رمضان فرصة للاستثمار
15 رمضان 1427

هلَّ هلال رمضان! واستقبل المسلمون شهراً جديداً في حياتهم، وتاريخاً مضيئاً في سماء أرواحهم، فهاهي المساجد تزدحم بالمصلين، وهاهو القرآن كتاب الله _تعالى_ بين أيديهم يتلونه آناء الليل وأطراف النهار. وصدق ابن رجب رحمه الله تعالى حين قال: السعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرّب بها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات. اهـ ومن تأمّل النصوص الواردة في فضل هذا الشهر أدرك الغنائم التي بشّر بها رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ في ثناياه. فلم أرى شهراً في تاريخ الإسلام يحفل بمثل هذه الفضائل العظيمة، لقد كان قدوم رمضان مثيراً للفرحة لدرجة أن بشّر به النبي _صلى الله عليه وسلم_ في قوله: قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغل فيه الشياطين، فيه ليلة من حرم خيرها فقد حُرم. فتأمّل هذه البشارة من رسولك _صلى الله عليه وسلم_! كيف بشّر به محتفلاً بلقياه، ومن تأمّل هذه البشائر أدرك بعض أسرارها. ولعلي هنا في هذا المقام أن أذكّر ببعض فرص الاستثمار التي تلوح للعباد في هذا الشهر العظيم:

من الفرص: تحقيق التقوى التي أشار الله تعالى إليها في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) وأهل العلم _رحمهم الله_ على أن التقوى: هي أن تجعل بينك وبين عذاب الله تعالى وقاية بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى. هذان هما قطبا رحى التقوى التي أشار القرآن إلى تحقيقها في الصيام، فتأمّل نفسك أيها الصائم الحبيب، واكتب عقداً مع الله تعالى في تحقيق هذه التقوى، وجرّب في هذا الشهر بعض طموحاتك الكبيرة في تحقيق مثل هذه المقاصد العظيمة، إن الحرص على حضور صلاة الجماعة مع الإمام، وصلاة النوافل المقيّدة، والمطلقة، واستغلال هذا الشهر في ذكر الله _تعالى_ بعض معاني التقوى المشار إليها في القرآن الكريم. ويمكن من خلال عزيمتك أن تكتب لنا في نهاية شهرك بعضاً مما قاله السلف _رحمهم الله تعالى_ في تحقيق مراد الله _تعالى_ في خلقه.
لقد قال ابن المسيّب وهو يلفظ أنفاس الموت ما أذّن المؤذّن من سبعين سنة إلا وأنا في مسجد رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، وقال الآخر: ما فاتتني تكبيرة الإحرام من أربعين سنة إلا مرة واحدة انشغلت بدفن أمي ماتت ففاتتني تكبيرة الإحرام، وقال الثالث: ما رأيت قفا مأموم من أربعين عاماً، أي لم يصل في الصف الثاني طيلة هذا الزمن كله. ألا ترى أن الفرصة مواتية لخوض غمار هذه التجربة في هذا الشهر الكريم على الأقل. أحسب أن ذلك مواتياً جداً أفلا نجرّب؟ أما القطب الآخر وهو ترك ما حرّم الله _تعالى_ عليك فأنت أكبر من أن تقع في شراكه، فكن حريصاً على رعاية جوارحك من الخوض في ما حرم الله _تعالى_، واعلم أن هذه الجوارح لو انفكت عن مراقبتك فيمكن أن تسلب بعض هذه الأفراح من قلبك! ورب كلمة ندت من فمك أو نظرة تجاوزت حدود الله تعالى كتبت عليك شقاء الدارين. ومثلك يعلم أن المعصية سبب لشتات الحال، وموجبة من موجبات خذلان الله _تعالى_ للعبد في نفسه وأسرته وحاله ومآله.

من فرص الاستثمار في رمضان كذلك: العناية بالقرآن الكريم حفظاً وتلاوة وتفسيراً، لقد نزل هذا القرآن في شهر رمضان، وكان جبريل يدارس به نبينا _صلى الله عليه وسلم_ في عام مرة، ودارسه في العام الذي توفي فيه مرتان، قال تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيها القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) ويمكن لك أخي الصائم أن تكتب لنفسك تاريخاً مع هذا القرآن العظيم خلال هذا الشهر الكريم. إن ختم القرآن مرة واحدة هو تحدي تخوض غماره، وهو انتصار لك حقيقة خاصة إذا كانت هذه أول تجربة لك، فكيف إذا تحقق لك ختمتان أو ثلاث أو أكثر من ذلك وحين يكون ذلك يصدق عليك بحق أنك أحد المستثمرين بصدق في مثل هذا الشهر. وغداً بإذن الله تعالى حين تقف بين يدي الله تعالى يحاج القرآن عنك، ويوصلك إلى أعالي الجنان

من فرص الاستثمار في رمضان كذلك: بذل المعروف، ومد يد العون للمحتاجين، ورعاية الضعفاء والمعوزين، لقد كان نبيك _صلى الله عليه وسلم_ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقى جبريل فيدارسه القرآن، فللرسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أجود بالخير من الريح المرسلة كما يقول ابن عباس _رضي الله عنهما_. والمستثمرون يتحينون مثل هذا الفرص، ويرقبون قدوم مثل هذه الفضائل ليعمرونها بالبذل والسخاء، إنك تتعرّض بهذا الإنفاق لدعوة الملَك: اللهم أعط منفقاً خلفاً، وتتعرّض كذلك لاستجابة أمر الله _تعالى_: يا ابن آدم أنفق أُنفق عليك. وتهيئ نفسك لولوج بوابة أحب الأعمال إلى الله تعالى كما قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: أحب ألأعمال إلى الله _تعالى_ سرور تدخله على مؤمن، تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً. فتعرّض لنفحات الله _تعالى_ في هذا الشهر فرب شيء يسير بطيب نفس ولج بك إلى عالم الجنان. يمكن لك أن تفطّر صائماً، أو تهدي إلى قريب، أو تعين جاراً، أو تطعم مسكين، كل ذلك من الفرص التي ينبغي ألا تفوت أمثالك من الحريصين.

من فرص الاستثمار كذلك: قيام رمضان، وقد قال _صلى الله عليه وسلم_: من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه، وهذه الفرصة في متناول كل حريص، فمن حرص على صلاة التراويح مع الإمام كتب الله تعالى له هذا الفضل، قال _صلى الله عليه وسلم_: من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة. ومجموع هذه الليالي هو تحقيق للفضل الذي أشار إليه النبي _صلى الله عليه وسلم_ في هذا الحديث.

من فرص الاستثمار كذلك: صلة الأرحام، قال _صلى الله عليه وسلم_: من سره أن يبسط له في رزقه أو ينسأ له في أثره فليصل رحمه. إن رمضان فرصة حقيقة لتحقيق معالم التواصل المفقود في حياة الواحد منا. ألا ترى أخي الصائم أننا في أمس الحاجة إلى التعرّض لنفحات الله تعالى في هذا الشهر الكريم في مثل قوله قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: من وصل رحمه وصله الله. إن الخطوات التي تخطوها إلى أهلك وأرحامك وأصدقائك في هذا الشهر هي خطوات حقيق أن يُحتفى بها لأنها تؤدي رسالة، وتعمّق معاني الرحمة، وتكتب حياة الفرح والرشاد في حياة أصحابها فلا حرمك الله تعالى التوفيق.

من فرص الاستمثار كذلك: توسيع دائرة الأخلاق في التعامل مع الآخرين خلال هذا الشهر الكريم، فإن دائرة الأخلاق من أوسع الدوائر التي يلج منها الصائم إلى رضوان الله تعالى، كما قال النبي _صلى الله عليه وسلم_ ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق. إن صاحب الأخلاق الفاضلة يزيده رمضان عطفاً على الآخرين، واحتراماً لهم، وتقديراً لظروفهم، بل تجعله يهتبل الفرص لإسعاد الآخرين لا كما يفعله العامة من الناس حين تضيق أخلاقهم من آثار الصوم. إن مشاريع الأخلاق التي يمكن أن تدر على الإنسان في رمضان أكثر من أن تحصر، فالكلمة الجميلة، والابتسامة الصادقة، ومساعدة الآخرين في تحقيق معاني حياتهم الكريمة أوجه من أوجه توسيع رقعة الأخلاق في الأزمنة الفاضلة.

من فرص الاستثمار كذلك: العمرة في رمضان، وقد قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما. وقال عليه الصلاة والسلام: عمرة في رمضان تقضي حجة أو حجة معي. ويمكن أن نوسّع دائرة هذا الفضل بتحجيج الأسرة، أو المساهمة في معونة بعض من يحتاج العمرة.

من الفرص كذلك: تبنّي بعض الأعمال الدعوية والاجتماعي في القرى والأحياء، كتعليم كتاب الله تعالى في حلق للصغار أو للكبار أو للجاليات، وإعداد مسابقات تربوية واجتماعية للأسر أو للشباب، وكإقامة رحلات العمرة، ونحو ذلك من الأعمال الدعوية والاجتماعية، فإن هذا من النفع المتعدي، وأهل العلم _رحمهم الله تعالى_ قاطبة على أن نفع العمل المتعدي أولى وأفضل من نفع العمل القاصر.

من فرص الاستثمار كذلك: إحياء شعيرة الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، فإنها من آثار سنن نبي الهدى _صلى الله عليه وسلم_، فقد كان _صلى الله عليه وسلم_ يعتكف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى. وفيه من الاشتغال بالنفس، ولم شعثها، وجمع فرقتها، والإقبال بها على الله تعالى مالا يخطر على بال.

من فرص الاستثمار كذلك: العناية بالأسرة تعليماً وتربية من خلال أيام هذا الشهر الكريم، فإنها فرصة لكثير من المهتمين لرعاية أسرهم، والعناية بشؤونهم، وطريق لإرساء علاقة تربوية بمثل هذه اللقاءات تستمر على مدار الأعوام.

وأخيراً: رمضان فرصة حقيقية للاستثمار، واللبيب يدرك بصدق أن الفرص تلوح، وقد لا تعود، وكم من متمنٍ فاته بالأماني حظه من الغنائم ما فات، وليت شعري من يدرك أن رمضان فرصة أشد من يتمنى لقاءه مكلوم على سرير المرض، أو مسافر في أرض الغربة، أو مكبّل بقيد السجون!! والله المسؤول أن يعينني وإياكم على استثماره الاستثمار الأمثل إنه ولي ذلك والقادر عليه.