أنت هنا

استثمار السياحة في الدعوة إلى دين الله
25 جمادى الثانية 1428
اللجنة العلمية

لقد جاءت الشريعة الإسلامية لتستوعب شؤون الحياة كلها وتحقق للناس سعادتهم وهناءهم والغاية التي لأجلها خلقهم خالقهم ومولاهم فهي ليست بإقليمية ولا عنصرية بل عالمية عامة للناس كلهم قال تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) (الأعراف: من الآية158)، فجميع الناس مخاطبون بها فهي دين الفطرة السوية ومنهاج الحياة الفاضلة السعيدة.
وغايتها تحقيق عبادة الله في أرضه كما قال سبحانه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)، فلا ينبغي للسائح المسلم أن يغفل أو يتغافل عن ذلك بل يجب عليه استثمار سياحته في تحقيق تلك الغاية العظيمة والهدف النبيل لنفسه ولغيره فيدعو إلى دين الله بقوله وفعله ولو كان في رحلة سياحية يهدف من خلالها للترويح والترفيه والاستجمام وغيره.
فقد دل الكتاب والسنة على وجوب الدعوة إلى الله عز وجل كما في قوله سبحانه: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104)، وقوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: من الآية125)، وقوله: (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (القصص: من الآية87)، وقوله: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (يوسف: من الآية108).
ولا شك أن المجتمعات والميادين المتنوعة بحاجة إلى الدعوة إلى دين الله؛ لأنها مادة حياة الروح والبدن وحاجة المجتمعات إليها أشد من حاجتهم للأكل والشرب واللباس كما بين ذلك ابن القيم رحمه الله(1)، وهي سبيل التعرف على الوحي لأن العقل البشري قاصر عن الاستقلال بمعرفة الحق وبها يتحقق التوازن في المجتمعات فتسدد حياة الناس ونفوسهم الأمارة بالسوء وتصوب أوضاعهم وأحوالهم وتعالج أخطاءهم بهذه الدعوة فهي نجاة من الأزمات وإنقاذ للخلائق من الدركات والضلالات(2).
وعصرنا الحاضر أشد العصور حاجة للدعوة وافتقاراً إليها، وأبرز ميادينها التي يشتد فيها الفقر (فقر القيم والمثل والشريعة والعقيدة): المواقع السياحية التي عادة ما يغزوها اللوث الفكري بجوانبه المختلفة لأنها حمى مستباحة يسهل النفوذ إليها بسبب بعدها الملحوظ عن الله غالباً.
لذا فالسائحون والمتنزهون في المواقع السياحية بأمس الحاجة إلى الدعوة التي توجه إليهم بمختلف صورها وألوانها ووسائلها وأساليبها(3).
والإسلام دين الجماعة والأصل في المسلم الاختلاط بالناس ومعاشرتهم فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"(4) وبالمخالطة يتمكن الداعية من الاطلاع على أحوال المواقع السياحية وطبيعة مرتاديها ومعرفة حقيقة الانحرافات وأبعادها لمعالجتها بالأسلوب الأمثل(5).
فهي من واجبات الدعاة نحو المدعوين سواء بالسياحة الدعوية أو بغشيان المدعوين في المواقع السياحية وإن كانت حالهم فيها غير سوية فالله تعالى يقول: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (الأنعام:68)، فبيّن بأن الإعراض يكون بعد الذكرى وهو التذكير والدعوة، وضابط هذه المخالطة هو الموازنة بين المصالح والمفاسد فيها(6).
وكانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكفاحهم وجهادهم في سبيل هذه الدعوة لإخراج الناس من ظلمات الكفر والباطل إلى نور الإسلام الحق وعدله ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وهي فرض كفاية كما دلت على ذلك النصوص السابقة، وقد تكون فرض عين إذا كان المسلم في مكان ليس فيه من يقوم بذلك سواه وكذا عند قلة الدعاة وعند كثرة المنكرات وعند غلبة الجهل كحالنا اليوم تكون الدعوة فرض عين على كل واحد بحسب طاقته وعلى قدر علمه وبهذا يعلم أن كونها فرض عين أو كفاية أمر نسبي يختلف باختلاف الأحوال.
وقد ورد في فضلها آيات وأحاديث كثيرة منها:
قوله سبحانه: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت:33).
والمعنى: لا أحد أحسن قولاً منه لكونه دعا إلى الله وأرشد إلى دينه وعمل بما يدعو إليه من الحق وترك وحذر مما نهى عنه من الباطل وصرح بذلك معتزاً مفتخراً بما هو عليه من الحق ولم يخجل كمن يستنكف عن ذلك ويكره أن ينطق بأنه مسلم أو بأنه يدعو إلى الإسلام حياء من الناس وما أقبحه من حياء بل ربما توهم بعض من اغتر بالحضارات الغربية المادية بأن ذلك معارض للمدنية الحديثة والحضارة والرقي وتدخل في الحريات الشخصية(7)، وما علم هذا المسكين بأن المسلم مفتاح للخير مشعل للنور ومنبع للطيب يحب للآخرين السعادة والهدى واتباع الحق وتحصيل الخير ودخول الجنان ويبذل لهم جهده ووسعه لنفعهم وإنقاذهم دون طلب العوض منهم فأي حضارة ورقي وتقدم ونيل وكرم وحسن خلق أعظم من هذا وأجل وأروع؟
أيساوي هذا من همه تحصيل ملذاته وشهواته والترويح عن نفسه في سياحته وترك الآخرين في ظلمات الجهل والضلالة والغواية دون إرشاد ودلالة ودعوة؟! كلا والله لا يستويان أبداً.
فلذا كان المسلم الداعية إلى دينه في كل أحواله(8) – حتى السياحية – موعوداً بالخير العظيم والثواب الجزيل من الحق جل جلاله كما أخبر بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم فقال: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله"(9)، وقال": "من دعا إلى هدى كان له من الأجور مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً"، وقال لعلي رضي الله عنه: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم"(10).
فعلى المسلم أن يستثمر سياحته في الدعوة إلى الله عز وجل لنفع الآخرين وتحصيل الثواب الجزيل من رب العالمين وهذه وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام وهم خير الخلق وأفضلهم وأنفعهم لهم.
وقد دلت النصوص على كيفية الدعوة وأسلوبها كما في قوله سبحانه: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: من الآية125)، فيبدأ المسلم بالحكمة وهي الأدلة المقنعة الواضحة الكاشفة للحق والداحضة للباطل فإن كان لدى المدعو بعض الجفاء والاعتراض فينتقل إلى الموعظة الحسنة بالآيات والأحاديث والبراهين العقلية والمعجزات الإلهية الربانية فإن كان لديه شبه فيجادل بالحسنى دون غلظة أو تعنيف أو عجلة بل كما قال سبحانه لموسى وهارون: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طـه:44)، وكما وصف نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: من الآية159)، فلا بد أن يتحلى الداعية بالحكمة والعلم والصبر وحسن الأخلاق والتأدب مع المخالفين وتحمل أخطائهم فلا يشق على الناس ولا ينفرهم من دين الله بغلظته وحماقته وجهله وأسلوبه العنيف الضار فإن سلس القياد لين الجانب طيب الكلام بشوش الوجه مؤثر في القلوب.
والناس يتباينون في كل شيء في ذكائهم وعلمهم وأمزجتهم ومشاعرهم وميولهم واتجاهاتهم وطبائعهم وأفكارهم وتصوراتهم وغير ذلك مما يفرض على الداعية أن يحسن اختيار الأسلوب والمدخل الأكثر مناسبة لنفوسهم وملاءمة لعقولهم.
وعليه أن يراعي ما يكرهه الناس من إبراز عيوبهم في العلن فإنه نوع من التوبيخ والسخرية ومن الأسلوب المباشر في النقد فإن التعريض والتنبيه كاف لأصحاب القلوب الحية، ومن التركيز على السلبيات وتجاهل الحسنات ومن التركيز على الأخطاء والزلات ومن المعاملة باستعلاء واحتقار وكبر ونحو ذلك.
كما أن عليه مراعاة ما يحبونه من إظهار الاهتمام بهم واستماع حديثهم وعدم الإفراط في مجادلتهم وتقديرهم واحترامهم وشكرهم على حسناتهم وتشجيعهم عليها وتصحيح أخطائهم دون جرح مشاعرهم ومناداتهم بأحب الأسماء إليهم فإن في ذلك بالغ الأثر عليهم، ولا بد من مراعاة أحوال السائحين والمتنزهين النفسية وتفاعلهم مع روعة الجمال في الموقع السياحي واستجابتهم الفطرية لمؤثراته بالبهجة والسرور وانبساط الأسارير وذلك بأن تنساق الدعوة في المجرى العام وتتوافق مع الجو المحيط وتمتزج في الميدان الدعوي في موضوعها وأسلوبها ووسائلها بما يعزز انبعاث السرور في نفوسهم فيستثمر هبوب ريح الأنس والبهجة بالتهذيب والتشذيب والتقويم المنسجم مع طبيعة الفطرة والموقع السياحي كما في دعوة سليمان لملكة سبأ(11).
كما أن أسلوب القدوة الحسنة من أعظم الوسائل الناجعة في إقناع المدعو والتأثير عليه وتقلبه للدعوة والنصيحة.
فمن أهم أخلاق الداعية العمل بما يدعو إليه من دين عظيم ومبادئ سامية وأخلاق راقية كريمة فاضلة فيمتثلها قولاً وعملاً وسلوكاً، حتى لا يكون ممن قال الله فيهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2)، أو ممن وبخهم سبحانه من اليهود بقوله: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة:44).
والسائح المسلم سفير لبلده ومجتمعه وأمته وقيمه وعاداته وعقيدته فيجب أن يمثلها أحسن تمثيل وأفضله وأن يكون مثالاً للآخرين في تعامله وسلوكه وانضباطه واحترامه لمشاعر الآخرين وتقيده بأنظمتهم المحققة للمصالح الدنيوية.

_________________
(*)استفيد مادة البحث من كتاب السياحة في الاسلام لعبد الله الخضيري
(1) في مفتاح دار السعادة (2/2).
(2) ينظر: الدعوة إلى الله تعالى في المواقع السياحية، للأحمد، ص (294) وما بعدها، بتصرف.
(3) ينظر: المصدر السابق.
(4) أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء رقم (4032).
(5) ينظر: الدعوة إلى الله تعالى في المواقع السياحية، للأحمد، ص 348، وما بعدها، بتصرف.
(6) ينظر: المصدر السابق.
(7) وهي مزاعم يبتكرها ويفتريها دعاة الضلالة ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون، وأقول إن التدخل في الحريات الشخصية إنما يظهر حقاً في وسائل المنصرين ودعاة الإلحاد من خلال إجبار الناس على دخول دينهم المنحرف لتحصيل الضرورات من أكل وشرب ودواء باسم المعونات الإنسانية! فأي استغلال وتدخل في حريات الآخرين أبشع من هذا وأجلى! ويفارق هذا ما يقوم به المسلم في سياحته من بذل الخير للغير بالمجان طلباً لعفو وعطاء المنان، وللفائدة ينظر: فتوى مهمة برقم (20096) من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة في التحذير من وسائل التنصير، في فتاوى اللجنة، جمع الدويش (12/298).
(8) حتى في أدائه لشعائره وعباداته، وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بجواز وقوف النصارى في صفوف المسلمين ومشاهدتهم لعبادتهم ومجاراتهم لحركاتهم وتأملهم لذلك لما فيه من المصلحة العامة والترغيب في الإسلام وحسن السمعة للمسلمين كما في الفتوى رقم (14269) في المصدر السابق (2/256-257)، بتصرف.
(9) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره، ص (1017)، رقم (1893).
(10) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، ص(224)، رقم (2783).