تأملات في مشهد من سورة يوسف (2)
22 رمضان 1427

الحمد لله وبعد فلا زلنا مع قول الله _تعالى_: "وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ * قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"، والوقفة اليوم مع ما تشعر به هذه الآيات من أهمية مراعاة المقدمات للأخبار المفاجئة وفي قصة يوسف مع إخوانه أنه قبل أن يخبرهم أنه هو يوسف وهو خبر مفاجئ بالنسبة لهم مهد، وقال: "هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ" [يوسف:89] فكأن هذه تقدمة وتوطئة، وهنا كانت ريح القميص تمهيداً ليعقوب _عليه السلام_ فشم الرائحة قبل وصول الخبر وتلك من إرهاصاته، ولعل من نظر في نكتة المسألة وجد أن الدنيا دار تتقلب فيها الأحوال ويعرض للمرء فيها ما يسوؤه وما يسره، ما يخالفه وما يوافقه، وفي بعض الأحيان تعجز النفوس عن تقبل ذلك الوارد.

وإذا أمعنت النظر في السبب بدا لك أن ما ورد تقبلته نفوس ولم تحصل لها من المفسدة ما حصل لآخرين، بل ربما اختلفت حال المرء نفسه جراء خبرين فأَعْمَلَ فيه أحدهما أثراً سلبياً عظيماً، ولم يعمل الآخر في نفسه كبير أثر. ولذلك أسباب كثيرة لعل من أهمها تهيئة النفس لتلقى الخبر من عدمها، فهب أن رجلاً غافلاً آمناً أمسك به أحدهم على حين غرة فلوى يده خلف ظهره حتى كسرها، أو جاءه صبي على حين غفلة فروعه بصوت أو بصفع أو غير ذلك، فهل كان لهذا الصبي أو للأول الوصول إلى ما أراد إن كان المُباغَت مهيئاً لهما؟ لا أظن ذلك ربما ارتاع في الأول من الصبي وبالمقابل ربما ضحك في الثاني منه.
وكذلك إذا وضع أحدهم عوداً على دعامتين، وجعل أسفل ما سوى الطرفين خلاءً فلم يجعل على منتصفه دعامة، ربما سهل كسره بمثقل يرمى عليه، بخلاف ما لو جعل له دعائم على امتداد العود.

وهكذا وقع الأخبار على النفوس، بل القرارات والأحكام التي تأتي على غير مرادها، وتخالف مألوفها أو أصلاً كانت عليه. ولهذا كان من الأهمية بمكان تهيئة من حمل إليه خبر من هذا القبيل، فإن كان لابد أن تلقي خبراً ثقيلاً على أحد فاختر الحال المناسبة حتى لاتكسر ظهره، أو هيئه ليستقبل الخبر.
وهذا المنهج منهج قرآني ولعل من أمثل ما يوضح ذلك خبر نبي الله يعقوب هذا، فقد أجرى الله معجزة خارقة للعادة ولعل من أسباب ذلك مراعاة ما ذكر.

فالمقدمات قبل الأخبار السارة أو المحزنة مهمة جداً والأخبار إذا جاءت فجأة قد تكون لها تأثيرات على النفس لا تحمد عقباها، وهذا يصب في إطار ما سبق التنويه به من شأن العناية بالقضايا النفسية، فإذا رأيت مبتلى أصابته مصيبة لم تكن له في حسبان، فالكَيْس الكَيْس، انظر كيف تخبره وتدرج عليه وقع الأمر شيئاً فشيئاً، وربما راعى بعض الناس هذا في الأخبار المحزنة وغفل عن مراعاته في الأخبار المسعدة، وكم وقعت بسبب خبر سار مفاجئ لم يتوقعه المرء انعكاسات سلبية، وقد أثبت المؤرخون ورواة الأقاصيص خبر من فجئ بالخبر السعيد فمات، ومن فقد عقله بالكلية، ومن فقد صوابه في موقفه، وربما كانت تلك الأخبار التي يذكرها المؤرخون لها أسباب معقولة مقدرة، ويغني عنها ويشهد للمعنى الذي نريد منها ما يتناقل من أخبار بعض الرياضيين فمن ميت كمداً بسبب هدف دخل مرمى فريقه- الذي ربما فاز بعد! ومغمى عليه سعادة بسبب هدف أصابه فريقه، الذي ربما انهزم(1) بعد!

وهذا وإن دل على سفه العقول إلاّ أنه يبين أثر المفاجأة المسعدة أو المحزنة على بعض الناس، ولاسيما إذا ضعف القلب ورق، إما لأمور عادية من نحو مرض وكبر سن وغيرهما، أو لأمور أخرى كتراكب هموم، وضعف نفس. والشاهد أن في تلك التهيئة لتلقي النبأ درس تربوي جدير بالتأمل.

______________
(1) ولا أدري هل إطلاق الفوز والانهزام يصح هنا! ولكنه على حد ما زعموا.