الرؤيا المحمدية

الحمد لله له الحمد والفضل والصلاة والسلام على إمام الفضل والإحسان نبينا وحبيبنا محمد سيد ولد عدنان فقد ثبت في الحديث الصحيح عن سمرة بن جندب _رضي الله عنه_ قال: كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ مما يكثر أن يقول لأصحابه: "هل رأى أحد منكم من رؤيا"، قال: فيقص عليه من شاء الله أن يقص.

وإنه قال لنا ذات غداة: "إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتدهده الحجر هاهنا، فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل به المرة الأولى، قال: قلت لهما: سبحان الله ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق، انطلق، فانطلقنا.

فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، قال: وربما قال أبو رجاء: فيشق، قال: ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجنب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل المرة الأولى، قال: قلت: سبحان الله ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق، انطلق، فانطلقنا.

فأتينا على مثل التنور، قال: وأحسب أنه كان يقول: فإذا فيه لغط وأصوات، قال: فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا، قال: قلت لهما: ما هؤلاء؟ قال: قالا لي انطلق انطلق، قال: فانطلقنا.

فأتينا على نهر حسبت انه كان يقول: أحمر مثل الدم وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيغفر له فاه، فيلقمه حجرا، فينطلق يسبح، ثم يرجع إليه، كلما رجع إليه فغر له فاه، فألقمه حجرا، قال: قلت لهما: ماهذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا.

فأتينا على رجل كريه المرآة، كأكره ما أنت راء رجلا مرآة، وإذا عنده نار يحشها، ويسعى حولها، قال: قلت: لهما ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا.

فأتينا على روضة معتمة، فيها من كل لون الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولا في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط، قال: قلت لهما: ما هذا؟ ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق فانطلقنا.

فانتهينا إلى روضة عظيمة لم أر روضة قط أعظم منها ولا أحسن، قال: قالا لي: ارق، فارتقيت فيها، قال: فارتقينا فيها، فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة، فأتينا باب المدينة، فاستفتحنا ففتح لنا، فدخلناها، فتلقانا فيها رجل شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء، قال: قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، قال: وإذ أنهر معترض يجري كأن ماءه المحض من البياض، فذهبوا فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قال: قالا لي: هذه جنة عدن، وهذاك منزلك، قال: فسما بصر صعدا، فإذا قصر مثل الربابة البيضاء، قال: قالا لي: هذاك منزلك، قال: قلت لهما: بارك الله فيكما، ذراني فأدخله، قالا، أما الآن فلا، وأنت داخله، قال: قلت لهما: فإني قد رأيت منذ الليلة عجبا، فما هذا الذي رأيت؟

قال: قالا لي: أما إنا سنخبرك، أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة، وأما الذي الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق.

وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور، فهم الزناة والزواني، وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجر فإنه آكل الربا.
وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشها ويسعى حولها فإنه مالك خازن جهنم، وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
وأما الولدان اللذان حوله، فكل مولود مات على الفطرة، قال: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: وأولاد المشركين، وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسنا وشطر قبيحا، فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، تجاوز الله عنهم). (أخرجه البخاري، كتاب التعبير، باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح، 12/438، برقم 7047، وقد روى مسلم طرفه الأول فقط، ولم يذكر قصة رؤيا النبي _صلى الله عليه وسلم_ انظر: كتاب الرؤيا، باب رؤيا النبي _صلى الله عليه وسلم_ 4/9 برقم2257).

هذا الحديث قصة عظيمة لرؤيا رآها الرسول _صلى الله عليه وسلم_، والرؤيا الصالحة هي أول ما بدئ به الرسول _صلى الله عليه وسلم_ من الوحي، كما أخبرت بذلك عائشة _رضي الله عنها_ قالت: " أول ما بدئ به رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ من الوحي: الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح " أي: مشبهة ضياء الصبح.(رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/22 برقم 3، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/139 برقم 160).

ويتلخص الكلام في الرؤيا ما يلي:
أولا: الرؤيا هي: ما يراه الشخص في منامه، وتختلف عن الرؤية التي هي: إدراك المرء بحاسة البصر، وتطلق الرؤيا على ما يدرك بالتخيل.

والرؤيا ثلاثة أنواع:
أ ـ الرؤيا الصادقة، مثل رؤية الأنبياء.
ب ـ رؤيا فيها تهويل وتلاعب من الشيطان بالمرء، كأن يرى انه يسقط في واد سحيق، ونحو ذلك، ويطلق عليها غالبا: الحلم.
ج ـ رؤيا ما يحدث به الأمر نفسه أو يتمناه. (فتح الباري، كتاب التعبير، باب التعبير في المنام 12/ 404، ومسلم، في أول كتاب الرؤيا، رقم 2263).

ثانيا: موقف الرائي مما يرى في منامه:
1- إما أن يرى ما يسره ويفرحه، فليحمد الله تعالى، وليحدث بها من يحب.
2- وإما أن يرى ما يكره، وحينئذ يكون موقفه ما يلي:
أ- ينفث عن شماله ثلاث مرات.
ب- يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
جـ- لا يذكرها لأحد، فإنها لا تضره؛ لأنها من تلاعب الشيطان.
د- أن يتحول عن جنبه الذي كان عليه.
هـ- أن يقوم يصلي. (زاد المعاد 2/ 458 وفتح الباري برقم 6985).

وعن أبي سعيد الخدري _رضي الله عنه_ قال قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: (إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان، فليستعذ من شرها، ولا يذكرها لأحد، فإنها لاتضره).(رواه البخاري، كتاب التعبير، باب الرؤيا من الله 12/ 369 برقم 6985).

وعن أبي قتادة _رضي الله عنه_ قال: قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: (الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فمن رأى شيئا يكرهه فلينفث عن شماله ثلاثا، وليتعوذ من الشيطان، فإنها لاتضره، وإن الشيطان يتراءى بي ").(رواه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده 6 / 338، برقم 3292، ومسلم، كتاب أول الرؤيا، 4/1771 برقم 2261).

ثالثا: لا يجوز لمن لم يفهم تعبير الرؤيا أن يعبرها ، فقد يعبرها خطأ ثم تقع، وقد قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: "(الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت). أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب ما جاء في الرؤيا 2/723 برقم 5020، وأخرجه الترمذي، كتاب الرؤيا، باب ما جاء في تعبير الرؤيا 4/1771 برقم 2261).

رابعا: لا يجوز الكذب في الرؤيا فيحدث الناس بما لم ير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل) وتكليفه بذلك نوع من التعذيب.(رواه البخاري في صحيحه، كتاب التعبير، باب من كذب في حلمه 12 / 42 برقم 7042).

خامسا: قال بعض أهل العلم تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح أولى من غيره من الأوقات ، لحفظ صاحبها لها لقرب عهده به، وقبل أن يعرض له نسيانها، ولحضور ذهن المعبر، وقلة شغله بالفكرة فيما يتعلق بمعاشه، وليعرف الرائي ما يعرض له بسبب رؤياه فيستبشر بالخير، ويحذر من الشر، ويتأهب لذلك فربما كان في الرؤيا تحذير عن معصية فيكف عنها، وربما كانت إنذارا لأمر فيكون له مترقبا، ولذلك كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يسأل أصحابه بعد صلاة الصبح عما رأوا. (فتح الباري 12/ 439، 440).

2- القرآن الكريم ربيع المؤمن، وروضته الناضرة، وهو كلام الله تعالى المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، لقارئه فضل عظيم، ولحافظه أجر جزيل في الدنيا والآخرة، ثماره عاجلة وآجلة، ويكفي أن لقارئه بكل حرف منه عشر حسنات، وأنه يشفع لصاحبه يوم القيامة، ولا يجتمع في قلب مؤمن مع لهو وعبث، وطارد لشياطين الإنس والجن.

فالذي يضيعه أو لا يبالي فيه، أو يهجره ولا يعمل به، يعاقب بتلك العقوبة التي ذكرت في الحديث. وكذا ذلك الشخص الذي ينام عن الصلاة المكتوبة متعمدا، فيؤثر نومه وراحته ومتعة جسده، ويتصف بصفات المنافقين، يستحق تلك العقوبة أيضا.

3- من خصال المؤمن الصدق، والصدق يكون في القول والعمل، والصدق يكون أيضا مع الله ومع الناس، ونتيجته أن يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند الله صديقا، وخلاف ذلك الكذب، وصاحبه يستحق العقوبة العاجلة والآجلة.

4- مما يدل عليه الحديث التنفير الشديد من تلك الجريمة البشعة: جريمة الزنا، التي حرمها الشرع المطهر تحريما قطعيا، ورتب عليه العقوبة في الدنيا، وهي الحد، والعقوبة في الآخرة، وهي العذاب الأليم، لما يؤدي إليه من آثار خطيرة على الفرد نفسه، والمجتمع بأسره، من اختلاط الأنساب، وانهيار الأخلاق، وهتك الأعراض، وغيرها.

5- المال في الإسلام له حرمة عظيمة، يسير فيه المسلم على منهج ثابت معلوم، حدده الإسلام، وبين ظوابطه، في موارده ومصارفه، فالحلال بين، والحرام بين، وجعل أصل التعامل حلالا إلا إذا دل الدليل على حرمته، ومن أبشع ما حرم: ما أعلن الله تعالى الحرب عليه في كتابه وهو: التعامل بالربا، فالمتعامل فيه محارب لله تعالى ورسوله _صلى الله عليه وسلم_، آكل للمال بالباطل، فالربا نفع من غير عمل، وكسب بدون جهد، وضياع للمعروف بين الناس، فصاحبه يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة.

6- من أركان الإيمان: الإيمان بالملائكة على وجه الإجمال، وعلى وجه التفصيل لمن ذكر منهم في القرآن أو السنة مفصلا، فقد خلقهم الله من نور، ووكل إليهم كثيرا من شؤون عباده، وهم يسبحون الله لا يفترون.

7- الجزاء من جنس العمل، ومراعاة مناسبة العقوبة لجنايتها أوقع في النفس وأشد تأثيرا، وهذا المعنى ظاهر في الحديث: فالذي يرفض القرآن مثلا وينام عن الصلاة المكتوبة، كانت عقوبته بشدخ رأسه بالحجر، فإذا التأم شدخ مرة أخرى، وهكذا، لان النوم موضعه الرأس.

8- في الحديث دليل على أن العصاة يعذبون في الحياة البرزخية (وهي التي بعد الموت إلى قيام الساعة) بألوان من العذاب، فليحذر المؤمن من الوقوع في المعاصي، فإن الجزاء عظيم.

9- يدل الحديث على أن الذين اختلطت سيئاتهم بحسناتهم، ولم تغلب سيئاتهم فإنهم معرضون لعفو الله تعالى عنهم، وهذا لا يعني أن الإنسان يتساهل في بعض المعاصي اعتمادا علة عفو الله تعالى، فهذا كالمستهزئ بأوامر الله تعالى ونواهيه، ولكن إذا زل المؤمن زلة في غمرة حسناته يرجى له عفو الله تعالى.

10ـ دل الحديث على أن الإمام يستقبل أصحابه بعد الانتهاء من الصلاة، ولا يستقبل القبلة.

11ـ من رحمة الله تعالى أن الأطفال الذين يموتون قبل سن التكليف يكونون في كفالة أبينا إبراهيم _عليه الصلاة والسلام_.