لهيب أسواق المال يحرق القلوب

قام بربط حبل في أصل مروحة غرفته، ثم قام بلف الحبل على رقبته، كما تلتف الحية الرقطاء على فريستها، وهو يقف على كرسيه، الذي طالما جلس عليه وهو متسمر أمام شاشة حاسوبه، يتابع بشغف مؤشر السوق، الذي أوصله إلى هذه الحالة الكارثية، فما هي إلا لحظات بعد أن أزاح الكرسي برجليه، إذ بجسمه يتدلى في الغرفة وإذ برقبته تنعقف إلى الأمام، وإذ بلسانه يخرج من فمه طريحا على شفته، معلنا خروج روحه من جسده، وإذ بعينيه تجحظ وتحكي عن صولات وجولات في عالم الأسهم، اغلبها مأساوي

وثان أصيب بجلطة دماغية - حمانا الله وإياكم - عندما راء الشاشة تتشحط في دمائها، بل في دماء أمواله التي وصل نهاره بليله في سبيل تحصيلها.

وثالث ضربته نوبة قلبية مفاجئة، فأحالته جثة هامدة لا حراك فيها، عندما راء أمواله التي اقترضها من البنك، ورهن في سبيلها مستقبله ومستقبل أسرته، أصابها إعصار فيه اختلاس فاحترقت.

ورابع سالت روحه على جنبه حسرات وأهات، عندما أخطره البنك انه سيل محفظته، وان رصيده الذي كان يعد بعشرات الملايين، أصبح بضعة من الألوف، فنزل من قمة موجة كان يعد فيها من الأثرياء، إلى قاع موجة أصبح فيها من أهل الزكاة.

وخامس رهن مشاعره ومشاعر أبنائه ومن حوله بلونين تعرفونهما جيدا فإن كسيا سهمه بحلة خضراء بلون الربيع، رايته فرحانا جذلا، آمنا مطمئنا، كأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، وان كانت الأخرى التي تعرفون، رأيت في وجهه غمة البؤس، وفي عينيه حمرة الموت بحمرة سهمه، فكأنما قد فقد كل أحبابه بل وكل أصدقائه وجيرانه وفصيلته وعشيرته.

وسادس وسابع وثامن إلى آخر تلك السلسلة الطويلة من المصائب والمآسي، التي لا تخفى عليكم، حتى أنك لا تكاد تجد بيتا، أو أسرة، إلا وقد أصابها شيء من حرها وقرها، وتلوثت بشيء من دنسها وحرامها، وتمثل فينا قول الله _تبارك وتعالى_ :" يا أيها الذين آمنوا
إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم" [التغابن14-15]. وقول نبيه _صلى الله عليه وسلم_: "إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال". وقوله: "يهرم ابن آدم ويشب منه اثنتان: الحرص على العمر، والحرص على المال".

وحتى أكون صريحا مع نفسي ومعكم، لا أجد سببا لهذه المصائب التي حلت بمجتمعنا، وذلك فيما أستطيع أن أتحدث عنه، إلا الجري واللهث في طلب الدنيا،والتسابق المحموم في تحصيل المال بأيسر الطرق وأسهلها، والتنافس المذموم في القفز إلى عالم المال والثراء بأسرع الوسائل الشرعية، والغير شرعية،المنطقية والغير منطقية، حتى أصبحنا كالفراش والجنادب التي راءت نارا مستوقد في ظلمت الليل المدلهم، فظنت أنها تباشير الإصباح، فألقت نفسها في أجيجها، فاصطلت بلهيبها، وما هو بلهيبها، ولكنه لهيب الطمع، واحترقت بأوارها وما هو بأوارها، ولكنه أوار الجشع.

فعلت ذلك دونما تبصر أو تفكر، ودونما إصغاء لتحذير العقلاء على قلتهم، والذين كثيرا ما حذروا من نتائج هذا الاندفاع الأهوج، ومن أثار هذا الإقدام الغير محسوب.

وهذا هو حال أسواق المال، فإن المتاجرة فيها مخاطرة ما بعدها مخاطرة، والاستثمار بها مع الجهل، كغالب بني قومي شبيه بالانتحار، بل إنه من أسباب إهلاك الحرث والنسل، وحلول والدمار، وعامل من عوامل البوار السريع في لمح البصر، و الإفقار المدقع بين غمضة عين وانتباهتها.

قد يقول أحدكم انك تبالغ كثيرا،وأن هناك من حقق ثروات كبيرة، أقول له كم نسبة هؤلاء الذين حققوا الثروات الهائلة، إلى الذين سرقت أموالهم من أمام أعينهم وهم يؤملون، الإحصاءات العالمية تقول أن 10 بالمئة في أسواق المال يربحون، و90 بالمئة يخسرون، ثم كيف ربح اغلب هؤلاء الرابحون، إلا بالغش والتدليس غالبا، ومعرفة الأخبار وبث الإشاعات كثيرا، وعقد الصفقات خلف الكواليس دائما، ضد المساكين الذين يسمون بالقطيع، وليس للقطيع إلى التسمين ثم الأكل، وهذا كله يحصل في جميع أسواق العالم، على تفاوت بينهم في النصب والاحتيال.

ثم إنني أقول أيضا ألا توجد الكثير والكثير من الشركات، أسعار أسهمها لا تعكس قيمتها الحقيقية، ألا توجد شركات بلغ سعر السهم الواحد فيها200 ريال، وهي تقوم مشكورة مأجورة بتوزيع نصف ريال على السهم الواحد، كأرباح سنوية، أي انك تسترد رأس مالك المستثمر فيها خلال 400 سنة فقط، فقولوا لي بلله عليكم أي تجارة هذه؟، وأي تلاعب هذا؟، وأي إهدار للأموال والأوقات يحدث؟، وأي اختلاس وسرقة للأموال تتكرر؟، بل أين عقول من يشترون مثل هذه الأسهم؟، أقول لكم أن عقولهم مأسورة بالحلم الزائف بالكنز الموعود، والجنة الوارفة، والراحة الدائمة، الذي يعد به منافقي المنتديات المنتشرة انتشار السوس، وأبواق القنوات المستأجرة،ويصدقه المساكين الذين يفرون من الفقر، ألا في الفقر سقطوا،بل إنه التنافس المسعور في الدنيا، الذي حذرنا من نبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم.

أخرج البخاري بسنده عن عمرو بن عوف المزني _رضي الله عنه_ أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان الرسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع النبي _صلى الله عليه وسلم_ فلما انصرف تعرضوا له، فتبسم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ حين رآهم، ثم قال: (أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء). قالوا: أجل يا رسول الله،وكانوا فقراء لا يجدون قوت يومهم، قال: (فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم) وفي رواية عند مسلم (وتلهيكم كما ألهتهم).

نعم أيها الإخوة الكرام: نبينا لم يخش علينا الفقر الذي نفر منه فرارا من الأسد ونحن والله في نعمة عظيمة، تحتاج إلى شكر، ولكنه خشيا علينا من هذا التنافس الأزعر على الدنيا، الذي بتنا نحسه ونلمسه بل ونراه رأي العين في مجتمعنا، ووالله أن الحرص الشديد على الرزق، لن يقدمه، ولن يؤخره، ولن يزيد فيه، ولن ينقص منه.


وليس الرزق عن طلب حثيث ولكن ألقِ دلوك في الدلاء

ورزقك ورزقي مكتوب جرى به القلم، قبل أن يجعل الله هذه الأرض فراشا، وهذه السماء بناء، فعلى رسلي ورسلك، فلنجمل في الطلب، ولنقنع بما كتبه الله لنا، فإن القناعة والرضا بما كتبه الله علينا، من خير ما أوتيه الإنسان.



أفادتني القناعة كل عز وتنعم في الجنان بصبر ساعة وهل عز أعز من القناعة
وتنعم في الجنان بصبر ساعة فصيّرها لنفسك رأس مال وتنعم في الجنان بصبر ساعة وصيّر بعدها التقوى بضاعة
وتنعم في الجنان بصبر ساعة تحز ربحا وتغنى عن بخيل وتنعم في الجنان بصبر ساعة وتنعم في الجنان بصبر ساعة

ويقول ابن القيم -رحمه الله- الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين، وقرة عيون المشتاقين... ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر، ملأ الله صدره غنى وأمناً، وفرَّغ قلبه لمحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه، ومن فاته حظه من الرضا، امتلأ قلبه بضدِ ذلك، واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه.


إذا اشتدت البلوى تخفّفْ بالرضا عن الله قد فاز الرضيُّ المراقب
وكم نعمة مقرونة ببلية على الناس تخفى والبلايا مواهب

ولنصبر على ما كتبه الله علينا، فإن الصبر على أقدار الله من علامة الفلاح في الدنيا والآخرة،: "وَلَنَبْلُوَنَّكمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ".

أيها الإخوة النبلاء: إنني أرجو ألا يظن ظان، أنني أزهد في التجارة وطلب المال وتحصيله، حاشا أن يكون ذلك مقصدي، فإن المتتبع لشريعة الإسلام في كتاب الله وسنة نبيه يرى حثا على تحصيل المال الصالح الحلال، وأنه قوام الحياة، ويرى ندبا على حسن تدبيره وتثميره،يقول نبينا _صلى الله عليه وسلم_: "ما أكل أحد طعاماً خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود _عليه السلام_ كان يأكل من عمل يده".

وقال: "ألا من ولي يتيما له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة" و قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "أن كان خرج يسعى على وُلده صغارا فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان".بل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عمل في التجارة مع خديجة، وشارك بعض الصحابة في المتاجرة، يقول السائب بن أبي السائب _رضي الله عنه_ قال: "كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ شريكي، وكان خير شريك، لا يداري ولا يماري).

إذا نحن لا نحذر من طلب المال، ولا نزهد في استثماره وتنميته، وإنما نحذر من إلقائه، في أتون محرقة أسواق المال، دون علم ولا دراية، نحن نحث الناس على الاستثمار الحقيقي، والذي يتمثل في الإنتاج الصناعي، والتطوير التقني والمعرفي وما يتبعه من خدمات،وتأسيس بنية صناعية تقنية معرفية قوية، داخل وطننا الغالي على قلوبنا، تساهم في تطوير البلد، والرقي به إلى مصاف الدول المتطورة، وحمايته من طوارق المستقبل الذي لا يبشر بخير، وتساهم في تشغيل وتثمير الأموال الفائضة عن حاجة الناس، والتي تكدست عبر قنطرة المتاجرة في الأسهم، في يدي ثلة قليلة من الناس، فتكرست الطبقية المقيتة، وطلت علينا الرأس مالية بوجهها الكالح.

ومن أراد إلا أن يستثمر أمواله في أسواق المال،وأن يتعامل بأصفار رقمية تصنعها الدوائر الكهربائية في شاشات التداول، فعليه أن يتقى الله في ماله، فيجنبه الحرام والمختلط من الأسهم والمعاملات، وما أكثر الحرام والمختلط فيها، وعليه أن يتسلح بالعلم والمعرفة،وأن يتترس باليقظة وبعد النظر، وأن يتمنطق بالصبر وسعة الصدر والقناعة، والكلام في هذا الباب يطول.

وختاما أقول لكل من يخاف عوادي الأيام، ومفاجئة الأقدار بالفقر، أن ذلك مكتوب على جبينك كما يقولون، ولن يغني حذر من قدر، فأجمل في الطلب، وإن كنت تظن أن الفقر في الدنيا عيبا ومنقصة ومذلة فنبيك كان فقيرا وعزيزا, تقول عائشة رضي الله عنها – "ما شبع من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض".
ويقول ابن عباس _رضي الله عنهما_: "كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يبيت الليالي المتتابعة طاويا، وأهله لا يجدون عشاء، وكان خبزهم خبز الشعير".

وسئل سهل بن سعد _رضي الله عنه_: "أكل رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ النقي؟ يعنى الحواري، فقال سهل: ما رأى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ النقي حتى لقي الله، فقيل له: هل كانت لكم مناخل؟ قال: ما كانت لنا مناخل، قيل: كيف تصنعون بالشعير؟ قال: كنا ننفخه فيطير منه ما طار، ثم نثريه فنعجنه" واعلم أن الفقر الحقيقي هو فقر الآخرة يوم "يودُ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ".