مجالات السياسة الشرعيةوتطبيقاتها (9) النوع الثالث : ما لم يرد فيه نص

المقالة الثامنة :
النوع الثالث : ما لم يرد فيه نص جزئي خاص

بعد الانتهاء من الحديث والتمثيل للنوعين الأول والثاني ، من المسائل الفقهية المندرجة تحت القسم الثاني من مجالات السياسة الشرعية في المسائل والأحكام - وهو الذي وكل تنفيذه إلى أولي الأمر ، ولا يفتات عليهم فيه – يأتي الحديث هنا عن النوع الثالث من هذه المسائل ، وبيانه في هذه الحلقة على النحو التالي :

النـوع الثالث : أحكام وقائع أو إجراءاتٍ وأمور إدارية ، لم يوقف لها على دليل جزئيِ خاصِ ، من نصٍّ أو إجماع أو قياس .

وتعالج أحكام هذا النوع من بالاستنباط الاجتهادي ، وذلك بإعمال طرق ( الاستدلال ) ولا سيما التي سبق ذكرها في المطلب الأول من المبحث الثاني وهي ما يعرف بـ ( الأدلة المختلف فيها ) أو ( الأدلة التبعية ) أو طرق استثمار النصوص ، أو ( الاستدلال ) وهو المصطلح المرتضى في هذه الدراسة وهي ما وُصِفت أيضا بأسس السياسة الشرعية .

ومن أمثلة هذا النوع : من الأحكام والوقائع :

- توظيف ولي الأمرِ الأموالَ ، على الأغنياء لدفع خطر طارئ على البلاد ، إذا لم تف خزينة الدولة مع ما يجب جبايته من الزكاة والصدقة وما يجب الحفاظ عليه من المال العام ، بما يُحتاج من مالٍ لدفع الخطر ، وهو مقيد بالشروط التي ذكرها الفقهاء رحمهم الله تعالى .

ومنها : اتخاذ الإجراءات الرادعة ، التي تحول دون تساهل الناس في أحكام الشرع ، ومن ذلك إساءتهم لاستعمال ولاياتهم الشرعية الخاصة مثلا ، ومن أمثلته : الإجراء الذي اتخذه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، بإمضاء طلاق الثلاث بلفظة واحدة كما لو كانت ثلاثا ، من غير تغيير للحكم الأصلي ، وهو وقوعه الثلاث طلقة واحدة . فهو إجراء تعزيري لا حكم شرعي أصلي ؛ وليس في هذا الإجراء الذي اتخذه عمر رضي الله عنه مخالفة للشرع كما قد يُظنّ ، وغاية ما فيه : أنّ عمر رضي الله عنه منع المطلق ثلاثا بلفظ واحد من مباح وهو مراجعة الزوجة ، ومن المتقرِّر في علم السياسة الشرعية أن لولي الأمر أن يمنع الناس من بعض المباحات إذا اقتضت ذلك المصلحة العامة ، ومن يتأمل عبارة عمر رضي الله عنه يجد فيها هذا المعنى ، فقد قال رضي الله عنه : ( إنَّ الناس قد استعجلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ! فأمضاه عليهم ) رواه مسلم .
فتأمل قوله : ( كانت لهم فيه أناة ) وقوله ( فلو أمضيناه ) .

- ومنها : كل ما يدخل في باب الجرائم التي يستحق مرتكبها التعزير شرعا ، من حيث تنظيم تفصيلاتها وتنظيم تقدير عقوباتها بحد أعلى وآخر أدنى ، كالأنظمة التي تحدد عقوباتٍ لمرتكبي جريمة الرشوة أو جريمة تزوير في المحررات أو تزييف النقود ، أو اختلاس المال العام ، أو إساءة استعمال السلطة واستغلال النفوذ ، وغير ذلك من الجرائم التي تتعلق بالموظفين العموميين . شريطة أن يتولى تنظيم ذلك ألو الأمر المختصين الشرعيين وأهل الخبرة ، وأن يكون الحكم فيها للقضاء الشرعي ، وعلى هذا جرى العمل لدينا في المملكة العربية السعودية فيما يعرف لدى المختصين في الأنظمة بالجرائم المنظمة في المملكة العربية السعودية .

- ومن أمثلتها أيضا : طلب ولي الأمر - أو من يقوم مقامه عند عدمه - من بعض الجنود أو الفدائيين ، تنفيذ عمليات عسكرية فدائية ، ولو تيقن الجنديُّ أو المجاهد المسلم فيها قتل نفسه تبعا لنكايته بالعدو بنية الجهاد ، لا قصداً للتخلص من الحياة ، ولهذا أدلته وشواهده في القرآن الكريم والسنة الصحيحة .
وينبغي أن يُتفطن إلى أن المسألة أوسع من الصورة الحالية في العمليات الاستشهادية في فلسطين مثلا ، فلو نظّم ولي الأمر فرقا فدائية استشهادية ضمن فرق الجيش الإسلامي ، لكان لهذا وجهه من السياسة الشرعية ، وله شروط وقيود مهمّة ليس هذا محلّ التفصيل فيها ، وإنما قصدت التمثيل هنا ليس إلا .
بل لولي الأمر حتى لو لم ير مشروعية العمليات الاستشهادية أن يدرب فرقة من الجيش على ذلك لحال الضرورة ، وسواء كان ذلك في قطاع البرية أو البحرية أو الجوية .
ولولي الأمر أن يقصر ذلك على مسألة الردع بمثل هذا التقسيم إن لم ير مشروعية ذلك ، ويكون صنيعه هذا من باب السياسة الشرعية .

- ومنه تصنيع الأسلحة الكيماوية ، وبناء المفاعلات النووية ، لغرض الردع ، والمعاملة بالمثل في حال الاعتداء على الدولة الإسلامية ؛ لا لغرض البدء بذلك .

ومنـه : من الإجراءات والأمور الإدارية (1) :

- إنشاء الدواوين (2) ؛ وتنظيم شؤون الموظفين ، وتنظيم إدارة الأعمال ، وتنظيم مرور السيارات ، وإجراءات التقاضي ، وعيكلة الأجهزة التنفيذية والقضائية ، وغير ذلك من النظم ، إذا كانت على وجه لا يخالف الشرع ولا يخرج عن قواعده ؛ فإنها حينئذ تكون من الأنظمة الوضعية المشروعة ، أي : التي ينظمها البشر ويسنونها ، مما هو داخل في السياسة الشرعية ؛ وتختلف أحكامها في المشروعية باختلاف حاجة الأمة إليها .

- وكذلك ما يندرج في الإجراءات من وسائل تنفيذ العبادات ، من مثل تنظيم بناء المساجد ، و وضع شروط لتعيين الأئمة والمؤذنين ، وتنظيم دفع الحجيج في المشاعر (3) ، وتحديد أعداد الحجيج بنسب معينة ، بما يكون سبباً في تيسير الحج وتقليل المخاطر ؛ وغير ذلك من الإجراءات والتنظيمات التي تشرع لولي الأمر من طريق المصالح المرسلة ، و قاعدة : فتح الذرائع (4) ، وغيرها من المستندات الشرعية المعتبرة ؛ وهذه الأمور لا بأس باستفادتها من أي مصدر ، ولو من تجارب الأعداء من غير المسلمين .

وقد تحدث فقهاء السياسة الشرعية عن أمثلة قد لا يخطر على بال بعض طلبة العلم فضلا عن غيرهم . ومما ذكروه في ذلك تحديد معايير للجودة ، وترتيبات لحماية المستهلك ، بتفاصيل تثير الدهشة .

ومن يقرأ في كتب الحسبة بمختلف أنواعها ومسمياتها يجد من ذلك عجبا .

وخلاصة القول : أنَّ كلّ ما صدر عن أولي الأمر ، من أحكام وإجراءات ، منوطة بالمصلحة ، فيما لم يرد بشأنه دليل خاص ، مُتَعَيِّنٌ - فهو داخل في مجالات السِّيَاسة الشَّرعيَّة ، كما مرَّ بيانه في تعريفها ؛ والله تعالى أعلم .

--------------------
(1)ينظر : جواب الغزالي على سؤال المصيصي . البحر المحيط ، للزركشي : 6/258-259 ؛ وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ، للعلامة / محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي (ت/1393) : 2/377 ، [ الكهف : 26] ، ط1-1417، عناية/صلاح الدين العلايلي ، دار إحياء التراث العربي : بيروت ؛ وتعليق /د. محمد الأشقر ، على : المستصفى ، للغزالي : 1/416 .
(2)الدواوين : جمع ديوان ، وهو : اسم يطلق على الدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء ، ثم أطلق على : الدفـاتر التي تستخدم في تسيير المصالح المختلفة في إدارة الدولة من الأموال ، والأعمال الإدارية والعسكرية ، وغيرها ، كما يطلق على الأماكن التي توجد بها هذه المصالح ، وموظفي الدولة . وقد اختلف في أصل الكلمة ، هل هي عربية أو معربة ؟ وصوَّب بعض العلماء القول بأنَّها عربية ؛ بأنَّها من دونت الكلمة : إذا ضبطتها وقيَّدتها ؛ لأنَّه موضع تضبط فيه أحوال الناس وتدوَّن .
(3)ينظر : سن الأنظمة في الدولة الإسلامية ، د. يوسف الخضير : 403-405 .
(4)ينظر : الحسبة في الإسلام : 32 ؛ وص : 148 .