دعوة التوحيد للانطلاق لا الجمود
20 ذو الحجه 1428

يرمي بعض الأدعياء دعاة التوحيد بالجمود ويزعم أن دعوتهم ليست دعوة شاملة لجميع مناحي الحياة، ولا ملبية لمتطلبات العصر، وعاجزة عن مسايرة المستجدات، فهي قاصرة على أمر معين هو العقيدة، ولا تتجاوزه لما يحتاج إليه المجتمع من علاج بعض الأمراض الخطيرة فيه.

ولعل نظرة عابرة، تبين تهافت هذه الشبهة وفسادها، وذلك لأن دعوة التوحيد هي دعوة الأنبياء عليهم السلام، وقد وضع الأنبياء عليهم السلام أيديهم على سائر أمراض المجتمع، فم يقفوا على فساد في مجتمعاتهم إلا ونصحوا قومهم وحذروهم منه، ولم يطلعوا على مرض من أمراض مجتمعاتهم إلا عالجوه وبينوا لقومه سبل الوقاية منه، إلا أنهم فعلوا ذلك انطلاقاً من الدعوة إلى التوحيد، فشعيب عليه السلام قال لقومه: "وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ" (هود: من الآية84)، وقال: "وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ" (هود: من الآية85)، وقال: "وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً" (الأعراف: من الآية86)، ولكن قبل ذلك كله قال: "اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ" (هود: من الآية84)، بل قرن هذا بالدعوة إلى الإصلاح الاقتصادي فقال: "وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ"، وكأن توحيد الله وإفراده بالعبادة أساس الإصلاح الاقتصادي الذي دعا إليه.

ولوط عليه السلام قال لقومه: "أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ" (الشعراء:165)، وقال: "أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ" (العنكبوت: من الآية29) ولكن قبل ذلك قال: "إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ" (الشعراء:162- 163)، وقد قال الله عنه وعن غيره من أنبياء الله: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ" (النحل: من الآية36)، ولوط من هؤلاء الرسل بنص قوله: "إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ" (الشعراء:162).

إن الادعاء سهل، ورمي التهم جزافا يسير ولكن إثبات الدعاوى والتدليل عليها هو المحك الذي يبين صدق المدعي من كذبه، فالأمر كما قال الشاعر:


والدعاوى إذا لم تقم   عليها بينات فأهلها أدعياء

فإلى أصحاب تلك الشبهة الباطلة والدعوى الجائرة القاضية بأن أصحاب الدعوة إلى التوحيد جامدون ليس لهم بالواقع دراية ولا بمتطلبات العصر عناية نوجه المطالبة بالدليل على ما يقولون، فإن البينة على من ادعى، وصدق الله تعالى القائل: "فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ" (النور: من الآية13)، والقائل: "قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" (النمل: من الآية64).

إن جهود دعاة التوحيد –على اختلاف مشاربهم- في كل مكان ظاهرة، وفي كل مجال حاضرة لا يحجبها عن أحد إلا الغي والهوى وصاحب الهوى أعمى لا يرى إلا ما يريه هواه.

وعلى دعاة التوحيد ألا يغتروا بتلك الدعوات الهادفة إلى الانحراف بالمسيرة، بل ليكونوا ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك"(1)، وقال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم"(2)، كما أن عليهم أن يدركوا أن قيامهم بالدعوة إلى التوحيد وما يقتضيه تتضمن الدعوة إلى الدين كله، فلا يثربن أحد على أحد أخذ بما يطيق ويحسن فأحسن فيه وترك ما لا يحسن مادام مقراً به عارفاً قدره، والله نسأل الثبات لنا ولهم على الحق حتى نلقاه إنه سميع قريب مجيب.

_______________
(1) رواه البخاري، 3/1331، (3442).
(2) رواه مسلم، 3/1522، (53).