الدعوة .. علم وفهم وفن وتوفيق

قرأت باهتمام مقال "الدعوة.. علم شرعي "، المنشور على صفحات موقع "المسلم"، والحق أن المقال على درجة من الأهمية، فالكاتب يؤكد على أهمية "العلم الشرعي" بالنسبة لـ "الدعوة إلى الله"، معتبراً أن "الدعوة لا تستقيم إلا بالعلم الشرعي"، ورغم اتفاقي التام مع الكاتب فيما ذهب إليه من بيان أهمية ومكانة العلم الشرعي، إلا أنني أود أن أؤكد على عدد من الأمور، وهي:-

أولاً: "الدعوة إلى الله" تقوم على أربعة أركان، هي:
• الركن الأول: الدعوة : والمقصود بها الإسلام كدين، لأنه هو موضوع الدعوة، وفيه لابد من معرفة: أركان الإسلام (الشهادتين/ الصلاة/ الصيام/ الزكاة/ الحج)، وخصائصه العامة (الشمول/ الإحاطة/ مناسبته لكل زمان ومكان/وغيرها....)، وأنظمته (السياسي/ الاقتصادي/ الاجتماعي/ العلمي/ .....)، ومقاصده (حفظ الدين والنفس والعقل والمال، والعرض).
• الركن الثاني: الداعي: وهو الشخص الذي يقوم بمهمة الدعوة إلى الله والنصح والتوجيه والإرشاد، وهذا الداعي لابد أن تتوفر فيه عدة صفات، أهمها: أن يكون مخلصا لربه , سليم العقيدة، صحيح العبادة،عالما بشئون دينه , مثقف الفكر، حسن الخلق، نافعاً لغيره، مجاهداً لنفسه..وغيرها من الصفات
• الركن الثالث: المدعو: وهو الشخص المستهدف بالدعوة، والمطلوب تعريفه بربه، وإبلاغه برسالة الإسلام، وتصحيح مفاهيمه الخاطئة عن الإسلام، وهذا المدعو على أنواع ثلاث: عنده استعداد/ عنده شبهات/ غير مسلم، ولكل منهم الفقه الملائم لحالته، والوسيلة التي تناسبه، مع مراعاة أمور مثل: سنه (أكبر/ نظير/ أصغر)، ومكانته الاجتماعية ( أعلى / مشابهة / أقل)، الوضع الوظيفي (رئيس/ زميل/ مرؤوس)، صلته العائلية (أب/ أخ/ ابن)، درجته العلمية (عالم/ مقارب/ جاهل)، نوعه الجنسي (رجل/ امرأة)، ومرحلته العمرية(كهل/ شاب/ شبل). ولكل واحد من هؤلاء الأسلوب الذي يناسبه، وهذا هو ما يسمونه فقه الدعوة.
• الركن الرابع: وسائل الدعوة: وهي مجموعة الأدوات والطرق والوسائل، والأساليب، والآليات، و.....إلخ، التي ينتهجها الداعية إلى الله لتوصيل رسالته الدعوية، إلى المدعو، وهذه الوسائل تتعدد وتتباين بحسب: حال المدعو، وحسب المكان الذي تمارس فيه الدعوة، وبحسب البلد الذي يعيش فيه الداعي والمدعو، وبحسب سن المدعو، ومكانته، ووضعه الاجتماعي والعلمي و...إلخ. وما يصلح لفلان ليس بالضرورة أن يكون مناسباً لآخر، ولنا في أعظم الدعاة الذين عرفتهم هذه الدنيا، محمد صلى الله عليه وسلم، القدوة والمثل، وفي المشهد الذي سجله القرآن لنبي الله نوح في سورة نوح القانون الجامع لوسائل الدعوة واختيار الوقت والمكان والوسيلة بل والكلمات المناسبة "قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا"..، وقال: "ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا".

ثانياً: لا يشترط في الداعية أن يكون عالماً بكل أمور الإسلام، أو فقيهاً مطلعاً على خلافات وآراء الفقهاء في كل المسائل , فليس كل داعية عالم أو فقيه، وإن كان هناك دعاة بلغوا مرتبة العلم، ودرجة الفقه، وليس بالضرورة أن يكون المفتي والفقيه داعية ناجحاً، وإن ملك أدوات الفتيا والنظر في الأدلة الشرعية، وإن كان الأصل أن يكون داعية متمكناً، وبالمثل فليس كل عالم متبحر في فرع من فروع العلم الشرعي لديه ملكة الدعوة، والقدرة على جذب المدعوين، وإن كان العلماء أقرب الناس وأولاهم بالعمل في مجال الدعوة.

وليس هذا تقليل من شأن الفقهاء أو العلماء، بل إن الأمر فتح من الله، وهبة، فقد يفتح الله عليك بالعلم، ولا يفتح لك باب القبول والإقبال من الناس، والتاريخ والخبرة المعاصرة يؤيدان هذا الكلام، فكم من عالم وفقيه لا يعرفه الناس ولا يقبلون على علمه، وكم من داعية – ربما كان أقل منه علما وفقها- لكن الناس يقبلون على الاستماع إليه، وينتظرون خروجه عليهم.

ومجال الدعوة إلى الله رحب واسع، يحتاج إلى كل الطاقات، والقدرات والخبرات والكفاءات، فهذا فقيه بارع، وهذا عالم فحل، وهذا داعية مفوه, وهذا باحث متمكن، وهذا خطيب نحرير ، وهذا واعظ أريب، هذا خبير بضروب الدعوة، ..... إلخ، ولكل منهم موقعه، ومكانته، ودوره، وكلهم على ثغر من ثغور الإسلام.

ثالثا: الداعية يلزمه ليمضي في هذا الطريق، أن يتسلح بثلاثة أمور، وهي:-
أولها : علم قبل الدعوة إلى الله: فيتسلح بالعلم اللازم لممارسة هذه الوظيفة، وأداء هذه المهمة، وأقلها هذا البرنامج التثقيفي المقترح للداعية:-
1- أن يكون حافظاً لقدر من القرآن الكريم ويبذل طاقته في حفظه كله شريطة أن يكون حفظه جيداً، وقراءته صحيحه.
2- أن يكون حافظاً لقدر مناسب من الأحاديث النبوية الصحيحة ويعود نفسه القراءة في كتب السنة .
3- أن يكون دارسا لعقيدته الإسلامية وأصولها حتى لا يقع في المخالفات.
4- أن يكون دارساً لأبواب الفقه الأساسية التي لا غنى للمسلم عنها ويسعى لدراسة باقي أبواب الفقه الأخرى سعيا جادا
5- أن يستذكر في تفسير القرآن، فيتعرف على معاني الكلمات، وشيئاً عن الناسخ والمنسوخ في القرآن، وشيئاً عن أسباب نزول الآيات، ....إلخ.
6- أن يتعلم أصول لغته العربية حتى لا يلحن القول و بعض الكتب في الأدب الإسلامي والبلاغة والحكم والأمثال النافعة
7- أن يطالع السيرة النبوية، من بعض كتب السيرة التي زكاها العلماء
8- أن يطالع عدداً مما كتب متخصصا في مجال الدعوة الإسلامية، لبعض العلماء والدعاة من أصحاب الخبرة العلمية والعملية.
9- أن يثقف نفسه ثقافة إسلامية عامة، فيقرأ شيئاً عن السياسة الشرعية، والاقتصاد الإسلامي، والحلول الإسلامية للمشكلات الاقتصادية، والمنهج الإسلامي في الزواج، وموقف الإسلام من المذاهب والأفكار كالشيوعية والعلمانية والاشتراكية والرأسمالية ....إلخ.

وثانيها: حلم ورفق مع الدعوة إلى الله: فيجب على الداعية أن يتخلق بالحلم والرفق واللين أثناء ممارسة عملية الدعوة، بل ربما كان حسن خلقه ولين طبعه، وأدبه الجم، أرجى من كلامك، وصدق من قال: إن فعل رجل بألف رجل أرجى من كلام ألف رجل لرجل. ولنا في سيرة ألين الخلق وأرفقهم وأحلمهم وأجملهم حديثًا محمد صلى الله عليه وسلم القدوة والمثل.

وثالثها: صبر جميل بعد الدعوة إلى الله: فالزمن جزء من العلاج، ولكل ثمرة أوانها، وإن النصر (الفوز والنجاح والفلاح) مع الصبر، فلا يجب أن يتعجل الداعية قطف الثمار، بل عليه أن يكون صابرًا صبورًا، فالأمر جنّة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لأحد الصحابة: لأن يهدي الله بك رجلاً (واحدًا) خير لك مما طلعت عليه الشمس، أو خير لك من الدنيا وما فيها، أو خير لك من حمر النعم.

* الفهم والعلم

لاشك أن العلم ركن ركين في حياة المسلم، وبدونه لا يؤدي المسلم عباداته على الوجه الصحيح، ولا معاملاته على الوجه المشروع، و به يعرف المسلم ما يحل وما يحرم، وما يستحب وما يكره، غير أن العلم بلا فَهم كالجسد بلا روح.

قال تعالى في بيان فضل ومكانة الفهم: "وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ* فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا"، فلقد آتى الله عز وجل الحكم والعلم لكلا النبيين داود وسليمان عليهما السلام، لكنه سبحانه مَن بنعمة الفهم على سليمان عليه السلام.

وكم من حافظ للقرآن لا يفهم معانيه، ولا يفقه مبانيه، ولا ينتبه إلى مقاصده، ولا يستوعب مراميه، ولا تصله إشاراته، ولا تؤثر فيه تلميحاته، هذا ليس تقليلاً من شأن حافظ القرآن، حاش وكلا، وإنما نقصد بيان فضل وأهمية ومكانة الفهم من العلم الشرعي .

وإن الرجل الذي يأخذ من العلم بلا فهم قد يسيء تطبيق العلم وإنما سمى العلماء الفقه فقها لأنه يقوم على الفهم بجانب العلم وانظر إلى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس إذ يدعو له بالفهم والعلم معا بل في روايات أخرى يدعو له بالحكمة في تطبيق ما تعلم ففي الصحيحين قول النبي صلى الله عليه وسلم له: " اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل " وفي رواية " اللهم علمه الحكمة " ولنا في قصة صاحب الشجة إذ أفتاه بعضهم بغير فقه كامل فمات الرجل فلما علم بذلك أفقه الخلق وأفهمهم صلى الله عليه وسلم قال: قتلوه قتلهم الله .

* كذلك ينبغي لكل داعية أن يعلم أنه مفتقد للتوفيق من ربه سبحانه والسداد في القول والعمل " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم .." فميل قلوب الناس للداعية ليسمعوا حديثه ويتأثروا بأثره هو محض توفيق رباني ينعم الله به على من يشاء بعد أن يبذل الداعية جهده ويأخذ بأسبابه , لذلك فلابد أن يستمد الداعية العون الرباني وهو يأخذ بالجهد البشري دوما وأصل ذلك وجماعه نقاوة القلب وسلامة الصدر .

وختاماً فإن للدعوة إلى الله قواعد وأصول يجب مراعاتها، من أهمها: الحكمة وهي (وضع الشيء المناسب في المكان المناسب في التوقيت المناسب وبالقدر المناسب). فعلم بلا فن، جفاء، وممارسة بلا علم خواء، أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وان ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً، وان يفقهنا في ديننا.