الطاعة .. هل تعيق الإبداع وترسخ الانكسار؟

تعلي الاتجاهات التربوية الحديثة، وفق المعايير العالمية للتربية، من شأن الاستقلالية الذاتية للفرد، حتى ولو كان طفلاً، أثناء تعرضه للمبادئ والقيم والضوابط التي يلقنها له المجتمعأو يلقنها له المربون ، كي يكون عضواً نافعاً ومفيداً في هذا المجتمع، وكي يتم إدماجه بصورة سليمة في هذا المجتمع.
وتنادي هذه الاتجاهات الحديثة بضرورة توفير أجواء الحرية للطفل أو الفرد الذي توجه إليه برامج التربية، وأهمية اشتراكه في النقاش والبحث لما يتلقاه من برامج، واحترام إرادته في تقبل أو رفض ما يعطى له.

ويؤكد العلماء أن هذا الجو هو الذي يساعد الشخصية على الإبداع والابتكار، بينما لو قامت عملية التربية والتنشئة على أساس القهر والإملاء، وأن يكون الطرف الذي يتلقى برامج التربية سلبياً وغير متفاعل، وعليه الإيمان بما يعطى له بدون مشاركة أو اختيار حر، فإنه سوف يكون شخصية تقليدية وغير مبدعة وغير مبتكرة.

ويتهم المستشرقون، وأجهزة الثقافة والإعلام الغربية عموماً، ومن دار في فلكهم من المسلمين العلمانيين، يتهمون التربية العربية بأنها تربية من طرف واحد، تقوم على التلقين بالقهر والإذعان، ولذلك كان الإنسان العربي في رأيهم في حياته الاجتماعية والمهنية والسياسية، منكسرا وخانعاً - هذه وجهة نظرهم -

وفي هذه السطور سنتعرف على جملة من التوجهات الغربية في مجال التربية، ثم نتعرف على جوانب من التربية الإسلامية، ونرى أوجه التشويه التي أصابت التربية الإسلامية في التطبيق ، محاولين تجلية مبادئها، ومعرفة ما إذا كانت تتسق مع الاتجاهات الحديثة أو تقل عنها أو تتفوق عليها.

نظرية الأطوار الستة

يرى د. فؤاد نهرا، أستاذ العلوم السياسية في الجامعات الفرنسية أن إشكالية الطاعة والعصيان تعتبر من صميم إشكاليات مدارس التربية الأخلاقية الغربية، والتي وظيفتها إخراج الإنسان من حالة الخضوع للغرائز من أجل الامتثال للقوانين والمُثل. ويشترك جميع الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع في هذه المقولة الأخيرة، لكن الاختلاف يدور حول ما هي القوانين التي يتعين على الإنسان الفرد أن يخضع لها حتى تكتمل تربيته الأخلاقية؟ أهي القوانين التي يفرضها المجتمع؟ أم هي الوَصايا التي يستنبطها العقل والتي قد تتعارض مع قوانين المجتمع؟ إذن يتمحور الخلاف حول سؤال من يجب طاعته ومن يجب عصيانه.

وتنطلق التساؤلات في التجارب الأوروبية والأمريكية في التربية الأخلاقية الرسمية، حيث تقضي التربية الأخلاقية في بداية الأمر بتلقين المبادئ والقيم الأخلاقية وبفرضها على المتعلِّم الذي يكتفي بالامتثال لها. لكن ثمة توجهاً غربياً آخر سيكولوجي النزعة، بيّن أن وظيفة التربية الأخلاقية لا يمكن اختزالها في وظيفة الخضوع لقوانين وأنظمة المجتمع، وإنما قد تدفع الإنسان الفرد إلى تناول هذه الأخيرة بطريقة نقدية، وإلى إثبات استقلاليته الذاتية ككائنٍ عاقلٍ بوجه النظام القيمي للمجتمع. ولقد كان عالم النفس الشهير جان بياجيه سبّاقاً إلى الكشف عن الأسس السيكولوجية لتربية أخلاقية تحررية، قوامها تحقيق الاستقلالية الذاتية للفرد. وقد طوّر عالم النفس الأمريكي لورنس دراسات بياجيه فحدد ستة أطوارٍ للتنمية الأخلاقية للفرد.

ففي الطور الأول يشكل الخضوع للسلطة والخوف من العقاب، الحافز الأساسي للسلوك الأخلاقي للفرد.
ثم ينتقل الفرد إلى طورٍ ثان، يسمّى "طور الفردية النفعية" وخلاله يخضع الحكم الأخلاقي للفرد لحساب المصالح في علاقته بصاحب السلطة، حيث يتخذ القرار على ضوء موازنة الثواب والعقاب المنتظر من هذا الأخير.
وبانتقاله إلى الطور الثالث يتقيّد الفرد المعني بالأنماط الاجتماعية القائمة، ولا سيما بمجموعة الأعراف والتقاليد التي تحدد وتوزع الأدوار الاجتماعية. إذن يتقيد الفرد بالصورة المناسبة لدوره في المجتمع (كابن، كزوج، كعامل، كطالب، الخ)، وتتمحور أحكامه القيمية حول مبدأ الامتثال للصورة الاجتماعية التي يفرضها المجتمع.
ثم ينتقل الفرد إلى طورٍ رابعٍ يلقى تسمية "طور القانون والنظام" حيث يخضع الفرد للقوانين المجرّدة ويعتبرها المقياس الأعلى لسلوكه، فيتحرر من البُعد العرفي والذاتي. ويضع القانون الوضعي الذي يسود المجتمع فوق أي اعتبار آخر.
وبانتقال الفرد إلى الطور الخامس يُخضِع العقل النظم والقوانين الوضعية لامتحان العدالة، ويبحث عن شرعيتها. فهي ليست في ذاتها محقّة وشرعية. بل غالباً ما تكون ظالمة، إن لم تستمد مصدرها من عقدٍ اجتماعيٍّ أوليّ يعكس إرادة المواطنين. لهذا السبب سمي الطور الخامس "بطور العقد الاجتماعي". مما يتيح للفرد فرصة الإعراض عن القوانين التي لاتعبِّر عن إرادة جامعة.
لكن العقد الاجتماعي نفسه لا يغني بالضرورة عن الظلم، لأن الإرادة الجامعة قد تقوم على خطأ بل على ظلم قد يقع على الفئات التي لم يشملها العقد. وتتمثل شوائب هذه الإرادة المؤسسة للمواطنية في التاريخ الحديث، من خلال ممارسات الظلم تجاه الأطراف الخارجة على العقد الاجتماعي (الحروب الاستعمارية والرق والتمييز العنصري). لهذا السبب يقضي الطور السادس والأخير بالامتثال للمبادئ الأخلاقية، التي يقرها العقل والتي بطابعها الكوني والعقلاني تتجاوز مستوى النظم الاجتماعية الوضعية ومضمون العقد الاجتماعي.

تناقض ينبغي حله

ويؤكد د. محمود رضوان أستاذ التربية أن الادعاء بأن مبدأ الطاعة في التربية الإسلامية جاء على حساب مبدأ تحقيق الاستقلالية الذاتية للفرد، ادعاء خاطئ، فنحن نجد في تراثنا الإسلامي التربوي ما يؤكد على الاستقلالية الذاتية للفرد، وأن البناء الأخلاقي للإنسان يتطلب الحرية الفردية، والتي هي حرية القرار، والتي بغيابها يصبح الإنسان خاضعا لضرورات التكيف مع المحيط الاجتماعي.
وكثير من علماء المسلمين تحدثوا عن أن الطاعة ينبغي أن تكون مشروطة بعقدٍ أساسي.
كما ركز الكثير من علمائنا على أن للبناء العقلاني دور أساسي في تبرير المبادئ الأخلاقية، وأن العقيدة الدينية الإسلامية لا تدفع الإنسان إلى الطاعة غير المشروطة ، وإنما إلى ربط الطاعة بالحجة العقلية، وبمبادئ مؤسسة لعلاقات السلطة.

ويضيف د. محمود رضوان أن التربية الإسلامية السليمة، والقائمة على علم صحيح، والتي ازدهرت في عصور النهضة الإسلامية، لم تقم على أساس مبدأ الطاعة اللامشروطة ، ويمكن الرد على أصحاب الطاعة اللامشروطة بأن الإيمان المبني على الطاعة العمياء لا يمثل سوى الطور الابتدائي للوعي الديني، في حين أطواره المتقدمة تربط الطاعة بالعلم وبالنشاط العقلي، ونجد هذا المعنى في قوله تعالى [إنما يخشى الله من عباده العلماء]، فخشية العالم ليست مبنية على الطاعة العمياء، وإنما على اقترانها بالعقل والعلم.
ونحن نجد في تلك الطاعة تطابقاً بين قوانين العقل ومتطلبات الإيمان، ونجد دليلاً آخر على تناسب العقل والإيمان في قوله تعالى [الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار].
كما بيّنت السنة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين، كيف أن الطاعة مشروطة بشرع الله، بل ومشروطة أيضاً بالعقد الذي يربط الحاكم بالمحكوم. إذ تكثر السيرة النبوية من أحاديث يدعو فيها الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) إلى التمييز بين أقواله كنبي مرسل يبلغ رسالة سماوية وبين أقواله النابعة عن معرفته كإنسان، كما في قضية تأبير النخل، وفي ذلك دعوة إلى استخدام العقل للتمييز بين الأمرين.
إن الطاعة في الإسلام هي للعلماء العاملين والأتقياء المصلحين وللأئمة المنجزين والقائمين بحق الله عليهم , ومن هنا تكون الطاعة في ذاتها إصلاحا وإنجازا .
عن علي بن أبي طالب قال: "استعمل النبي صلى الله عليه وسلم - رجلاً من الأنصار على سرية بعثهم وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا قال: فاغضبوه في شيء فقال: اجمعوا لي حطبا. فجمعوا فقال: أوقدوا نارًا فأوقدوا"، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى. قال: فادخلوها. قال: فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار. قال: فسكن غضبه وطفئت النار، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف".[رواه البخاري].
فالرسول صلى الله عليه وسلم يبين هنا حدود الطاعة، وهي ما كان بالمعروف، فإذا خرجت عن دائرة المعروف، وانتقلت إلى ما يغضب الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

مسئولية نظامنا التعليمي

ويرى د. إسماعيل أبو النجا أستاذ التربية المقارنة أن نظامنا التعليمي العربي، ومنذ عصور الانحطاط والاحتلال، قائم على ثقافة التلقين وعدم الاعتراف بوظيفة العقل الأساسية "التفكير" و "التدبّر" في الأفعال و مسبباتها بل أخذ الأمور على ما هي عليه. فركن الناس إلى الكسل و نبذوا التفكير مادام هناك من يفكّر عنهم و يلقنهم الخطأ من الصواب. وهذا نظام أبعد ما يكون عن روح إسلامنا و قرآننا الذي لا تخلو سورة من سوره من: "أفلا تتدبرون"، "أفلا تعقلون".
وكانت إحدى النتائج المدمرة لهذا النظام، بالإضافة إلى إسهامه في إبعادنا عن ركب التحضر والاختراعات، هي إيجاد أمّة بعقلية ونفسية القطيع.

وكانت هذه المفاهيم، التي نشأت في مجتمعاتنا على غير هدي الإسلام، سبباً في غياب كلي لثقافة الاختلاف والحوار، والخوف بل الهلع من كل ما هو مختلف. فالكل لابد و أن يكون على رأي واحد ، وهذا ما لا يمكن حدوثه بين أفراد أسرة واحدة صغيرة، دعك من تحققه بين عشرات الملايين من البشر. والأدهى من ذلك أن أصبح الناس يعتقدون أن التفكير المختلف هو عدوّهم اللدود وأنه هو الذي سيفتح عليهم أبواب الفساد و الفتنة المتربصة بهم من عدوهم فيصابون بحالة من الهستيريا و التخبط العشوائي لمجرد سماع رأي مختلف فينهالون بالتقريع على هذا المختلف.

إن على نظامنا التعليمي مسئولية حقيقة أن يرسخ مفهوما إيجابيا للطاعة , فطاعة ولي الأمر واجبة مادام لم يأمر بمعصية , ولكن ذلك لا يمنع من نصحه بالمعروف وعرض الأفكار والاقتراحات عليه ليستضىء بها في مسيرة الإصلاح بل إنها حقه على المسلمين لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " الدين النصيحة , قلنا لمن يارسول الله ؟ قال لله ورسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم".
وطاعة المربين مهمة ومستحبة ماداموا يأمرون بالمعروف ويدلون على الخير من أطرافه , ولكن هذا لا يمنع أن نناقشهم ونجلي الرأي والرأي الآخر وعليهم أن يستمعوا إلى المخالف ويقدروا رأي الآخر ..

إن تراثنا الإسلامي قد أقر قيمة الاختلاف واحترم آراء العلماء وليس أدل على ذلك من تلك القاعدة الجليلة التي ذكرها الإمام النووي والتي تقول " أنه لا إنكار في المسائل الاجتهادية " فليس على المرء أن ينكر على أخيه الذي خالفه باتباع قول عالم معتبر لمجرد أنه خالفه ولكن هناك تقدير وتوقير لذلك الرأي الآخر .

جناية الصوفية على التربية الإسلامية

ومن جانبه يعتقد د. محمد كمال أستاذ الفلسفة الإسلامية أن الصوفية ارتكبت أخطاء جمة في مجال التربية، وحرّف قادتها كثيراً من مفاهيم القرآن والسنة.
فقد انتشر على أيدي الصوفية مفهوم "الشيخ والمريد"، لخدمة فلسفتهم وأغراضهم، رغم تناقض هذا المفهوم مع صريح مبادئ الإسلام. فحتى يحقق الصوفية مآربهم ألبسوا شيوخهم لباس العصمة والقداسة وأوجبوا على المريد أن يتخذ شيخاً ليرشده على الطريقة ويدله على الحقيقة.

ومن أهم آداب المريد عندهم أن يكون مع شيخه كالميت بين يدي مغسله، وأن لا يخالف شيخه في كل ما يشير عليه، ومهما أشار عليه المعلم بطريق في التعلم فليقلده، وليدع رأيه، فإن خطأ مرشده أنفع له من صوابه في نفسه، فمُعتَصم المريد بعد تقديم الشروط المذكورة شيخه، فليتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ النهر بالقائد، بحيث يفوض أمره إليه بالكلية، ولا يخالفه في ورده ولا صَدَره، ولا يبقي في متابعته شيئا ولا يذر، وليعلم أن نفعه في خطأ شيخه لو أخطأ أكثر من نفعه في صواب نفسه لو أصاب.
ومن كلامهم أيضاً أن المريد الصادق مع شيخه كالميت مع مغسله، لا كلام، ولا حركة، ولا يقدر أن ينطق بين يديه من هيبته، ولا يدخل، ولا يخرج، ولا يخالط أحداً، ولا يشتغل بعلم ولا قرآن ولا ذكر إلا بإذنه.

ويرى الصوفية أن على المريد أن لا يعترض على شيخه فيما فعله، ولو كان ظاهره حراماً، ولا يقول: لم فعل كذا؟ لأن من قال لشيخه لم؟ لا يفلح أبداً، فقد تصدر من الشيخ صورة مذمومة في الظاهر وهي محمودة في الباطن، ولذلك زخرت كتب المتصوفة بحكايات لترسيخ هذه الأكاذيب في قلوب المريدين المخدوعين.

ويفند د. محمد كمال هذا الكلام ويؤكد أنه مخالف للشريعة جملة وتفصيلاً، فالقاعدة الإسلامية التي يعرفها القاصي والداني، والصغير والكبير هي: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق). وهكذا فإن حدود الطاعة المشروعة وضوابطها للشيخ من المريد حاصله، أن المسلمين قاطبة لهم مرجع يرجعون إليه لا يخالفونه قيد أنملة، وذلك المرجع هو الكتاب والسنة فإن كان الشيخ- مهما علا أمره وارتفع شأنه - يملي على مريديه ما يوافق الكتاب والسنة فنعمت الطريقة ونعم المسلك، وإن كان ما يمليه عليهم مخالفاً للكتاب والسنة، فالواجب رفضه، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وليس أحدٌ معصوماً إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا في الشيخ الذي ثبتت معرفته بالدين وعلمه به، وأما إن كان مبتدعاً بدعة ظاهرة، أو فاجراً فجوراً ظاهراً فهذا يجب الإنكار عليه في بدعته وفجوره لا أن يطاع فيما يأمر به.

أما مسألة محبة الشيخ المستوجبة لطاعته العمياء فإن من أحب شخصاً لهواه مثل أن يحبه لدنيا يصيبها منه أو لحاجة يقوم له بها، أو لمال يصيبه، أو لعصبية فيه، ونحو ذلك من الأشياء، فهذه ليست محبة لله، بل هذه محبة لهوي النفس، وهذه المحبة هي التي توقع أصحابها في الزلل.
وقد يطيع المريد من يراه شيخا في أمور إفساد لمجتمعه أو تعد على حقوق الغير أو مخالفة للأعراف المقبولة مجتمعيا , خصوصا إذا كان المريد قليل العلم كثير الحماسة فههنا تقع الكارثة !

ميزان دقيق في لمعرفة الحق

بينما يرى الكاتب محمد بدري أنه من مناهج أهل السنة أن الحق معصوم وثابت، وأمّا الرجال فأعراض زائلون، يقاسون بالحق ولا يقاس الحق بهم، وجماهير أهل السنة تردد قول الإمام مالك: "كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر".

لكن واقعنا في العالم الإسلامي أصبح عكس ذلك، فالروح التي تسيطر على عملنا الإسلامي هي روح القائد الملهم الوحيد الذي يصنع المعجزات، ولا نتصور بقاء العمل مع غيابه، فلا نتصور إمكانية تنحيته عن العمل، ونحن نربط بينه وبين العمل ربطًا مصيريًا مهما كانت أعماله وتصرفاته.
إن واقعنا يؤكد أننا نسلك عمليًا ما نرفضه نظريًا من شعارات المبتدعة: "المريد أمام شيخه كالميت بين يدي مغسله"، و"من قال لشيخه: لِمَ؛ فلن يفلح أبدًا".

وهذا كله قاد بعضنا إلى أنه ربما ينحدر إلى درك سحيق فيكون شعاره في العمل: "وافق أو نافق أو فارق".
ومن سنن الله في خلقه أنه حين تغرب الفكرة يبزغ الشخص، ونحن قد ضيقنا مساحة الفكرة في عملنا الإسلامي حتى ساوت الصفر، فصار الرجل عندنا مكان الحق، وأصبح الإنسان بديلاً للبرهان.
ولا شك أن هذا خطأ، فالرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور، بل ومأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين، بل نجله ونحترمه وندعو له وننتفع بعلمه، ولا يتعدى به حد الرجل؛ فنعتقد فيه العصمة الخطأ، فإذا أخطأ لم نُقِلَّ من قيمته وقدره.
هذه هي ميزة أهل السنة والجماعة دون غيرهم، لأن الرجال عندهم أدلاء على الحق، فما وافق من كلامهم الحق أخذوا به وما خالفه فلا.
وهذا هو صمام الأمان في العمل الإسلامي، وهو أن يرى القادة السبيل القاصد لتحقيق الأهداف، وتمتلك القاعدة الفرقان بين الحق والباطل، فلا تضع القائد مكان الحق أو الرجل مكان البرهان، بل تختار قائدها وفق برنامج عمله، وليس لكونه ملهمًا أو تاريخيًا، وكما تنصر الحق في مواجهة الباطل، فإنها تنصر الحق في مواجهة طغيان الرجال بالطاعة المبصرة التي تقول: "نعم" للصواب.. و"لا" للخطأ.