القولبة والتنميط في المجموعات التربوية المغلقة .. رؤية نقدية

حث الإسلام على الجماعة، وعلى العمل الجماعي، وكان المظهر الأعظم لذلك هو أن الإسلام جعل أداء الصلاة في جماعة من أهم الواجبات، وأنه لا يجوز لأحد التخلف عن ذلك. ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً أن يصلي بالناس، ثم انطلق برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم " الحديث. وفي صحيح مسلم، عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - قال: " لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق عُلم نفاقه، أو مريض، وإن كان المريض ليمشي بين الرجلين حتى يأتي الصلاة ".

هذا التوجيه الإسلامي للمسلمين جعلهم يحرصون على تأدية أعمالهم في جماعة، فيصلون القيام في جماعة، ويجتمعون في المسجد في الملمات، ويجاهدون في جماعة، وينطلقون من ذلك المعنى الهام : (إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية).

أهداف نبيلة

وبناءً على ذلك أصبحت هذه الرابطة الجماعية هي المسيطرة على كثير من التكوينات السياسية والثقافية والاجتماعية.

وفي المجال الثقافي والتربوي وجدنا في بلادنا روابط وتكوينات وتجمعات كثيرة، لها قادة، ومناهج فكرية وثقافية وسياسية، ولها أتباع من مختلف الأعمار والوظائف والأوساط.

الاتجاه العام لهذه المجموعات التربوية هو الالتقاء على القرآن والسنة، ومحاولة تكوين سياج اجتماعي وأخلاقي يقي أبناء هذه المجموعات الآثار السلبية لمجتمعاتهم، ويعينهم على أداء الشعائر الإسلامية بصورة أفضل، ويحول بينهم وبين ارتكاب المعاصي ، ويشكل ثقافتهم بطريقة مبنية على أسس إسلامية حتى لا يقعوا في براثن العلمانية .. الخ.

هذا البناء المؤسسي الدقيق والمنضبط لهذه المجموعات التربوية المنغلقة، والقائم على العديد من التكوينات المؤسسية الفرعية، والذي يقوم على تقسيم العمل، هو في النهاية شكل مؤسسي إداري، مثل غيره من المؤسسات، ولكنه يقوم على درجة معينة من الالتزام والانضباط، على أساس الالتزام الديني والإيماني. فالالتزام ليس نتاج الضبط الإداري فقط، ولا هو نتاج النظام المؤسسي الجيد فقط، ولكنه نتاج تعاليم دينية تجعل من الالتزام واجبا على العضو.

وهذه المجموعات ، رغم أنها لا تملك أدوات العقاب المادي لأعضائها، إلا أنها تملك قدرا كبيرا ضاغطا من أدوات العقاب المعنوي، وهذا يحقق لها قدراً عالياً من الانضباط.

والانتماء لهذه التكوينات اختياري والخروج منها متاح، ولكن صعوبة الخروج منها، والذي يجعل لها ثقلا معنويا على الأعضاء، يرتبط بصعوبة الخروج من شبكتها الاجتماعية الحاضنة للأعضاء، والتي تمثل بالنسبة لهم البيئة الاجتماعية الأساسية التي يعيشون فيها. ( بعضها يجعل هناك محددات شديدة للخروج عنها أو البعد وربما ربطها بفهم خاص عن حرمة مفارقة الجماعة )

تأثيرات إيجابية

من التأثيرات الإيجابية لهذه التكوينات أنها تساعد الفرد المنتمي لها على شعور خاص بقيمته في المجتمع، هذه القيمة التي يحصل عليها بمقدار أهمية المجموعة التي ينتمي إليها، والتي تعطيه الفرصة للتخاطب والتواصل مع مجتمعه بشكل أفضل، من خلال أعمال ثقافية واجتماعية.

وكثير من أبناء هذه المجموعات كان مجهولاً في مجتمعه، لكنه سرعان ما أصبح اجتماعيا ثم زادت دائرة معارفه ومنهم من أصبح نجماً من نجوم الإعلام أو السياسة أو العمل الثقافي والاجتماعي عن طريق مجموعته التي وفرت له هذا الدعم.

الفرد قد يشعر بالأمان أكثر في هذه الجماعة الخاصة، وقد تساعده على تفجير طاقاته وإمكاناته، خاصة في ظروف لا يستطيع فيها المجتمع والدولة استيعاب طاقته وإعطاءه الفرصة المناسبة لإظهار إمكاناته ومواهبه، بل إن هذه المجموعة قد توفر له فرصة عمل، لا يجد مثلها في مجتمع زادت فيه نسبة البطالة بشكل كبير.

وعلى المستوى الاجتماعي قد تتوافر للعضو فرصة للزواج يتوافر فيها ما يرضيه من حيث ملاءمة مستوى الثقافة الدينية والسلوكية التي تناسبه .

ويرتبط المنتمي أيضاً بشبكة من العلاقات الممتدة مع زملائه وأقرانه، فيتزاور معهم، ويتشارك معهم في المناسبات الاجتماعية، مما لا يجعله يشعر بأنه وحيد، بل هناك مجموعه تدعمه وتساعده وقت الشدة وتقف معه، وفي هذا دعم نفسي ومعنوي هائل.

وعلى المستوى الثقافي فإن هذه المجموعات التربوية تساهم في صياغة فكر الفرد المنتمي وتنميته، وشحذ همته وتوسيع أفقه، لجعله يدرك واقع أمته وما تواجهه من تحديات. صحيح أن هذا الأمر قد يكون له تأثير سلبي إذا كانت صياغة العضو الثقافية مغلقة على اتجاه معين، يسير بطريقة أحادية، ولا يلتفت لتنوع الآراء وهو ما سنوضحه فيما يلي ..

ومن أسباب الاندفاع من أجل الانضمام لهذه المجموعات هو حماية النفس من الانحراف، عن طريق الانتماء إلى مجموعة توفر جواً معافىً ورفقة صالحة، أي أن بعض الشباب قد يسعى بنفسه إلى هذه الجماعات؛ لتوفر له حماية وتغطية نفسية ورفقة صالحة- بحسب رؤيته.


تأثيرات سلبية

ورغم هذه التأثيرات الإيجابية التي ذكرناها والتي تشجع كثيرا من الشباب للانضمام والسير في ركاب تلك المجموعات ، إلا أننا لا نستطيع أن نغفل الدور السلبي الذي تلعبه هذه المجموعات التربوية المنغلقة على عقلية أعضائها الثقافية والتي قد تعود بمردود سلبي على مستقبل الدعوة الإسلامية ككل ...

فحركة الأفكار في عقول هؤلاء الأعضاء تتحكم فيها المجموعة، عن طريق اعتماد كتب معينة وأنماط معينة من التفكير ، واستبعاد كتب أخرى وأنماط تفكير أخرى، ويستمر هذا الأسلوب مع العضو منذ بدايته وطوال فترة استمراره في المجموعة، حتى نجده يفكر بطريقة نمطية معينة تم إعدادها سلفاٌ، وفي اتجاه واحد فقط. وتكون المحصلة هي انغلاق فكري وثقافي على بقية الاتجاهات الفكرية المجتمعية ، وعزلة عن العالم الواسع، بل وعزلة عن ثقافة المجتمع وفكره.

ومن عجائب ما رأيناه في عملية التلقين الثقافي في أحد هذه المجموعات، أن أحد الذين كانوا يتولون قيادة عملية التلقين شاب قليل الحظ جدا من التعليم والثقافة في حين أن الأعضاء كانوا صحفيين وأطباء ومدرسين ومحامين

ولم يكن المعيار هنا في القيادة الثقافية هو العمق الثقافي وتعدد القراءات والقدرة على التحليل، فصاحبنا ليس عنده فكرة عن كل ذلك، إنما العبرة في أنه من أهل الثقة، الذين يحفظون عن ظهر قلب توجهات المجموعة، والأفكار التي يراد أن تنقل للأعضاء.

وقد شهدنا في أحيان مختلفة مناقشات تنم عن الضحالة الثقافية عند بعض هؤلاء القادة الثقافيين، وكأن المطلوب هو تكوين عضو لا يعرف إلا الطاعة ، ولا يحلل ولا يناقش ولا يبحث، لأن المطلوب منه أن يكون جندياً ينفذ التعليمات فقط، وكأن بعض قادة هذه التكوينات كانوا حريصين على هذا المستوى الثقافي المنغلق ! ويدل على ذلك كراهيتهم الشديدة لما أسموه ( الجدل ) وكراهيتهم للاقتراح والنقاش والرأي والرأي الآخر حرصا منهم على استدامة الطاعة ..

كما رأينا تغييرات خطيرة في نفسية العضو، حيث أصبح الجميع مدركين أن قيمة العضو وأهميته هي في درجة طاعته وتنفيذه للتعليمات، فأصبح الجميع يتسابقون من أجل الحصول على الرضا والقبول , وفي هذا أيضا خلل تربوي عميق حيث تذوب شخصية الفرد وآراءه وأفكاره وحيث لا يكون لها وجود !

انغلاق ثقافي

وقد لا حظنا أن بعض هذه المجموعات قد تتحرك في بعض الأحيان نحو ماأسماه بعض الباحثين : إطار تكريس سلبي نحو الانغلاق الثقافي والمعرفي عن المجتمع بتكويناته الثقافية والإبداعية المختلفة.

وكثيرة هي العوامل التي تؤدي إلى الانغلاق الفكري والثقافي إلا أن واحدا من أهم دوافعه هي ظاهرة التشرذم بعيدا عن المنابع الثقافية الإسلامية الأخرى والانفتاح على الآخر مما يوجد محدودية في الفكر وضيقا في الأفق .

ويرى الباحثون أن ذلك قد يصطدم مع المبادىء الإسلامية السامية، من حيث التسامح، والتعدد المعرفي، والانفتاح الثقافي على الآخرين.

ولو نظرنا في الفكر الإسلامي طوال فترة تطوره وتناميه على مدى التاريخ نجد أنه كان هناك دائما يتمتع بحرية الرأي والرأي الآخر, الفكر والفكر الآخر, ولم يمر الفكر الإسلامي طوال حقبه المتتالية, بهيمنة الرأي الواحد والفكر الواحد ومن هنا نبع تعدد المذاهب والأصول الفكرية المتباينة ولم تنشأ الصراعات فيما بينها إلا بعد نمو الفكر المتعصب المنغلق على ذاته الذي أجج الفتن والأحقاد، فكان ضحيتها أن زهقت عشرات الأرواح دون ذنب سوى الاختلاف في الرأي.

هل هو قصور منهجي ؟

الملاحظ أن المناهج التربوية في بعض تلك المجموعات ترتكز على تربية وتنشئة العضو المنتمي والمطيع والمنفذ والموالي ولاءً مطلقاً لقيادته – كما سبق وبينا - ، ولا تهتم في مقابل ذلك بتنشئة هذا العضو على التواصل الاجتماعي والفكري والنفسي والثقافي مع المجتمع الأوسع.

ويحول هذا العضو المنتمي إلى حالة من الانتظار الدائم للأوامر والتعليمات ويفقد كل قدرة على المبادأة والمبادرة على أي مستوى من المستويات حتى على مستوى تكوين رأيه في القضايا التي يشاهدها يومياً.

هذه الثغرة في المنهاج التربوي يتضرر منها الجميع. وحينما يكثر الأعضاء المنفذون المطيعون، ويقل عدد الأعضاء المبدعين تتحول المجموعة التربوية المغلقة إلى آلة من الممكن أن يتحكم في توجيهها إنسان متواضع الإمكانات والثقافة متصلب الرأي لا يقبل بالخلاف ولا يتأدب بآدابه ولا يمتثل المعاني الإسلامية فيه .

ولأن العملية التربوية داخل المجموعة تركز على قيم الطاعة والولاء والالتزام والفدائية ونكران الذات، فقد يتحول تكون المجموعة في حد ذاته إلى غاية، مع ما يمثله ذلك من خطر على العمل الإسلامي عموماً.

مأساة القولبة والتنمـيـــط

ومع انتشار هذه المجموعات التربوية المغلقة، انتشرت ظاهرة " التنميط والقولبة" حيث تسعى كل مجموعة تربوية إلى جعل كل المنتمين إليها نمطاً واحداً مكرراً، لا يوجد اختلافات بين أعضائه، أو جعلهم قوالب متشابهة بل متطابقة في الرؤية والتفكير والاتجاه.

وملاحظة مثل هذه الأنماط في التفكير، تفيدنا كثيراً في معـرفة الأسباب الحقيقة للتعثر الذي نعاني منه على مختلف مستويات حياتنا، خاصة في المؤسسات، حيث ضعف الإبداع الذي ينجم عن الاختلافات الطبيعية بين الناس.

وتسهم عملية القولبة والتنميط في تهميش خاصية التفكير بصورة كاملة أو جزئية، لدى الأتباع ، ثم، تزويدهم بالافتراضات الأساسية التي يقوم عليها التكوين، بفهم الزعـيم أو القائد ثم تأتي الخطوة الأخيرة وهي بناء جدر سميكة بينهم، وبين الجماعات والتكوينات المشابهة الأخرى.

ومن أسباب هذه الظاهرة السلبية "ظاهرة القولبة والتنميط"، عدم التفريق بين الدعوة الإسلامية- التي هي الأصل - وبين الدعوة للمجموعة ..
بمعنى أن الأعضاء، وربما الزعماء لا يستطيعون التفريق بين تجميع الأتباع لصف الدعوة الإسلامية، وبين تجنيدهم للمجموعة، وليس أدل على ذلك من تناحر بعض التنظيمات التي ربما هي متقاربة في أفكارها ومبادئها إلى حد كبير ... بالرغم من أن الجميع يعلن أنه يدعـو للإسلام العظيم ولوحدة العاملين فيه !!

ومن أسباب القابلية للتنميط، صغر السن، حيث تلجأ بعض المجموعات ، إلى تجميع الأتباع في مرحلة عمرية مبكرة، ومنها أيضاً ضعـف الشخصية، ومن سمات ضعـيف الشخصية، الإعجاب بالأشخاص، والموافقة الدائمة، وعدم القدرة على النقد أو حتى الاستفسار.

وعادة ما تجد التكوينات والمجموعات التربوية ضالتها في هؤلاء، وتعـتبرهم من أقل الأتباع تكلفة وأفضلهم اتّباعاً

ومن إفرازات عملية التنميط والقولبة على الساحة الإسلامية والدعوية، تجذر الروح الحزبية لدى أتباع هذه المجموعات، في الوقت الذي يدعو فيه كلٌّ منها إلى (نبذ الحزبية) ويدّعي براءته منها.

وكذلك ارتفاع وتيرة الجدل حول الأسماء والأشخاص والمصطلحات، فضلاً عن المسائل التي لا ينبني عليها عمل.

وتشترك الأنواع المختلفة من التنميط والقولبة، في قتلها لإبداع الشخص، ومن ثَم تنميطه بالطريقة المحددة، ووضعه في القالب المراد، حيث تنتشر هذه الظاهرة في مجتمعاتنا بكل مستوياتها.
فهناك التنميط الأسري، حيث تنميط الأبناء وقولبتهم بطريقة الوالد مثلاً، ورؤيته للأشياء والأحداث والأشخاص.
وهناك التنميط المؤسسي، حيث يسعى المدير لتنميط وقولبة الموظفين بطريقته في العمل والإدارة.
وهناك التنميط التنظيمي، وفيه تسعى التنظيمات إلى جعل أعضائها نسخاً كربونية متطابقة في الفهم والحكم على الأشياء..