مدلول السياسة الشرعية / 1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله، أما بعد ..
فقد اقترح عدد من الأفاضل في موقع المسلم وغيره ، وضع مقالات في السياسة الشرعية : مدلولاً ومضموناً ، مع شواهد شرعية وتطبيقات عصرية ، للإفادة منها علماً وعملاً بعون الله وتوفيقه ؛ وذلك لما لفقه السياسة الشرعية من أهميَّة علميّة في صحة الاستنباط ، وضمان وسطيَّة المنهج ، والقدرة على استشراف مستقبل العمل الإسلامي ، حكومياً كان أو أهلياً ، وما يترتب على الإفادة من كل ذلك في مصلحة الإسلام والأمة الإسلامية ..
وتحقيقُ هذا الاقتراح ، أمرٌ كان يتردّد في نفسي ، لما لا يَخفى من نقصٍ في إظهار هذا العلم ونشره ، مع أهميته وخطورةِ آثار استبعاده في الحياة الإسلامية العلميّة ثم العملية ، وكنت أطمح أن يكفيني خطورة الحديث فيه – على نحو ميسر - بعض أساتذة السياسة الشرعية الكبار ، ولكن يبدو أن لكل جيلٍ وسيلته ، كما أنَّ على كلٍ واجبه ..
وقد استأذنت بعض مشايخي في هذا الفن في تنفيذ هذا المقترح ( وضع مقالات تعريفية بالسياسة الشرعية ونشرها تباعاً _إن شاء الله تعالى_ فوجدت تأكيداً على أهمية الفكرة ، و ترحيباً بتنفيذها ، مما شجّعني وجرّأني على عدم التَّأخر فيه .
ومن هنا رأيت أن أبدأ هذه المقالات مستعينا بالله تعالى ، وأن يكون الحديث في ذلك – إن شاء الله تعالى – على نحو موجزٍ ، يفيد طالب العلم المتطلِّع نحو أُفق علميٍّ عمليٍّ وسطيّ المنهج ، يستنهضُ الهمّة ، ويدفع نحو مواصلة المهمَّة ، يستنير بالدليل ، ويدع شاذّ الأقاويل ، ويقوي الإيمان بالحقائق ، ولا ينسى تهذيب الرَّوح بالرقائق ، يستعين بالله ، ويقصد رضاه ..
وإنِّي لأرجو أن لا يدّخر مُطّلعٌ على هذه المقالات ، يجد فيها ما يستوجب تصحيحاً أو ملاحظة أو نصحاً – جهداً في إيصال ذلك إليَّ ، عبر موقع المسلم ضمن نافذة التعليقات على هذه المقالات ، أو بواسطة البريد الرقمي الخاص ، أو غيره من وسائل الاتصال ، وليحتسب في ذلك أجر النصح و التصحيح إن وجد ما يتطلبه .
ولمَّا كان كتاب الله _تعالى_ أصل علوم الدين وعماد علوم الشريعة الأول ، فلنبدأ الأضواء بآية من آياته ، نستلهم منها إرشاداً إلى الاهتمام بهذا العلم والعناية به .. قال الله _تعالى_ لنبيه محمد _صلى الله عليه وآله وسلم_ : "قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ "(يوسف108) .. ومن يتأمَّل هذه الآية يجدها قد شملت – فيما شملت - جوانب السياسة الإسلامية التي تندرج في أصل العلائق الإسلامية - التي مدارها على الدعوة بشمولها ، قولاً وعملاً - في كلمة ( بصيرة ) !
فالسياسة الشرعية جزء من البصيرة التي نجدها حيَّة في سنّة النبي _صلى الله عليه وسلم_ وسيرته المباركة في الدّعوة وتصرفاته في الولاية بجميع مجالاتها الرئيسة ..
فما هي السياسة الشرعية ، وكيف كانت جزءاً من البصيرة النبوية ، التي يسير عليها أتباعه النبي _صلى الله عليه وآله وسلم_ ؟
هذا ما سيكون جوابه في المقالات التالية _إن شاء الله تعالى_ .
أولاً : مدلول السياسة الشرعية
مدخل : قبل بضع سنوات .. في يوم عرفة وعلى أرض عرفات ، سألني أحد الإخوة الأمريكيين ممن دخلوا في الإسلام ، ولم يكن من قبل من المسلمين قائلاً : سمعت عن السياسة الشرعية ! فهل في الإسلام سياسة ؟
قلت له : أنت مسلم حاج ، فلا ينبغي أن يخفى عليك أنَّ الإسلام عقيدة وشريعة ، أي : عقيدة وقانون ! أليس هذا هو واقع الإسلام كما عرفته ؟!
ثم أخذت أكشف شبهته بأمثلة يعلمها ، لكنه لا يدرك انتماءها العلمي لمفردات هذا الفن ، كما ذكرت له عدداً من مؤلفات بعض أعلام أمتنا القدماء - منذ القرن الأول الهجري - في السياسة الشرعية .
أولاً : المعنى اللغوي للسياسة :
تستعمل السياسة في اللغة بمعنى : الفساد ، أو الجبلة ، أو التدبير .
والسياسة بمعنى : التدبير ؛ هي الاستعمال المقصود هنا .
ومن شواهده قول النبي_صلى الله عليه وسلم_: (( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلّما هلك نبيّ ، خَلَفَه نبيّ ، وإنَّه لا نبيَّ بعدي )) رواه البخاري ح (3455) ، ومسلم ح (1842) ، قال النووي أي : " يتولون أمورهم كما تفعل الأمراء والولاة بالرعية " .
وقول عمر بن الخطاب_رضي الله عنه_: ( قد علمت ورب الكعبة متى تهلك العرب ؟ إذا ساس أمرهم مَنْ لم يصحب الرسول ، ولم يعالج أمر الجاهلية ) رواه ابن سعد في : الطبقات ، ورجاله ثقات .
ومنه قول عمرو بن العاص يصف معاوية - رضي الله عنهما - : ( إني وجدته … الحسن السياسة الحسن التدبير ) ذكره الطبري في تاريخه .
وقول هند الصغرى بنت النعمان بن المنذر المعروفة بحُرَقة :
فبينا نسوس الناس والأمر أمْرُنَـا إذا نحـن فيهم سوقـة نتنصف
والعرب تقول : سُوِّس فلان أمْر بني فلان ، أي : كلِّف سياستهم ، وملك أمرهم .
ومن هنا يتبين أنَّه لا عبرة بما قيل من أنها كلمة غير عربية الأصل (خلاصة هذا القول : أنَّ كلمة ( سياسة ) معرب ( سه يسا ) ، فـ ( سه ) بالفارسية تعني : ثلاثة و ( يسا ) بالمغولية تعني : التراتيب ، فكأنه قال : التراتيب الثلاثة ) ؛ ولهذا وصف شهاب الدِّين الخفاجي (975-1069) - القول بأنَّها مُعَرَّبة بقوله : " وهذا غلط فاحش ؛ فإنَّها لفظة عربيَّة مُتَصَرِّفة … وعليه جميع أهل اللغة " .
والحديث في المعنى اللغوي لكلمة ( السياسة ) لا يخلو من فوائد وطرائف ولطائف ؛ لكنني حاولت الاكتفاء بما يكفي في بيان المراد .. وربما أضفت ما قد يُحتاج إليه منها عند وجود مناسبة له _إن شاء الله تعالى_ .
ثانياً : المعنى الاصطلاحي للسياسة الشرعية :
مصطلح السياسة الشرعية من المصطلحات التي لم تستعمل للدَّلالة على أمر واحد ، بل مرّ بمدلولات عدَّة ؛ نتيجة تَطّوُّر مفهومه عند الفقهاء ، تبعاً لمعاناة نقله من التطبيق إلى التنظير التي استغرقت زمناً لا بأس به ، كما هو الشأن في العلوم التي تملي البحثَ فيها الحاجاتُ المُتجدِّدَة ، وتراخي المسائل المستجدَّة من حيث الزمن ، في القرون الماضية ، ونتيجة إطلاقه على أنواع من العلوم عند من كتبوا في غير الأحكام الفقهية ؛ فلفظ " السياسة " قد استعمل للدلالة على أكثر من معنى .
وهذا ما سيتم الحديث عنه في الحلقة التالية _إن شاء الله تعالى_ .