أنت هنا

الدروس المستفادة من مدرسة الصوم
28 شعبان 1428
الشيخ أ.د. ناصر بن سليمان العمر

لا ينبغي لعاقل أن يمر عليه شهر رمضان دون أن يفيد منه ويتعلم ويتقدم نحو الخير والصلاح، فهذا الشهر ليس كغيره من شهور السنة يمر مروراً دون أن ندري أو نعقل أو نفهم، ويصعب في هذه العجالة أن نلم بجميع ما في هذا الشهر الكريم من دروس وعبر وعظات، وإنما سأركز على أهم تلك الدروس في هذه المدرسة العريقة، وبخاصة منها التي لها الأثر الأكبر في حياة الفرد والجماعة.
إن أمتنا اليوم بأمس الحاجة إلى وصلها بأصل نشأتها، بتلك المدرسة التي ربى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته وأمته، وسار على هذه الأسس سلف هذه الأمة من بعده.
إن هذه الدروس والميادين التربوية التي سأذكرها حرية بأن نتدبرها ونتأملها، ونعمل بما فيها، لننقل أمتنا من واقعها المرير إلى الواقع التي هي جديرة به، خير أمة أخرجت للناس.
فإلى تلك الأسس والدروس والعبر:
1) تحقيق معنى التقوى:
لأن التقوى هي المقصد الأسنى والبغية العظمى من وراء فرضية الصوم حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183). سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُبَيَّ بن كعب رضي الله عنه: ما هي التقوى؟ قال أبيّ: يا أمير المؤمنين أمَا سلكت طريقاً ذات شوك؟ قال: بلى، قال: فماذا صنعت؟ قال: شمرت واجتهدت، قال: فذلك التقوى.
فإذا كان أمير المؤمنين، الفاروق، المشهود له بالجنة، رضي الله عنه، يسأل عن معنى التقوى(1) ويحرص على تحقيقها، فما بالنا تقاعسنا وتناسينا أو انشغلنا بصغار المسائل ولم نحقق بعد كبارها وأهمها وأعظمها.
إذاً فالأمر يتطلب منا أن نتداركه ونقف أمام أنفسنا وقفات لنرى أين نحن من هذا الدرس العظيم؛ تقوى الله عز وجل، بفعل ما يحب ويرضى وتجنب سخطه، وقد سُئل علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، عن معنى التقوى، فقال: هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.
وصدق القائل:




خـل الذنـوب صغيرهـا  
وكبيرهـا هذا التقى

واصنع كماش فوق أرض
 
الشوك يحذر ما يرى

لا تحـقــرن صغـيـرة
 
إن الجبال من الحصى

ولو وقفنا عند معلم واحد من المعالم التي فسر بها علي بن أبي طالب معنى التقوى ألا وهو القناعة بالقليل، ونسأل أنفسنا، هل نحن نقنع بالكثير فضلاً عن القليل؟ ومتى نقنع بالقليل ونحقق بعض معالم التقوى الهدف الأسمى من أهداف الصيام؟
ثبت أن بعض البيوت تنفق في شهر رمضان على الأطعمة والأشربة ما تنفقه في أربعة أشهر.
فتحول شهر الصيام والإمساك إلى شهر التبذير والإسراف والجري وراء شهوات النفس وملذاتها وأصبحنا أمة مستهلكة متخمة ثم بعد ذلك نرى بعض الناس يسعون لإزالة التخمة والسمنة عن أجسادهم وأطفال المسلمين ونساءهم وشيوخهم يموتون جوعاً، وما حال الصومال منّا ببعيد.
فهل نحن صمنا الصيام الشرعي الذي أراده الله ليتحقق وعد الله تبارك وتعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فليس المقصود من الصيام الإمساك عن الطعام والشراب والجماع فقط.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه"(2).
إذاً التقوى تتمثل في القيام بين يدي الله متذللاً خاشعاً متبتلاً إيماناً واحتساباً، وكذلك الصيام إيماناً واحتساباً يؤدي إلى بلوغ منازل المتقين.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"(3).
وقال صلى الله عليه وسلم: "رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش"(4).
إذاً الصيام الشرعي غير مقتصر على تجنب الطعام والشراب والجماع، بل لا بد من إمساك الجوارح عن اقتراف الآثام والذنوب والمعاصي، ولا بد من الإيمان والاحتساب، اللذين هما من أهم علامات التقوى.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصيام جُنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم"(5).
وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء.
وهناك جملة من الأسئلة تفرض نفسها:
• هل الذي ينام النهار – ويفوّت بعض الصلوات – يحقق معنى التقوى؟
• هل الذي يسهر الليل على ما حرّم الله، يبحث عن التقوى؟
• الذي جعل رمضان موسماً للتبذير والإسراف هل يريد أن يصل إلى التقوى؟
• هل الذي لا يعرف عن رمضان إلا الإمساك الحسي عن الأكل والشرب من أول النهار إلى آخره مع إفطاره على غيره قد عرف معنى التقوى؟
• هل الذي حسنت حاله وعبادته في رمضان، ثم عاد في شوال إلى ما كان عليه في شعبان قد حقق معنى التقوى؟
إن التقوى ليست مجرد دعوى، أو أمنية مجردة عن الواقع، وإنما هي حقيقة لا بد أن تظهر آثارها على الجوارح، بعد رسوخها في القلب، كما كان إمام المتقين، صلى الله عليه وسلم، الذي قال: "التقوى ههنا"(6)، (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة: من الآية111).
نسأل الله أن يرزقنا من الخشية ما يحول بيننا وبين معاصيه، ومن العمل ما يبلغنا به جنته، والحمد لله رب العالمين.

الهوامــش :-

1 - وعمر لا يجهل معنى التقوى ولكن للمذاكرة وطلب المزيد من العلم، وربما من باب "فعجبنا له يسأله ويصدقه"، وهذه قطعة من حديث جبريل الطويل أخرجه مسلم رقـم (8) وهو عند البخاري بمعناه رقم (4777) مختصراً.
2 - أخرجه البخاري رقم (1901) ومسلم رقم (760).
3 - أخرجه البخاري رقم (1903).
4 - أخرجه ابن ماجة رقم (1690) والبيهقي (4/270) وأحمد والحاكم. وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (3490).
5 - أخرجه البخاري رقم (1894) ومسلم رقم (1151).
6 - قطعة من حديث أخرجه مسلم رقم (2564).