملين.. وسلامٌ عليكم في عبادِهِ الصالحين.. وسلامٌ عليكم في الذَّابين عن تراثهم إلى يوم الدين.
و"أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه "..
والله الهادي إلى سواء السبيل(4).

اللهم فإنَّك لم تيسِّر لنا لقاءَ الشيخ بكر في الدنيا.. فلا تحرمنا من لقاءه في الجنة مع النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين.. يا رب العالمين.. اللهم وتغمَّده بواسع رحمتك يا رحيم السموات والأرض.. ووسع له قبره.. واجعله روضة من رياض الجنة.. وانشر علمه وانفع الناس به يا رحمن يا رحيم.. وصلي اللهم وسلم على نبينا محمد.. وعلى آله وصحبه أجمعين

______________________
(1) منقول نصَّاً من مقدمة الشيخ العلاّمة بكر أبو زيد رحمه الله على رسالته "الرد على المخالف من أصول الإسلام".
(2) منقول بتصرف من أحد مؤلفات الشيخ الدكتور ناصر الزهراني.
(3) منقول بتصرف يسير من أحد مقالات الشيخ الدكتور إبراهيم الدويش.
(4) منقول نصَّاً من خاتمة الشيخ العلاّمة بكر أبو زيد رحمه الله على رسالته " الرقابة على التراث".