حادثة فوق الموج

عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا. فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا".والحديث في صحيح البخاري، كتاب الشركة، وكتاب الشهادات، وهو عند الترمذي في أبواب الفتن...

وهذا الحديث الذي يسميه بعض علمائنا بحديث السفينة، حديث نبوي رائع المعنى غزير الدلالات، كثيف الصور وعميق المغازي، يصور المجتمع كما هو في أسلوب بسيط نفاذ، مبرزا القواعد والسنن الأساسية في الحياة البشرية، وحتمية المصير المشترك بين أفراد المجتمع انطلاقا من مسؤوليات كل فرد من أفراده.

سفينة واحدة وطبقتان
الحديث المذكور يتحدث عن سفينة واحدة، مسخرة لنقل الركاب (والركاب هنا هم الجماعة البشرية المسلمة)، وظيفتها أن تنقل الجميع عبر عباب البحر إلى بر الأمان، فلا فرق بين الركاب جميعا ماداموا على مركب واحد، يحترمون شروط ركوبه وقوانين الإقامة فيه إلى أن يبلغ بهم شاطئ النجاة وسط "بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض"، فلا ينبغي أن يعتدي فرد من أفراد جماعة ركاب السفينة على أغراض وسيلة النقل هاته التي سخرها الله تعالى لهم، ولا يخرب ممتلكاتها قصد ذلك أو لم يقصد. وإن حدث هذا التخريب لأي سبب كان، فالسفينة ستتعرض للخطر لا محالة.

ورغم أن السفينة واحدة، غير أن ركابها توزعوا إلى مجموعتين عن طريق القرعة (استهموا)، فكان أن عمرت مجموعة من الناس الطابق السفلي من السفينة، وآخرون صعدوا إلى الطابق العلوي حسب نتيجة القرعة، فانقسم القوم إلى فريقين أو مجموعتين. وهنا لم يكن سبب هذا التوزيع مرجعه إلى تفاضل لعرق أو نسب أو قوة أو مال أو جاه أو مركز، إنما اقتضته مصلحة السفينة.

مصلحة المجتمع
فكانت مصلحة السفينة ومن يركبها أن يتوزع الناس إلى فريقين اثنين، فإن ركب الناس جميعا نفس الطبقة سفلى كانت أو عليا، لحدث مكروه للمركب، إذ أنه قد يتثاقل تحت ضغط الوزن الزائد وعدم التوزيع الجيد للحمولة البشرية فينهار ويغرق في مياه بحر متلاطم الأمواج، فكان حتميا أن يتجه تفكير الجميع إلى التوزع في طبقتي السفينة، وشاء الله ـ من خلال القرعة التي أجروها ـ أن


تستقل مجموعة الطابق التحتي والمجموعة الأخرى الطابق الذي فوقه مباشرة. وهو تقسيم أراده الخالق الحكيم لكل مجتمع بشري، أن يكون متضمنا لطبقات دنيا وأخرى تفوقها مالا وسلطة وإمكانيات؛ كل ذلك من عين حكمة الله عز وجل الذي يقول في محكم بيانه: (أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا،ورحمة ربك خير مما يجمعون)الزخرف31..
يقول في تفسير الظلال حول هذه الآية : "رزق المعاش في الحياة الدنيا يتبع مواهب الأفراد وظروف الحياة وعلاقات المجتمع. وتختلف نسب التوزيع بين الأفراد والجماعات وفق تلك العوامل كلها. تختلف من بيئة لبيئة ومن عصر لعصر ومن مجتمع لمجتمع وفق نظمه وارتباطاته وظروفه العامة كلها . ولكن السمة الباقية فيه والتي لم تتخلف أبداً - حتى في المجتمعات المصطنعة المحكومة بمذاهب موجهة للإنتاج وللتوزيع - أنه متفاوت بين الأفراد .

والحكمة في هذا التفاوت الملحوظ في جميع العصور وجميع البيئات وجميع المجتمعات هي:(ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً).
ودورة الحياة حين تدور قد تسخر بعض الناس لبعض . وليس التسخير هو الاستعلاء . . استعلاء طبقة على طبقة أو استعلاء فرد على فرد . كلا! إن هذا معنى قريب ساذج ، لا يرتفع إلى مستوى القول الإلهي الخالد ... فهذا مسخر ليجمع المال فيأكل منه ويرتزق ذاك . وكلاهما مسخر للآخر سواء بسواء . والتفاوت في الرزق هو الذي يسخر هذا لذاك ويسخر ذاك لهذا في دورة الحياة .. العامل مسخر للمهندس ومسخر لصاحب العمل. والمهندس مسخر للعامل ولصاحب العمل.وصاحب العمل مسخر للمهندس وللعامل على السواء..وكلهم مسخرون للخلافة في الأرض بهذا التفاوت في المواهب والاستعدادات ، والتفاوت في الأعمال والأرزاق ".


السفينة مجتمع صغير
رحمة الله اقتضت إذن هذا التقسيم، رحمة بالعباد، فلو كان الجميع متشابها في القوة والمال والجاه والنسب والشرف ووسائل الرزق والعمل، لما احتاج أحد للآخر، ولانعدمت مهن يدوية وحرف صغيرة وزراعات وصناعات، فتقسيم الله تعالى معيشة الناس في الحياة الدنيا ورفعه بعضهم فوق بعض درجات هدفه العظيم أن يتخذ البعض البعض الآخر سخريا، حتى يحتاج الفقير الغني في مد يد العون له وفي منحه الزكاة ووسائل العيش من شغل وعمل وغيره، والغني يحتاج الفقير ليشتغل عنده أجيرا أو موظفا أو مستخدما، ينفعه وينفع نفسه، وهكذا دواليك.. فالسفينة مجتمع صغير أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم إشارة غاية في العمق في الإشارة مع يسر في العبارة، فجمعت ـ السفينة ـ بين جماعتين بشريتين، تتوحدان في التكافؤ الإنساني والدين والانتماء الحضاري، لكن يختلفان في موقع كل منهما، المجتمع في أسفل السفينة لا يتمتع أفراده بأي مصالح أو مزايا، حتى أنهم يطلبون الماء من جيرانهم الموجودين في الطابق العلوي، وهؤلاء يحظون بالعكس بشتى مميزات حياة السفينة من متع ومهج كثيرة، مثل التمتع بالهواء العليل ومنظر البحر الخلاب، والاستمتاع بحلال البحر ولحمه ومائه..

المصير المشترك

وهذا الحديث الذي بين أيدينا يتضمن تأكيدا هاما على أن المجتمعات يكون مصيرها مشتركا، فنجاة مجتمع يعني نجاة المجتمعات الأخرى، وهلاكه يفضي إلى هلاكها.

يقول الدكتور أحمد الريسوني في هذا الباب: "التجمعات البشرية يكون مصيرها ومآلها في النهاية مشتركا، فهلاكها يعم الجميع ونجاتها تعم الجميع، والضرر يصيب الجميع والنفع يستفيد منه الجميع. وشيوع الصلاح نعمة للصالح والطالح، ثم يوم القيامة يكون الحساب الفردي والجزاء الفردي.وهذه السنة من سنن الله تعالى في خلقه قد نطقت بها أو نبهت عليها عدة نصوص قرآنية وحديثية، كقوله تعالى (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) سورة الأنفال،آية:24.فالفتنة إذا حلت لا يقتصر لظاها وأذاها على الذين تسببوا فيها بظلمهم وبغيهم وفسادهم، بل تحرق الأخضر واليابس...وكقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل: أنهلك وفينا الصالحون؟ ـ "نعم إذا كثر الخبث"، والخبث لا يكثر إلا إذا سكت عنه الصالحون المتطهرون وتركوه ينبت ويَنبَثّ".وإلى هذا المعنى يشير قوله عز وجل (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون)سورة هود،آية:116"". انتهى.

وإن هذا المصير المشترك هو الذي يحتم أن يكون التعاون متبادلا بين أوصال المجتمعات البشرية، سيما المجتمع الإسلامي، فهو المخاطب أكثر بضرورة التعاون وأخذ أفراده بأيدي بعضهم البعض. من هنا، كان على ركاب السفينة أن يتعاونوا ويساند بعضهم بعضا، فركاب الطبقة السفلى لا يجدون الماء الصالح للشرب، مما يضطرهم كي يصعدوا إلى سطح السفينة للأخذ من ماء البحر بواسطة دلائهم. فكانوا يزعجون نزلاء الطابق الفوقي بكثرة صعودهم ونزولهم وآثار أقدامهم وضجيج دلائهم وإحداث ما يتساقط من الماء للوحل والأوساخ فاحتج ركاب الطبقة العلوية واشتكوا من هذا الوضع كما جاء في بعض روايات نفس الحديث الشريف.

هنا، وقفة تأمل ضرورية، فيبدو أن سكان الطابق الفوقي من السفينة لم يأخذوا بيد ركاب الطابق السفلي، بل احتجوا على الأذى الذي لحقهم حسب تصورهم، ولم يكترثوا من أين سيأتي جيرانهم بالماء إن عطشوا واحتاجوا إليه في مصالحهم الحياتية اليومية، لم يهتموا بشأنهم لأنهم يحظون بميزة الحصول على الماء بيسر وسهولة. هنا مكمن الخطر إذن.

الخرق في السفينة .. إفساد في المجتمع
فكر مجتمع الطابق السفلي من السفينة في أن يجدوا حلا لمعضلتهم فيزيحوا عنهم مشقة الصعود إلى سطح السفينة، وربما إذاية نزلاء الطابق الفوقي عند صعودهم ونزولهم، فاهتدى بعضهم إلى إحداث ثقب داخل السفينة في الحيز الذي يقيمون فيه، وجاء في الحديث: "فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا".وفي رواية للبخاري أن أحدهم بادر إلى تنفيذ الفكرة (فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة).

ولعلهم لم يبلغوا هذا التفكير المختل إلا بسبب أن مجتمع الطابق العلوي لم يمد لهم يده بما فيه الكفاية، وأراد احتكار نعم الله لوحده، وهي النعم التي أتاحها الخالق سبحانه للجميع، فالماء للجميع والشمس والهواء للجميع أيضا، فما كان على مجتمع السفينة في طبقتها الفوقية أن يحتكر نعما وامتيازات ليست لهم وحدهم البتة.لكن هذا لا يعني أن مجتمع السفينة في طابقها السفلي معذورون، بل مخطئون حتما بتفكيرهم ثقب السفينة حتى يرتووا من ماء البحر دونما إزعاج أو مشقة.. فثقب السفينة يعني إفسادها من الداخل، والمفسد يجب منعه من الإفساد لأنه يعم المجتمع كله ولا ينحصر فيه وحده، أو في ممتلكاته الخاصة مادام الفساد سيطال غيره.

يقول الدكتور الريسوني في شرحه للحديث ذاته: "أصحاب السفينة السفليون قالوا عندما فكروا في فعلتهم: "لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا..."، ومع ذلك وجب منعهم ومقاومتهم.فالذين يمارسون الإفساد والخرق في مكاتبهم وبأموالهم وبتصرفاتهم وحياتهم "الشخصية" أو في بعض الأماكن "الخصوصية" وفي العلب المغلقة... هؤلاء وأمثالهم، شعارهم وشعار من يدافعون عنهم هو "لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا".
فهؤلاء جميعا ـ يؤكد الريسوني ـ إذا كان فسادهم ينتقل أو يتسرب ويرشح ويفوح، فضلا عما إذا كان يتم على الملأ، ويستعمل الممتلكات العمومية والمساحات المشتركة، فيجب التصدي لهم ومنعهم من فسادهم الذي هو خرق في سفينة المجتمع والجماعة، سيؤدي إلى تسرب الماء حالا، وإلى الغرق مآلا..".


فتح أبواب الإصلاح
وفي آخر الحديث المشوق: "فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا"، هنا يبرز دور القائم على حدود الله والواقع فيها كما في بداية الحديث، فإن ترك أهل السفينة هؤلاء المفسدين ـ قصدوا ذلك أم لم يقصدوا، وعن حسن نية أو العكس ـ لهلكت السفينه بمن فيها، ولن يصل أحد إلى شاطئ الأمان، فحسن النية وصفاء السريرة لا يعطي مسوغا شرعيا للقيام بعمل فيه ضرر للمفسد ولمن معه وللمجتمع ككل.
غير أن الذي ينبغي أن يشار إليه في هذا السياق أنه فعلا من الواجب منع المفسد من القيام بإفساده وضرره، لكن أيضا بالمقابل يجب أن يُقَدم لهذا المفسد الذي حصل له الضرر في معيشته أو رزقه أو غيرها من شؤون حياته أن يقدم له الحل والبديل، وتفتح أمامه أبواب الممكن والحلال والإصلاح.

والحديث الشريف يختتم على وقع كله تشويق رائع، حيث النهاية مفتوحة على جميع الاحتمالات، تاركا للمؤمن المتمعن في الحديث و القارئ لما بين سطوره أن يقف وقفة تأمل في نهاية قصة أصحاب السفينة، ومن ثم أفراد المجتمع البشري، حيث "إن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا".