أنت هنا

واشنطون وإدارتها لانتخابات باكستان
15 ذو الحجه 1428

تعقد سفيرة الولايات المتحدة لدى باكستان، آنيي دبليو باترسون، ظهورا مباشرا لنفسها على المسرح السياسي الباكستاني في هذه الأيام وتطالب وبشدة من الأحزاب السياسية الباكستانية المشاركة بالانتخابات وعدم مقاطعتها احتجاجا على ما قام ويقوم به الرئيس مشرف.
واجتمعت بنفسها مع عدد من السياسيين الباكستانيين بمن فيهم نواز شريف وأصرت عليه أن يشارك بالانتخابات. شريف الذي عاد لتوه من سنوات النفي قال انه وعدد آخر من الأحزاب قد يقاطعون الانتخابات المزمع عقدها بتاريخ 8 يناير القادم ولكنه قام بتغيير موقفه خضوعا منه لضغوط واشنطون.
جاء هذا التدخل العلني من رئيسة الدبلوماسية الأمريكية في باكستان بعد جهود طويلة ومكثفة قامت بها إدارة الرئيس بوش خلف الأبواب الموصدة لإملاء قضايا السياسات الاستراتيجية والداخلية على المؤسسة الباكستانية الحاكمة، مثل قضية كشمير على سبيل المثال، لجعل باكستان تقف دائما إلى جانب الحرب التي تقودها واشنطون ضد "الإرهاب" ومع سياساتها الإقليمية حول إيران وأفغانستان في العام المتبقي للرئيس الأمريكي في البيت الأبيض.
تدخل السفيرة الأمريكية في الشؤون الباكستانية يأتي في الوقت الذي يطالب فيه المجتمع المدني الباكستاني بإعادة تنصيب والإفراج عن ما يزيد عن 60 قاضيا عزلهم واعتقلهم الرئيس مشرف بجرة قلم أقام فيها الأحكام العرفية على باكستان بتاريخ 3 نوفمبر واستغلها لتمرير تغييرات على الدستور تكفل له تعزيز سلطاته بعد أن أصبح رئيسا مدنيا لا قوة عسكرية له سوى روابطه الوثيقة بقائد الجيش الجديد الجنرال إشفاق كياني والذي نشأ وترعرع تحت سمع وإبصار الجنرالات الأمريكان والذي ينتهج نهج العلمانية مثله في ذلك مثل الجنرال – سابقا – مشرف.
مشرف "أكل" بالقضاة قبل أن يتغدوا به حيث أعلن حكم الطوارئ عشية صدور حكم منهم حول مدى شرعية إعادة انتخابه كرئيس وهو بمنصبه العسكري وكان سبعة من القضاة من أصل عشرة سيحكمون ضده.
القضاة الذين اختارهم مشرف وعينهم مكان المعزولين حكموا له بالإجماع واقروا إعادة انتخابه وأدى القسم الدستوري أمام كبيرهم.
هناك قلق عميق بين مختلف أطياف العمل السياسي في باكستان بأن وجود سلطة قضائية غير مستقلة سيجعل عقد انتخابات حرة ونزيهة من المستحيلات. معظم الأحزاب السياسية تؤكد أن مشرف والأجهزة الاستخباراتية سوف تقدم على هندسة الانتخابات وتقول بينظير بوتو أن 25000 مركز انتخابي ستعمل خلال الانتخابات على إعادة أعضاء حزب الرابطة الإسلامية الموالي لمشرف والذي حكم في السنوات الخمس الماضية.
وفي ضربة أخرى وجهها مشرف لنواز شريف قامت المفوضية العامة للانتخابات برفض أوراق ترشيحه بحجة سجله الإجرامي الممتد منذ عام 2000 عندما حكم عليه بتهمة محاولة خطف الطائرة التي كانت تقل الجنرال مشرف قبل عام من ذلك التاريخ، وهذا يتعلق بمحاولة نواز شريف الذي كان حينها رئيسا للوزراء تأخير هبوط طائرة مشرف لحين قيام جنرال آخر بأداء القسم كقائد للجيش. ولكن الجيش قام بتنفيذ انقلاب عاجل ممكنا مشرف من تولي السلطة كرئيس للبلاد وقائد للجيش في آن واحد.
قادة الحزب الذي يرأسه نواز شريف يقولون إنه لن يطعن في قرار حرمانه من الترشيح لأنه لا يثق في نزاهة القضاة الذين عينهم مشرف ولكنه بعد ذلك طعن وقدم استئنافات عديدة كلها رفضت، وهذا يفسح المجال أمام بينظير بوتو – التي تحالفت مع مشرف ومن ثم زعمت أنها أوقفت التعامل معه ولكن كل ما يقوم به مشرف من تحركات على الساحة السياسية الداخلية يأتي في مصلحة بينظير.
واشنطون لا تستطيع فعل الكثير بشأن هذه الألعاب الانتخابية التي تتحرك بسرعة في باكستان سوى أن تضغط على الأحزاب السياسية لتشارك في الانتخابات لأن هذا سيؤدي بالضرورة إلى وصول حزب ذو قاعدة شعبية متحالف معها إلى سدة الحكم في باكستان، وهو الحزب الذي لديه الرغبة القوية لاتخاذ بعض القرارات الهامة والتي بدأت قياداته تصرح بها.
هذا الحزب هو حزب الشعب الباكستاني الذي أسسه ذولفقار على بوتو في أواخر الستينات من القرن الماضي، وذو الفقار ينتمي إلى الطائفة الشيعية الباكستانية وزوجته امرأة إيرانية يقال إنها تنتمي إلى الطائفة الإسماعيلية، وهذا يفسر السبب وراء تمسك الشيعة في باكستان بتقديم الدعم لهذا الحزب وكذلك التصاق الطائفة الاسماعيلية في باكستان به. وتسيطر على الحزب عائلة بوتو التي منها قسم موجود بالهند وكان ذو الفقار أثناء تواجده بالدول الغربية وقبل عودته إلى باكستان وامتهانه السياسة مترددا إلى أي بلد يعود، أإلى الهند أم باكستان؟! وقر موقفه وموقف مؤيديه أخيرا أن يعود إلى باكستان وأن يسهم بدور مشبوه في فصل باكستان الشرقية عن باكستان الغربية بسبب المواجهات الشرسة بين حزبه وحزب عوامي البنجلاديشي برئاسة مجيب الرحمن الذي اعتمد على الدعم الهندي في فصل باكستان الشرقية وتأسيس بنجلاديش. كل منهما حكم في منطقته وانتهت حياتهما بالقتل، مجيب الرحمن قتله خصومه بعد أن استولوا على القصر الجمهوري وذو الفقار أطاح به قائد الجيش الذي عينه في هذا المنصب هو بنفسه وحكم عليه القضاة بالإعدام في جريمة قتل منسوبة إليه.
بدايات ذو الفقار علي بوتو الذي ينتمي الجزء الباكستاني من عائلته إلى إقليم السند كانت عندما شغل منصب وزير الخارجية في أواخر الستينات وأسس الحزب وخاض الانتخابات ضد حزب عوامي ببنجلاديش وتمكن بعد فصل جزئي باكستان عن بعضهما البعض من تولى رئاسة وزراء باكستان ومن تسيير البلاد بالطريقة التي تحلو له.
كان ذلك في الفترة من عام 1971 إلى 1976م وهي الفترة التي كانت فيها مدينة إسلام آباد في طور التأسيس كعاصمة لباكستان بعد تحول البلاد عن العاصمة القديمة كراتشي. كان هناك سوقان رئيسيان في العاصمة وكلما دخل الزبون إلى محل ما من محلاتهما وجد فيها صورة لكريم أغا خان رئيس الطائفة الإسماعيلية. معظم المحلات كانت تحمل هذه الصورة مما يشير إلى أن أصحابها ينتمون لهذه الطائفة وهو الأمر الذي يعزز الاعتقاد بان تولي ذو الفقار للسلطة في تلك الفترة قد مكن زوجته من جلب هذا الطائفة إلى مراكز هامة سياسية واقتصادية وهذا ما يفسر تأييد الإسماعيليين للحزب. حيث يلاحظ مثلا أن بينظير بوتو رشحت نفسها في وقت ولايتها الثانية من مدينة لاركانة بإقليم السند الذي هو معقلها – وخصوصا اريافه – ورشحت نفسها أيضا من منطقة نائية تقع في المنطقة المتاخمة لحدود باكستان مع الصين وأفغانستان وهي جلجت والتي يكثر فيها الإسماعيليون. والمفارقة أن في العاصمة إسلام آباد فندقين من ذوات النجوم الخمس أحدهما تملكه عائلة هشواني الإسماعيلية والآخر تملكه ابنة زعيم الطائفة الإسماعيلية كريم أغا خان.لم يكن من السهل على ذو الفقار على بوتو أن يفوز برئاسة الوزراء لمرة ثانية في الانتخابات التي عقدت بأوائل عام 1977م وذلك لقيام معظم الأحزاب بتشكيل تحالف ضده برزت فيه الأحزاب الدينية وخصوصا الجماعة الإسلامية بقيادة أبو الأعلى المودودي – رحمه الله – التي خرج شبابها إلى الشوارع لمدة أربعة شهور متتالية احتجاجا على ما وصفوه بأنه تزوير للانتخابات ومطالبين لبوتو بالتنحي وعدم تولي رئاسة الوزراء لفترة ثانية.
الشرطة والجيش حينها كانوا يطلقون النار على المتظاهرين _ معظم الإصابات كانت في الصدور والمتظاهرين مقبلين ومواجهين لقوات الأمن والجيش - في مدن كراتشي ولاهور ويسقط قتلى وجرحى ما أثار حفيظة الجيش فيما بعد وتولى قائده السلطة في انقلاب عسكري.
ذو الفقار حاول أن يوقف مد المظاهرات من خلال عقد لقاء مباشر مع المودودي في منزله المتواضع بمنطقة اجرا الشعبية في لاهور وقدم له الرجاء بأن يطلب من أتباعه إيقاف مظاهراتهم ولكنه لم يفلح في إقناعه.
بينظير بوتو بدأت تعرب عن استعدادها لتنفيذ ما يطلب منها وهي قالت بعضا منه قبل أن تعود إلى باكستان من منفاها الذاتي. تصرح الآن بأنها ميالة إلى عقد علاقات مع "إسرائيل" وأنها لا تمانع في أن يقوم الأمريكان وقوات حلف الناتو بهجمات في العمق الباكستاني لمهاجمة من تسميهم المتطرفين. كما أنها على استعداد للسماح لمن يرغب من الجهات الدولية بالتحقيق مع الدكتور عبد القدير خان رائد البرنامج النووي الباكستاني. كما أنها أخذت تهاجم المدارس الدينية وتتهمها بأنها تفرخ الإرهابيين وان من أهم أولوياتها ملاحقتهم.
واشنطون لا زالت مترددة في التعاطي مع شريف بالقدر الذي تدعم فيه بينظير لأنها تدرك أنه يتمتع بطابع محافظ وأنه لا يزال يخضع لبعض النفوذ من جانب الأحزاب الدينية وخصوصا الجماعة الإسلامية. ولكن نواز معروف أيضا بتغيير دفته طبقا للظروف التي يجعل اتجاهه فيها متناسبا مع مصالحه.
لم يتبقَ من بين المطالبين بمقاطعة الانتخابات سوى الجماعة الإسلامية بل إن بعض القيادات فيها تطالب بالعدول عن الدعوة لمقاطعة انتخابات يناير وإن لم تنصت لها فإنها قد تتحول عنها إلى أحزاب أخرى وبهذا تمكن مشرف من استغلال مقولة فرق تسد على أفضل وجه.
و يعتبر العام 2008م على قدر كبير من الأهمية بالنسبة لمخططات واشنطون بالمنطقة والتي تحتاج إلى وجود باكستان مستقرة سياسيا لتمرير هذه المخططات وخصوصا أن توجد حكومة وحدة وطنية فيها أحزاب ذات خلفيات مختلفة ومتنوعة.
المحصلة هي أن باكستان تتخبط كثيرا في محاولاتها لمجاراة المطالب الأمريكية ولا يهم ولاتها ما قد تصل إليه الأوضاع من سوء من جراء هذه المحاولات. ورغما عن محاولاته لإرضاء واشنطون إلا أن مخاوف مشرف من أن تتخلى عنه الولايات المتحدة في ازدياد مضطرد مع مرور الوقت. وما يعزز مخاوفه تلك أن الإشارات القادمة من واشنطون تأتي مختلطة ومختلفة ومتضاربة وتزيد من حدة قلقه.
آخر هذه الإشارات ما بثه المعهد الجمهوري الدولي الأمريكي ( IRI ) من إحصائيات أوضحت أن 67 بالمائة من الباكستانيين يرغبون بإلقاء الرئيس مشرف خارج السلطة وأن يستقيل بشكل فوري وأن 70 بالمائة لا يرون أن حكومته تستحق إعادة انتخابها.
هذه الإحصائية لم تخلق الشكوك وحسب بمعسكر الرئاسة الباكستاني ولكنها أوجدت نوعا من الاستياء والغضب تجاه الولايات المتحدة أدت إلى صدور تصريحات من مشرف بأن الإعلام الغربي عامة والأمريكي خاصة قد خذله. بل إن الجنرال رشيد قريشي المتحدث باسم الرئيس مشرف رفض هذه الإحصائيات ووصفها بأنها مؤامرة. ولكي يدحض هذه الضغوط أو الاتهامات بالتقصير تجاه الولايات المتحدة فإن مشرف يرسل رسائل مفادها بأنه هو الذي يسيطر على ويتحكم بالترسانة النووية الباكستانية ولا أحد غيره وأن شيئا لا يعيق سيطرته السهلة تلك وبهذا فإن على القوى العظمى أن تركن والحال كهذه إلى خيارها الوحيد المتبقي في الساحة الباكستانية ألا وهو الرئيس مشرف الذي عليها أن تعتمد عليه في تسيير مصالحها بباكستان وفي الحفاظ على القدرات الاستراتيجية الباكستانية بيد "أمينة".
مشرف يقول الآن إن أسامة بن لادن قد يكون مختبئا بمنطقة باجاور المجاورة لولاية كونر بشرق أفغانستان ويزيد على فرضيته هذه القول بأنه إذا ما تم إقصاؤه شخصيا عن السلطة فان القدرات الاستراتيجية الباكستانية قد تقع بالأيدي الخطأ.
ولكن ورغما عن كل ما يقوم به فإنه من المحتمل أن واشنطن تدير نوعين متوازين من السياسات في باكستان: الاستمرار بتقديم التأكيدات لمشرف بأن لا أحد غيره يحظى بدعمها والقيام في الوقت ذاته بدعم بينظير بوتو سريا لكي تنفذ مخططا مضادا لمشرف وتستحوذ لوحدها بالسلطة بعد الانتخابات القادمة وبالتالي تغلق ملف حقبة سياسات مشرف في باكستان. مخاوف مشرف قد تزداد حدة إذا ما بدأ قائد الجيش الباكستاني الجديد بعقد لقاءات مكثفة مع القادة المدنيين والعسكريين بالدول الغربية.