القضاء على آثار أهل النفاق
26 ذو القعدة 1427

كان أسلوب مواجهة أي عدو من الأعداء -عدا المنافقين- يتم بالمواجهة المباشرة؛ كما في حديث بريدة: "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم"، أما المنافقون فلم يكونوا مجتمعاً متميزاً، بل هم داخل الصف المسلم، يجالسونهم ويؤاكلونهم، ويصلون معهم، بل ويحضرون الجهاد، فلذلك كان القضاء عليهم أصعب وأشد، فكان أسلوب المواجهة هو التركيز على صفاتهم، والتشهير بهم من خلال أفعالهم لا أشخاصهم.

وقد كانوا يتخفون أشد التخفّي حتى لا يعرفوا، فكان المنهج القرآني المطرد هو التركيز على الصفات التي يصير بها المرء منافقاً، حتى قضى على تلك الأعراض فلم يعد لها أثر أو ظهور في دولة المدينة إلاّ في الخفاء، وبخاصة بعد القضاء على حلفاء أهل النفاق من اليهود بالقتل والجلاء.

وقد يسأل سائل ويقول: لماذا لم يواجه المنافقون مباشرة، خاصة وأن الوحي ينزل والرسول -صلى الله عليه وسلم- يعرفهم بأسمائهم وأشخاصهم؟
فالجواب: إن هذا الدين دِينٌ عالمي إلى قيام الساعة، وأحكامه لها الديمومة والاستمرار، وتشريعاته ليست خاصة بجيل الصحابة، وإنما هي لهم ولمن بعدهم إلى قيام الساعة، فإذا كانت معرفة المنافقين بأشخاصهم لا يمكن القطع بها إلا من خلال الوحي، لأن النفاق عمل قلبي، ولا يعلم ما في القلوب إلا الذي خلقها، وقد نُهينا أن نفتش عن قلوب الناس "هلاّ شققت عن قلبه" وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إني لم أؤمر أن أنقّب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم" قالها ردّاً على خالد ابن الوليد عندما اتهم رجلاً بالنفاق وطلب من الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يأذن بقتله.

فإذا كان الأمر كذلك، وأمكن معرفة المنافقين وقت نزول الوحي فكيف يمكن أن يعرفوا بعد انقطاعه؟ وسيترتب على ذلك مفاسد لا تخفى، فجاء المنهج الرباني الذي يعالج مشكلة النفاق وقت نزول الوحي وبعده، وهو منهج له الديمومة والثبات والاستمرار، وذلك بالتركيز على صفات المنافقين، وفضحهم من خلال أعمالهم وتصرفاتهم ومخططاتهم، والإعراض عن تسميتهم، حيث لم يخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أحداً من الصحابة بأسماء المنافقين إلا حذيفة؛ حتى إن أبا بكر وعمر -رضي الله عنهم أجمعين- لا يعلمون أسماءهم، وإخبار حذيفة له حكم قد يظهر بعضها ويخفى البعض، ومن صرح باسمه من المنافقين كان له أسبابه المباشرة التي دعت إلى ذلك، حيث عملوا أعمالاً ظاهرة من أعمال المنافقين؛ كصاحب الجمل الأحمر، وأصحاب العقبة، والذين استهزؤوا بالله ورسوله في تبوك ونحوهم، أما من عداهم فلا، ولذلك ليس في القرآن اسم منافق واحد، ولذلك تكون معرفتهم من خلال صفاتهم الظاهرة، وهذا يزعجهم لأنه يناقض دعواهم الإسلام، فالتركيز عليها يكون سبباً للقضاء على تلك الأعمال والأفعال لا على الأشخاص، وهذا هو المهم، وتبقى لهم الحصانة من القتل لإعلانهم وإظهارهم للإسلام، ما لم يرتكبوا مكفراً أو موجباً للقتل.

إن هذا المنهج كان له أكبر الأثر في القضاء على حركة النفاق في العهد النبوي، وهو كفيل بإذن الله بالقضاء على أي حركة للمنافقين في أي عصر إذا طبق كما طبق في عهد النبوة.

ولعل الشرع يقصد في كثير من التشريعات إلى إظهار الإسلام على الكفر وكبت الكفر وأهله، ولايقصد إلى تخلية الأرض من كل كافر، بل إن وجود الكفر أمر لابد من إلى قيام الساعة، وتلك سنة الله وحكمته قضت بذلك، ولهذا أقر بقاء الكفار بعقد الذمة لهم، ولكن المقصود هو ظهور الإسلام وعزه على الدين كله وعندها فإن من يرد الله به خيراً يهديه إليه، وإظهار الإسلام سبب من أسباب العلم به كما هو دون تشويه أو تشويش، وعند ذلك يهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.

وهذا المعنى متحقق في فضح صفات المنافقين وأفعالهم، فإن القصد هو نفيها عن المجتمع المسلم فلا تكون ظاهرة تفسد نظامه بل مكبوتة يخفيها أهلها ويتسترون بها، فلا تستشري بين الناس.

_________________
(*) مستل من شرح الشيخ على مسلم بتصرف يسير [المكتب العلمي].