أنت هنا

كيف نحقق الإبداع في مناهجنا التعليمية والتربوية؟
13 ذو القعدة 1427

التقدم العلمي لا يمكن تحقيقه بدون تطوير القدرات الإبداعية عند الإنسان، ومجتمعاتنا العربية والإسلامية هي في أمس الحاجة إلى أفراد يتميزون بالقدرة على التفكير الإبداعي حتى يستطيعون مواجهة مشكلات الحياة في مختلف الميادين وتقديم الحلول الجديدة والمبتكرة لتلك المشكلات. وقد أكد العلماء أن النشاط الإبداعي الحقيقي للإنسان الناضج هو نتاج عملية طويلة، حيث إن إبداع الطفل يشكل الأساس الأول في هذه العملية.

دور الوالدين في تنمية الإبداع

بداية يؤكد د. سيد صبحي (أستاذ التربية بجامعة عين شمس) أن اتجاهات الوالدين الخاطئة تربويًا ونفسيًا كالتسلط والحماية الزائدة والإهمال وإثارة الألم النفسي والتذبذب والتفرقة في معاملة الأبناء تؤثر تأثيرًا سلبيًا على قدرات الأبناء الإبداعية. أما الحرية وتضاؤل العقاب أو تزايد التشجيع الذي يوفره الوالدان فإنه يساعد على تشكيل الأسلوب العام لحياة العالم. وقد أثبتت الدراسات أن آباء وأمهات العلماء المبتكرين يرسيان معايير أسرية قوامها حب المعرفة والحرية في متابعة العلوم والتشجيع.
وتؤكد الدراسات أيضاً على أن أساليب التربية المدرسية لها دور في تنمية قدرات التفكير الابتكاري للشباب. وقد ثبت أن الدروس العلمية تكون ذات نتائج عالية إذا تم تحضيرها بشكل جيد على أن يقوم المعلم بدور المنظم والمستشار فقط دون أن يعطي المعلومات الجاهزة، كما أن حجرة الدراسة المفتوحة تنمي الإبداع الفردي، بينما تركز حجرة الدراسة التقليدية على تدريس الحلول الجاهزة للمشكلات أكثر من تكوين الاتجاه نحو حل هذه المشكلات.

النقد البناء مدخل أساسي

أما الدكتور جابر عبد الحميد (أستاذ علم النفس التربوي) فيشير إلى العديد من النقاط لتنمية التفكير الإبداعي وهي: تنمية حساسية الأطفال للمثيرات البيئية، و توفير جو أخلاقي وهدوء واستقرار نفسي، و تعليم الطفل احترام تفكيره الابتكاري، وتشجيع الشباب من خلال تسجيل ابتكاراتهم ووضع تصورات عنها على الورق، والتعرف على المعلومات العلمية الابتكارية بطريق الاكتشاف الذاتي، وأن يضع الشاب أمامه مشكلة مثيرة ويطرح الأسئلة ويثير النقاش ويحاول أن يضع الحلول المنهجية، إلى جانب ضرورة توفير الهدوء والتهيؤ الذهني لدى التلاميذ، وتنمية قدرتهم على النقد البناء واكتساب المعارف من ميادين مختلفة ومتنوعة، إلى جانب تنمية روح المغامرة والتشجيع على عادة استخلاص المضامين الكاملة للأفكار.

احترام أسئلة التلميذ

ويرى الدكتور فؤاد أبو حطب أستاذ علم النفس أن احترام أسئلة التلميذ وخيالاته وإظهار قيمة أفكاره مهما كانت بسيطة يشجعه على تنمية قدراته الإبداعية إلى جانب الإكثار من القراءة في مجالات مختلفة وإيجاد تنافس شريف وبناء بين التلاميذ.
أما بالنسبة للمعلم فيجب عليه مراعاة الفروق الفردية بين التلاميذ وإيجاد مواقف تنمي تفكيرهم، وتشجيع التلاميذ على تقديم المقترحات والأفكار ومناقشتها حتى وإن كانت غير ذات أهمية كبيرة.

بينما يرى د. سيد خير الله أستاذ التربية أنه قد تكون لدينا ظروف معوقة للتفكير الابتكاري كالاعتقاد بأن الفرد عليه أن يساير المجتمع من حوله وكذلك يساير آراء الكبار، ولذا فقد يعاني الشخص المبتكر من الصراعات والمخاوف الناتجة عن الصراعات، والمخاوف الناتجة عن الضغوط المحيطة مما قد يعوق تفكيره عن التجديد والابتكار.
وهناك ضرورة في أن تهتم المنظمات الاجتماعية والتعليمية والجامعية بتنمية القدرات الابتكارية في شتى العلوم، فضعف الإمدادات المادية ليس السبب الأهم في إعاقة القدرة على الإبداع والتفكير لدى الشباب، بل إن التطلع إلى الماديات والكسب السريع وحب السلطة من أكبر أسباب حصار النمو الإبداعي الفعال.

دراسة ميدانية

ومن جانبه أعد د. مرزوق عبد المجيد أستاذ مناهج التربية دراسة ميدانية حول عوامل تنمية التفكير الإبداعي في مرحلة الطفولة وخلص إلى أن البيئة الأسرية لها أهمية كبيرة في تنمية التفكير الإبداعي للأطفال بما تحتويه من عوامل الرعاية الوالدية وأسلوب التربية الذي يشجع على الاستقلالية في التفكير واتباع أسلوب التفاهم في الحوار والمناقشة، وحرص الأبناء على النشاط والتخلص من الكسل والخوف، وبعد الوالدين عن التسلط والتدليل الزائد، هذا بالإضافة إلى أهمية دور المعلم واتساع أفقه وحرصه على إعطاء الفرصة للتفكير فيما يصادف الشباب من مشكلات ،وتشجيعهم على طرح الأسئلة وإيجاد أفكار حسنة، وحثهم على المناقشة والمنافسة الأخلاقية، إلى جانب تشجيع الشباب على القراء والاطلاع في مختلف فروع العلم والمعرفة، وعدم الاقتصار على موضوعات الدراسة الأكاديمية وزيارة المكتبات والأندية العلمية.
ويرى د. مرزوق أيضًا ضرورة عدم الاهتمام بالأفلام والمسلسلات الهابطة التي تصرف الشباب عن تحصيل العلم والتفكير الإبداعي الإنمائي، ويدعو إلى ضرورة حرص المجتمع والمدرسة والمعلم ووسائل الإعلام على غرس القيم وحب العلم من منطلق أننا خير أُمَّة أُخرجت للناس، ولابد لنا أن نتبوء مكانتنا اللائقة بنا كرواد مسلمين.

اتهام غربي ظالم

ومن جانبهم يوجه المستشرقون والغرب عمومًا ومعهم العلمانيون في بلادنا انتقادات حادة إلى المسلمين بأنهم يربون أبناءهم على اتباع النصوص وحفظها ولا يربونهم على الابتكار، فهم متبعون وليسوا مبدعين. ترى هل هذا الاتهام صحيح؟ وهل العقلية الإسلامية فعلاً عقلية غير مبدعة وغير مبتكرة؟

يقول د. عبد الغني عبود (أستاذ التربية المقارنة والمناهج بكلية التربية جامعة عين شمس): إنه لا إبداع دون اتباع؛ لأن الأمر في هذه الحالة يتحول إلى فوضى، والفوضى لا يمكن أن تكون إبداعًا على الإطلاق. إن الفهم الصحيح للإبداع يعني أن أفكر في الواقع الذي أعيشه وأن أستوعبه وأتفاعل معه وأنفعل به ثم أحاول تطويره، وهذا هو قمة الإبداع.
فالإبداع لا يأتي من فراغ وإنما يأتي من الواقع المعاش ومحاولة نقله من صورة إلى صورة مختلفة، وهذه الصورة المختلفة في الإسلام تكون في إطار عام هو إطار التوحيد والعبودية لله. وإذا نظرنا إلى القضية من هذه الزاوية فإننا نجد أن الإسلام هو السباق إلى هذا الإبداع العاقل المتزن الملتزم الذي يسعى لصالح الإنسان بدليلين: الدليل الأول الحديث النبوي الشريف (من سن سنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئًا، ومن سن سنَّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيئًا).
والحديث دعوة مباشرة إلى الإبداع على أن يكون هذا الإبداع منضبطًا وعقلانيًا وليس إبداعًا شيطانيًا. والدليل الثاني أن الإسلام فيما يتصل بمسائل الدنيا جعل كل شيء حلالاً إلا ما نزل نص بتحريمه، ومعنى ذلك أن المسلم مطالب بأن يجتهد في أمور دنياه ما شاء طالما لن يتعرض لنص قاطع. وتدل التجربة الإسلامية في العصرين الأموي والعباسي وحتى في عصر الخلافة الراشدة على أن المسلمين عندما فهموا هذا الأمر جيدًا استطاعوا أن يبدعوا حضارة قامت على معطيات فكرالفرس والروم واليونانيين والهنود، وكل العلم الذي وقعوا عليه دون أن يجدوا في ذلك حرجًا على الإطلاق ، ومن كل تلك الروافد كانت حضارة الإسلام التي نتباهى بها إلى اليوم.
أما الذين يقولون بأن الحفظ ضد الإبداع فنحن نقول إنه لا إبداع دون مخزون يقوم عليه هذا الإبداع، فلا إبداع من فراغ، وإنما يكون الإبداع بناء على معطيات محفوظة يتم تقليدها والنظر إليها بنظرة نقدية واعية حصيفة. فالإبداع لا يأتي من فراغ إلا في حالة الأطفال الذين في سن المهد أو إبداع المجانين . فالذاكرة أساس على ألا تكون هذه الذاكرة ذاكرة ببغاء تقوم على ترديد دون وعي ودون فهم ودون نقد. وكيف يتهم المسلمون بأنهم يحفظون ولا يبدعون رغم أن علم الحديث عندهم قام في البداية على حفظ مئات الألوف من الأحاديث ثم طبقوا بعد ذلك منهج الشك والتثبت في النقد والجرح حتى صار هذا العلم علومًا متعددة تشكل آلية متكاملة لأسس البحث العلمي وتمييز الحق من الباطل.
وإذا كان الغربيون يتهموننا بأننا تقليديون وحفاظ، فإننا نقول إن الأمريكيين أكثر الناس تقليدية، فلا زال وليم جيمس الذي مات منذ قرنين مقدسًا عندهم ويرددون كلامه، وكذلك جون ديوي .
إن كل مفكري البرجماتية الأمريكية لا يزالون يعيشون في فكر كل أمريكي يعيش اليوم. فالأمريكيون أكثر تقليدية ولكنهم يقلدون النمط البرجماتي النفعي الذرائعي الذي هو دين الأمريكيين. هذه النفعية الذرائعية تنظر إلى الأمور بمقياس قيمتها ومردودها المادي، أما نحن فتقليديون على مذهب نبذ الدنيا وليس هجرها، وإنما نجعل لها مثلاً أعلى رفيعًا نعيش له أو نموت على طريقه.

الإسلام دعوة للتأمل وإعمال العقل

أما د. حسن شحاتة أستاذ التربية ورئيس مركز تطوير التعليم بجامعة عين شمس فيقول: إن الإسلام دين يدعو إلى التفكير وإعمال العقل ويدعو إلى الإبداع من خلال مثلث أضلاعه التسامح والحرية والبهجة.
والتعليم في الإسلام يتم في إطار هذا المثلث، وهذا التعليم يدفع المتعلم إلى الإبداع والاختراع والابتكار. والنصوص الإسلامية كلها دعوة إلى التأمل والنظر واستخدام العقل وذم التقليد والمقلدين، ودعوة إلى التعلم والتفقه، وهي دعوة إلى التأويل والتفسير. والتأويل في الإسلام متعدد الرؤى والنظر نتيجة لاختلاف التفكير والفهم في الإطار الإسلامي.
إن تفسير النصوص في هذا الإطار، وفي إطار أن الإنسان مسئول عن عمارة الكون وعبادة الله، وأنه يجمع بين خيري الدنيا والآخرة، هو الذي حكم المسلمين رغم اختلاف الزمان والمكان.
فكيف يكون الإنسان المفكر الذي يعمل لدنياه وأخراه إنسانًا آليًا مبرمجًا؟ إن لدينا تفسيرات مختلفة للقرآن عبر العصور وليست كلها نسخًا متطابقة، وإنما هي فهم متعدد للنصوص، وإضافات تتفق مع سعادة ومستقبل الإنسانية. فهل العقليات التي فعلت ذلك عقليات آلية ومبرمجة أم عقليات حية مبدعة؟.
إن معرفة الناسخ والمنسوخ من القرآن، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، والمحكم والمتشابه، وفهم الأحاديث النبوية التي هي بمثابة المذكرة التفسيرية للقرآن الكريم، وربط هذه الأحاديث بالقرآن، كل ذلك يشكل فهمًا وإبداعًا، ولا يستطيع العقل الجامد أن يقوم بهذه المهمة. إن الإنسان مسئول عن تصرفاته وأفعاله أمام الله، فكيف يكون هذا الإنسان المسئول المكلف إنسانًا لا يفكر؟.
إن الإسلام يدعونا إلى الاجتهاد وإعمال العقل ففي الحديث النبوي (من اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر). والمسلمون الذين تفوقوا في العلوم والآداب دليل على العقلية المسلمة وبراعتها في التفكير والتدبر. أليست العمارة الإسلامية والهندسة الإسلامية وفن المعاملات التجارية دليل على تفكير عميق وإعمال كامل للعقل؟
ويضيف د. حسن شحاته: إن الإسلام يدعو إلى تغيير الذهنية ويخاطب القوى المفكرة لا القوى الحافظة. كما أن حفظ المسلمين لكتاب الله وللأحاديث النبوية لا يتناقص أبدًا مع قدرتهم على التفكير وإعمال العقل والربط بين النصوص والاستنباط.
أليست المذاهب الإسلامية الفقهية بما تحتويه من مناهج استنباط ومسائل رياضية كلها تفكير وفهم عميق وتدبر؟

أهمية الخصائص الشخصية والوسط الاجتماعي

بينما يرى المفكر الإسلامي د. محمد يحيي إن الكثيرين من أئمة الإسلام المجددين كانوا دائمًا يحاربون التقليد الأعمى الذي هو تقليد المذاهب وتقليد المجتهدين بدون إعمال للنظر والعقل، وبدون استقلالية في النظر، وحتى العلماء المعاصرون المجددون كثيرًا ما يوجهون الأنظار إلى عدم التقليد الأعمى. وهكذا فإن الإسلام كله مقاومة للتقليد الأعمى بدون إعمال النظر والتدبر.
والعلماء المسلمون كثيرًا ما انتقدوا الصوفية الذين يتبعون شيخًا معينًا ويقلدونه دون التبصر بحاله، والتقليد مذموم طالما جاء من إنسان قادر على التفكير وإعمال العقل، أما عوام الناس الذين ليست لديهم القدرة على التفكير والنظر فلا لوم عليهم طالما كانوا يتتبعون مذهبًا محترمًا أو عالمًا ثقة. وإذا كان الغرب ينتقد المسلمين ويصفهم بأنهم عقول متبعة للنصوص وليست عقولاً مبتكرة فإن هذه المذمة موجودة لديهم في الغرب وليست بنت العقلية المسلمة، فالمذاهب الكبرى في الغرب سواء كانت دينية أم دنيوية كلها قائمة على التقليد وعدم الابتكار. والكنائس الأوروبية تخاطب أتباعها على أساس أن عليهم السمع والطاعة والتنفيذ والخضوع.
كما أن العلمانية والمذاهب العقلية الغربية حينما أسست أحزابًا مثل الأحزاب الشيوعية فإنها أسستها على الطاعة العمياء للقائد الذي هو ملهم وعبقري. وحتى البروتستانتية التي قامت على عدم التقليد فإنها ما لبثت أن عادت وبنت كنائسها على التقليد.
ويضيف د.محمد يحيي أن اتهام العقلية المسلمة بصفة خاصة بالتقليدية لأنها قائمة على اتباع النصوص اتهام غير صحيح، فالأمر يعود إلى طبيعته الشخصية، فقد يكون لدى الشخص قدرات عقلية جيدة ويسعى لتكوين رأي مستقل، وهذا الإنسان لن يكون مقلدًا سواء كان مسلمًا أو غير مسلم، أما إذا كان الشخص متواضع القدرات الفكرية فسوف يكون مقلدًا حتى ولو كان علمانيًا أو شيوعيًا أو ملحدًا.
كما أن قضية التقليد والإبداع ترتبط ارتباطًا وثيقًا بقضية التربية والوسط الاجتماعي الذي ينشأ فيه الطفل، فإذا نشأ الطفل في وسط اجتماعي يشجع العلم والتعليم والقراءة والمناقشة والنقد فسوف يتعود الطفل على الاستقلالية والنقد والتفكير وربما الابتكار والعكس صحيح.
وإذا كان المقصود بالابتكار هو الابتكار العلمي فإن حضارة المسلمين مليئة بالابتكار في مختلف المجالات من هندسة وجبر وفلك وفيزياء وكيمياء وطب، كما أن الحضارة الإسلامية مليئة بالفنون التشكيلية المتنوعة.

نحن والنمور الآسيوية.. مقارنة منطقية

أما د. نافع الشبيلي (الباحث بالجامعة اليابانية)، فيقول: إننا في مسيرة النهضة والتحديث قد انطلقنا مع بعض دول شرق آسيا من نفس النقطة منذ نصف قرن تقريبا فأين موقع الخلل وكيف يمكن تفسير الفجوة العميقة التي تفصلنا عنهم اليوم؟
لا يمكن تبرير كل هذا الفشل بواقع انشغال العالم العربي عن قضايا التنمية الاقتصادية و الديمقراطية بمسائل تعزيز الوحدة الوطنية و تحرير الأرض والاستعداد لأمهات المعارك، لأن الاحتجاج بمثل هذه الذرائع يثبت بطلانه بمجرد الاطلاع علي تجارب الأمم التي عاشت ظروفا مماثلة، فبذور التوتر بين ما يعرف بنمور شرق آسيا الصاعدة أكثر تشابكا من قضية الصراع العربي الإسرائيلي.

لقد ساورت الشكوك بعض مفكري اليابان بعد الهزيمة القاسية و ظنوا أن حضارتهم و قيمهم قد اندحرت ولكن العقل الياباني سرعان ما فجر بركاناً من ثورة المعرفة التي اكتسبت صفة المعجزة من قفزها علي قوانين التاريخ و شروط التجربة الإنسانية، ومن تحالف رأس المال والذكاء برعاية الإدارة النزيهة المرنة ولدت النهضة الصناعية التي ما لبثت أن تسربت عبر البحر الأصفر إلى محيطها الحيوي الطبيعي المتمثل في بقية بلدان شرق آسيا. ولم يكن هذا الانبعاث ممكنا لولا الثورة التعليمية الشاملة والمستديمة التي هي السند الأساسي لكل نهضة في زمن لا يعلو فيه صوت فوق صوت المعرفة. لقد كنت في ضيافة الجامعة الكورية وقرأت حواراً مع الرئيس الكوري، الذي تطرق إلى ضرورة عمل الدولة علي تشجيع استقطاب الذكاء واستقدام المزيد من نوابغ الطلاب والأكاديميين من الأمم المجاورة، وخاصة من الصين وكوريا الشمالية والهند وروسيا، لأن ضخ المزيد من الذكاء هو السبيل الوحيد لدعم الحركة العلمية في كوريا مما يعزز القدرات التكنولوجية و الصناعية للبلاد.
عبر مثل هذه الخيارات الحكيمة الممزوجة بجرعات متزايدة من الديمقراطية تسير كوريا نحو المستقبل بكل ثقة حتى صارت كل مقارنة لها بالعالم العربي تمثل حطاً من قدرها. وبلغة الأرقام فإن عدد براءات الاختراع المسجلة خلال العشرين عاماً الأخيرة من القرن الماضي في أكبر تسعة بلدان عربية نجد أنها بلغت 370، في حين سجلت كوريا الجنوبية وحدها خلال الفترة ذاتها 16328 براءة اختراع. ومع كل براءة اختراع فرص عمل جديدة و تصنيع و استثمار وتصدير ومستويات جديدة من التقدم و الرفاه.