قيادات العمل الإسلامي المعاصر والتخصص الشرعي


إن المراقب لمسيرة العمل الإسلامي المعاصر يرى ظاهرة غريبة و مقلقة لكثير من الناس ، ألا وهي كون كثير من قيادات العمل الإسلامي المعاصر من غير علماء الشريعة وطلبتها ، بل إن جلهم من خريجي الجامعات الغربية أو الكليات العلمية في جامعات الدول العربية والإسلامية ، وقد سببت هذه الظاهرة مشكلات عديدة بعضها شرعية نتجت عن الخلط بين دور القيادات المتنوعة وعدم احترام التخصصات ، وإماتة فريضة الرجوع إلى أهل الذكر والصدور عن رأيهم ، وبعض تلك المشكلات تنظيمية لما يرى كثير من المنتمين إلى الحركات الإسلامية من عدم تأهل قياداتهم للتصدر لأي مهمة دعوية ولو كانت إدارية بحتة .
لهذا ، رأيت أن من المفيد مناقشة هذه الظاهرة والبحث عن أسبابها الحقيقية ، والتأمل في نتائجها وتأثيراتها في مسيرة العمل الإسلامي المعاصر .
أرى والله أعلم أن بروز قيادات تتصدر العمل الإسلامي المعاصر لم يأت صدفة ، ولم يحدث جراء إهمال أولي الأمر في الحركات الإسلامية لشرط ( العلم - أو اليقين ) في اختيار أئمتهم ورؤسائهم ، بل أن ذلك نتيجة طبيعية لظروف تاريخية وسياسية وعلمية لا يمكن تجاهلها بحال من الأحوال ، إذ من المعروف لدى الجميع أن أغلب البلاد الإسلامية قد عانى في فترات تاريخها الحديث من الاستعمار وذاق من ويلاتها ، وأن من أقبح سيئات المستعمرين نشر العقيدة العلمانية بين المسلمين ، فتغيرت بذلك معالم الدين ، وأقصيت الشريعة عن الحكم ، وعلق الدعاة إليها على المشانق ، وجردت مناهج التربية والتعليم الرسمية من المواد الشرعية ، وانقسم طلاب العلم إلى صنفين هما طلاب العلوم الشرعية وهم الذين يدرسون في حلقات الشيوخ في المساجد والكتاتيب ، أو في الكليات والجامعات الإسلامية التي لا تدرس العلوم العصرية ، ولا يصلح خريجوها إلا للإمامة في المساجد ، أو التدريس في المعاهد الدينية التابعة لوزارت الأوقاف ، وطائفة أخرى هم طلاب العلوم العصرية الذين يدرسون في أرقى الجامعات والكليات على أيدي الدكاترة ، وهم المرشحون بعد التخرج لإدارة شؤون الدولة السياسية والاقتصادية وغيرها ، وكان من قدر الخير أن الصحوة الإسلامية قد دخلت أروقة تلك الجامعات والكليات حيث تصنع رؤساء الغد وقيادات المستقبل ويدربون على سياسة الدول وإدارة الأعمال ، فاهتدت على أيدي دعاتها خيرة أولئك الطلاب ، والذين كانوا من قبل على انقطاع عن العلوم الشرعية ، وعلى جفاء عن التعاليم الإسلامية ، ومع الأيام صحبوا الدعاة وشهدوا مجالسهم وغرفوا من معينهم العلم والأدب ، فكمل بذلك ما كان من نقصهم ، واستقام فيهم ما اعوج من سلوكهم ، حتى غدوا في الحقيقة منهم ، فاختيروا قادة فيهم .
وظني أن القارئ الكريم يدرك أن معركة الإسلام في هذا العصر ليست معركة دينية منحصرة في إقناع الناس على صحة عقائد الإسلام وصدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وسمو أخلاق المسلمين بالجملة ، حتى يكفي لقيادة الحركة الداعية إليها مجرد حمل الفقه والتخصص في الشريعة ، لا وكلا ، بل إنها حرب ضروس ومعركة شرسة ضد أعداء فجرة و مهرة في محاربة الحق وجميع مظاهره ، و نصرة الباطل بشتى أنواعه ، مما يتطلب صلاحا يغلب فجورهم ، ويقينا في الدين وفقها بالواقع في مقابل مهاراتهم .
والحاصل ولله الحمد أن جل قيادات العمل الإسلامي المعاصر على درجة من الصبر واليقين تمنحهم صفة العدالة وتمحوا عنهم عار الأمية الشرعية ، فصلحوا لما رشحوا لها من أنواع الرياسة في كثير من مجالات العمل .
غير أن هذا التفسير لعوامل بروز هذه الظاهرة لا ينفي أن تكون هناك نتائج سلبية لها يجب دراستها والحد من استمرارها ، لأن بعض تلك القيادات جاوزت الخطوط الحمراء فتطاولت على مقام علماء الشريعة ، لتؤدي دور الفقيه والمفسر والمحدث ، ويقوم مقام المفتي والقاضي ، و عندئذ تكون المشكلة أمام أولي الأمر في الحركات الإسلامية ، إن قدروا على إعادة الأمور إلى نصابها ، وإسناد كل مهمة إلى أهلها ، ودعوة كل قوة عاملة إلى جنب أختها ، فتستفيد الدعوة من كل أبنائها من غير إفراط ولا تفريط وبدون غلو ولا جفاء ، وإذا عجزوا أن يلجموا صلف المتعالمين المتفيقهين فسيختلط الحابل يومئذ بالنابل ، ويلتبس الحق بالباطل ، و يهرف الناس في أمور الدين و الدعوة والجهاد بما لا يعرفون ، فتكون الكارثة ، لا قدر الله ولا سمح