المتحدث الرسمي

المتابع لوسائل الإعلام والمتصفح لبعض الصحف أو المجلات، يستوقفه بعض المتحدثين أو الكُتاب، ليس لمهنيتهم العالية أو قدراتهم أو مهاراتهم، بل لغرابة الفكرة التي يتبنونها ويطرحونها وينافحون عنا بكل ما أُتوا من قوة، نعم ليس ضرورياً أن تكون إسلامياً حتى تُعدَ وطنياً، ولكن لا يمكنك أن تكون وطنياً وأنت تتحدث نيابة عن العدو أو المحتل والغاصب.
لا ضير في أن يُعبر الواحد منا عن وجهة نظره في حدث سياسي ما، تتفاوت العقول في فهمه وتقدير أبعاده، وتصور القرائن والمتغيرات وفهم أبعاد التصريحات والتلميحات، لكن الضير أن يتبنى من يتبنى رأي العدو تماماً، بل والعجيب أن يتبنى ما هو أكبر من رأي العدو ومطالبه وآماله.
مثل هذا التبني يحتار الواحد منا، في أي خانة يضعه؟ ولمصلحة من يتم ذلك الأمر؟ وما المبرر له؟ وهل هناك عذر لقائله أو كاتبه؟ ومما يستوقف المرء أيضاً توقيت مثل هذه التصريحات والكتابات، فبمجرد وقوع بعض الأحداث وقبل خروج تصريحات العدو أو المحتل أو تبريراته تجد من يُبادر للحديث ويُسارع للتصريح أو التبرير ــ بحسب الحدث ــ وكأنه قد عُين نائباً ومحامياً للدفاع عن العدو أو المحتل، ويبدو الأمر وكأنه متفق عليه من قِبَلِ الطرفين.
تسميم الأجواء وخلق حالة من التوتر والفتنة والانقسام وشق الصف وتهيئة الأجواء لقرارات سياسية أو لتقبل بعض الأمور التي يرغب العدو فرضها وتحقيق أجندته وبرامجه بطرق ماكرة، هي السمة البارزة لهذه التصريحات.
مثل هؤلاء يحق لهم وبجدارة أن يكونوا متحدثين رسميين للعدو وناطقاً عنه وسفراء لهم، وأن يوصف لسانهم بأنه لسان العدو، وحالهم ليس بعيداً عن حال إخوانهم من المنافقين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ومن أمثلة ذلك: ما تم بعد أن فتح الله للمسلمين في غزوة بدر الكبرى وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيرين إلى أهل المدينة؛ ليعجل لهم البشرى، وهما عبد الله بن رواحة بشيرًا إلى أهل العالية، وزيد بن حارثة بشيرًا إلى أهل السافلة‏.‏ وكان اليهود والمنافقون قد أرجفوا في المدينة بإشاعة الدعايات الكاذبة، حتى إنهم أشاعوا خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم، ولما رأي أحد المنافقين زيد بن حارثة راكبًا القَصْوَاء ـ ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ لقد قتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب، وجاء فَلاّ، فهنا حتى النصر المبين في بدر الكبرى أراد أهل النفاق أن يكون هزيمة، بل وموتاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لقد قالوا يومها ما لم تقله قريش نفسها.
ومن ذلك أيضاً حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة إلى بني النضير يقول لهم ‏:‏ ‏‏(‏اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشراً، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه‏)‏‏.‏ ولم يجد يهود مناصاً من الخروج، فأقاموا أياماً يتجهزون للرحيل، بيد أن رئيس المنافقين ـ عبد الله بن أبي ـ بعث إليهم أن اثبتوا وتَمَنَّعُوا، ولا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم، فيموتون دونكم ‏{‏لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏11‏]‏ وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان‏.‏ وحينئذ عادت لليهود ثقتهم، واستقر رأيهم على المناوأة، وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قاله رأس المنافقين، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏:‏ إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك‏. نعم ... هكذا تكون نتائج وعودهم حتى لو كان رصيدها على أرض الواقع سراباً.
لكن على هؤلاء المتحدثين أن يدركوا أن كلماتهم محسوبة عليهم عند رب العالمين، ثم أن الشعوب المسلمة تدرك أبعاد الأمور وإن انطلت الأحاديث المعسولة على البعض فسرعان ما ينكشف الغطاء، وتظهر الحقائق، ولن يظهر أهل الباطل على أهل الحق ففي سنن أبي داود عَنْ أَبِى مَالِكٍ - يَعْنِى الأشعري قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ اللَّهَ أَجَارَكُمْ مِنْ ثَلاَثِ خِلاَلٍ أَنْ لاَ يَدْعُوَ عَلَيْكُمْ نَبِيُّكُمْ فَتَهْلِكُوا جَمِيعًا وَأَنْ لاَ يَظْهَرَ أَهْلُ الْبَاطِلِ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ وَأَنْ لاَ تَجْتَمِعُوا عَلَى ضَلاَلَةٍ ».
ولن ينال هؤلاء المتحدثين مكانة أو منصباً أو منزلة وإن حصل لهم شيء من ذلك فهو محدود وإلى زوال، فعاقبتهم وخيمة فما أسرع أن تتبدل الأحوال، ويجب على كل من يتسنى له الدفاع وإظهار الحقائق أن يبادر إلى ذلك حتى يفوت الفرصة على أعداء الإسلام، وخاصة عندما تتكالب الأصوات والأقلام على المستضعفين وعلى المقاومة الشريفة ففي سنن أبي داود عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِىِّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ « مَنْ حَمَى مُؤْمِنًا مِنْ مُنَافِقٍ بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يَحْمِى لَحْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ وَمَنْ رَمَى مُسْلِمًا بشيء يُرِيدُ شَيْنَهُ بِهِ حَبَسَهُ اللَّهُ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ »، وعنده أيضا عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ « الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ ».
والدفاع عن المقاومة لدى وسائل الإعلام نوع من أنواع الجهاد، وقد قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : « جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ »، وفي البخاري عَنِ الْبَرَاءِ - رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم لِحَسَّانَ: « اهْجُهُمْ - أَوْ هَاجِهِمْ - وَجِبْرِيلُ مَعَكَ ».
وستبقى أصوات أولئك المتحدثين تحمل إشارات تكشف أهداف العدو والمحتل المستقبلية، وتزيد المقاومة إصراراً على المضي في الطريق، وتكشف لنا الهوية الحقيقة لهم