أنت هنا

بنظير بوتو.. الإسماعيلية العائدة بتوقيت أمريكي/إيراني دقيق *
15 ذو الحجه 1428

[email protected]

لعل العالم الإسلامي كان في لحظة ما غائبة عنه بعض المعاني الدينية التي كان كثيرون يتجاوزون فيها المسألة الطائفية تحت لافتة رفض الطائفية، وتلك اللافتة مر من تحتها ألوان من القيادات التي وجدت "تسامحاً" من جموع الشعوب الإسلامية في تسيدها مراكز الحكم والقرار برغم تمثيلها لأقليات محدودة، وآل بوتو من هذه الألوان التي غمرت الساحة السياسية والإعلامية في غفلة من رقابة شعبية تفرض على ممثليها أن يجسدوا التعبير القيمي والتطلعات الأممية لهم والتي تتسق مع حضارة عريقة استوعبت الجميع لكنها لم تستوعب من قبل بعض الأطراف وبعض المنتمين للأقليات (وقد لا يكونوا يمثلونها هي أيضاً) وبالتالي ظلت مجسدة لروح التسامح من دون أن تفرط في حق ممثليها الحقيقيين في ريادة نهضتها..
على أية حال، لنعد للماضي بغية الاقتراب من أسرة بوتو، فذو الفقار علي بوتو الأب ذاع صيته إبان حكم الرئيس الباكستاني إسكندر علي ميرزا، حين تولى منصب وزير التجارة وهو أول منصب يشغله مدفوعاً بعناية من ميرزا الذي ينتمي للطائفة الإسماعيلية الشيعية التي ينحدر منها بوتو أيضاً.
ميرزا وبوتو كلاهما متزوج من إيرانية؛ فميرزا اقترن بزوجته ناهد وهي الزوجة السابقة للمندوب السامي الإيراني في باكستان (عندما مات ميرزا نقل جثمانه إلى طهران!!)، وبوتو تزوج من نصرت أصفهاني الإيرانية التي أنجبت فيما بعد بنظير بوتو.
دخل (الشاب) بوتو الأب حياته السياسية وهو مشدود إلى شخصية شيعية كاريزمية أثرت فيه وتأثر بها وأشرب فكرها من بعد إلى ابنته بوتو، وهو محمد علي جناح الذي أسس دولة باكستان وترأسها بين العامين 1947 و1948 (وترأس حكومته الشيعي لياقت علي خان بين العامين 1947و1951) وعمل على فصلها عن الهند في خطوة ما زال الجدل يدور إلى اليوم حول جدواها على المسلمين وتأثيرهم في شبه القارة الهندية (على الرغم من أن فكرة انفصال باكستان ذاتها منسوبة إلى الشاعر السني محمد إقبال للإنصاف).
وقد دعم ميرزا بوتو ـ كما تقدم ـ في تولي الوزارة، وقد تأثر به الأخير حتى في أسلوب قمعه للمسلمين في البنجاب في العامين 1958 للأول، و1977 للثاني، وكلاهما للمفارقة قد غادر منصبه بانقلاب عسكري لمنع مزيد من تدهور الأوضاع والاضطرابات وأعمال القتل التي تنفذ باسم الدولة.. على أن الشخصية التي قدمت دعماً أعلى في تولي شؤون الحكم في باكستان لبوتو كان الجنرال الشيعي الذي ترأس حكم باكستان بين العامين 1969 و1971 والذي اشتهر بتسليم باكستان الشرقية إلى الهند ومن ثم استقلالها عن باكستان فيما بعد باسم (بنجلاديش)، فيما عده كثير من الخبراء والباحثين المسلمين في شبه القارة الهندية "خيانة" لباكستان وشعبها المسلم (منهم على سبيل المثال الباحث البارز إحسان إلهي ظهير في كتابه "الشيعة والسنة" الذي اغتيل على يد شيعة باكستانيين فيما بعد).
خان من جهته بذل الدعم لبوتو الأب، وقلده منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية في عهده، ما مهد له فيما بعد تبوأ منصب رئاسة الدولة ثم الحكومة من العام 1971 إلى 1973 رئيساً ثم 1973 وحتى إعدامه في العام 1977 رئيساً للوزراء على يد الجنرال القوي ضياء الحق.
وحيث لقى بوتو الأب حتفه، كانت باكستان على موعد مع ابنته السياسية الواعدة التي أفسحت لها عملية اغتيال الرئيس الباكستاني السني ضياء الحق بتفجير طائرته في أغسطس من العام 1988، الطريق نحو الحكم.
لم يمط اللثام حتى الآن عمن قتل ضياء الحق غير أن أصابع الاتهام كادت تنحصر باتجاهين، الأول هو الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت قد أزعجها التوجه المستقل والديني لضياء الحق بعد أن فرغت من القضية الأفغانية إلى حد ما إثر نجاح المجاهدين الأفغان في قصم ظهر السوفييت اتساقاً مع الرغبة الأمريكية في ذلك الوقت، وقد شكك البعض حينها بضلوع الولايات المتحدة الأمريكية في الحادث نظراً لأن الطائرة قد نسفت بضياء الحق وبمعية السفير الأمريكي في باكستان "أرنولد رافيل" والجنرال الأمريكي "هربرت واسوم"، ولو ظل الاحتمال قائماً مع ذلك في تورطها.. أما الاتجاه الثاني فأشار إلى إيران وأتباعها في الداخل الباكستاني، حيث لم يكن قد مضى سوى شهرين على خطابه الأشهر حول تطبيق الشريعة الإسلامية في باكستان، وهو الخطاب الذي ألقاه وهو يبكي ويمسح دموعه، ويقول فيه: "إنني أخاف الله وأخشاه، وأعلم أنه سوف يسألني غدا: لماذا لم تحكم بالشريعة الإسلامية؟ والشعب سوف يسألني: لماذا لم تأخذ على يد الظالم؟"، ثم تبعته عدة إجراءات نحو "أسلمة" الدولة الباكستانية؛ فتغيرت وسائل الإعلام، وتشكلت لجان لـ"أسلمة" النظام الاقتصادي والقضاء الجنائي، وأُعلنت الشريعة المصدر "الأعلى" للقوانين، ما أثار الشيعة في باكستان على وجه الخصوص ورفضوا علناً التحاكم إلى القوانين الجديدة، وبدأ حزب الشعب الذي تزعمته بنظير بوتو في إطلاق حملة محمومة داخلياً وخارجياً للإلغاء هذه القوانين وحرف هذا التوجه النامي لضياء الحق عن مساره، وارتفعت حدة الاحتجاجات الإيرانية إبان حكم المرشد الإيراني علي الخوميني لدى باكستان لغرض عدم فرض القوانين "السنية" على الأقلية الشيعية التي لم تكن إذ ذاك تمثل سوى 8 ملايين باكستاني!!
كان الخوميني حينئذ متهماً من قبل قوى سنية في باكستان بتحريض الأقلية الشيعية في شمال باكستان على التمرد بغرض الانفصال عن باكستان، وكان هو منزعجاً من تلكؤ ضياء الحق في العام الأخير من حكمه في وقف بعض الاضطرابات الطائفية في ولاية ديامر وإقليم كوهستان وسوات وملاكند، ما أدى لمقتل نحو 1400 شيعي فيها مقابل 14 سني (1:100) حسب معطيات صحفية في هذا العام، والتي كانت هذه قد اندلعت في أعقاب تجاوزات دينية كبيرة من الجانب الشيعي تمثل في كتابة شعارات معادية للسنة وللصحابة على الجدران والاعتداء على المساجد للتعبير عن رفض الشريعة الإسلامية والتحاكم إليها من خلال المحكمة العليا في إسلام أباد، والسعي نحو استقلال إقليم جلجت الذي يشكل الشيعة أقلية كبيرة فيه، واحتج الخوميني بشدة على إعدام "ذو الفقار علي بوتو" الزعيم الشيعي الذي حارب بلوش باكستان لحساب إيران التي كانت تعاني من النزعة الانفصالية لبلوش إيران خلال تلك الفترة من سبعينات القرن الماضي، وتقليص النفوذ الشيعي في باكستان، وجعل باكستان قاعدة ينطلق منها المقاتلين ضد السوفييت (الحليف الدولي الأبرز لإيران) في أفغانستان، و"أسلمة" القوانين أو "تسنينها" ـ عن جاز التعبير ـ، والشروع بتصنيع القنبلة النووية الباكستانية.
وقد يكون ذلك مبرراً كافياً لتوجيه الاتهام إلى إيران/الخوميني باغتيال ضياء الحق وتمهيد الطريق من ثم إلى عودة أل بوتو من جديد لرئاسة الوزراء، بيد أن أصابع الاتهام توجهت أيضاً لآخرين كالجيش الباكستاني ذاته، والسوفييت، والهند، فضلاً عما تقدم من الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تقل انزعاجاً عن إيران من التغير الحادث في شخص الرئيس الباكستاني.
إذن قد مُد الحبل من جديد دولياً لبنظير بوتو لتولي رئاسة الحكومة الباكستانية في غفلة من القوى السياسية الأصيلة في باكستان؛ فتولت هي رئاسة الحكومة لفترتين منقوصتين هما 1988-1990،1993-1996، وفي كلتيهما اتهمت بتهم من العيار الثقيل فيما يخص الفساد، وحتى تورطها هي وزوجها في قتل شقيقها مرتضى بوتو الذي أوشك أن ينافسها بقوة في زعامة حزب "الشعب"، وهو ما ألمح إليه حليفها السابق ورئيس باكستان السابق فاروق ليجاري إضافة لبعض أفراد أسرة مرتضى، على أن أثقل التهم في حس المخلصين من أبناء باكستان وغيرها هو ما يتعلق بعلاقتها الوثيقة بالغرب، واستعدادها لدفع أي ثمن سياسي من أجل وصولها لسدة الحكم، وهو ما لا تنفيه بوتو في أدبياتها العديدة سواء من خلال كتابها أو تصريحاتها على مدى عمرها السياسي..
غير أن الأخطر في وصول بوتو هذه الأيام لسدة الحكم يفوق المخاطر السابقة بكثير، فبوتو الآن قادمة وفي جعبتها أجندة خفية ـ ربما ـ تمس حلقة أخرى جديدة من حلقات تقسيم وتفتيت أراضي المسلمين في شبه القارة الهندية؛ فمن استقلال باكستان ذاتها التي صار دونه جدل قد يكون مقبولاً بعض الشيء، إلى فصل بنجلاديش عن باكستان على يد يحيى خان الذي لا يمكن أن يكون صاباً في جدول وحدة المسلمين هناك، قد تلوح في الأفق قضية فصل أكثر من إقليم باكستاني متوتر عن الدولة الأم باكستان.
كما أن المثير للظنون كثيراً في هذا الظرف الإقليمي والدولي الخطير، دعم الولايات المتحدة الأمريكية لتولية بوتو رئاسة حكومة تحمل وداً لإيران في وقت تدعي فيه أنه تسعى لفرض طوق على إيران لدفعها نحو التنازل في مسألة المشروع النووي الإيراني..
لا نود مع كل هذا أن يطغي معنا التفسير الطائفي للأحداث على نحو يخاصم قواعد الاستراتيجيات والمصالح إلى حد ما، لكن أليس في ما تقدم من معلومات مدعاة لأن ننظر للواقع الباكستاني بقدر أعلى من "الطائفية" ليتسنى لنا فهم الاستراتيجيات والمصالح في مظانها الصحيحة؟!

ــــــــــــ
* جزء من مقال للكاتب بتصرف يسير يتحدث عن شخصية بوتو نشر بمجلة البيان السعودية عدد 243، ذو القعدة 1428.