إنه من يتق ويصبر*
12 رجب 1427

إن العفيف –وإن بلغ الغاية في تمام العفة- قد يرمى بالسوء ظلماً، ولكن كما قال الله _تعالى_ خبراً عن نبيه يوسف: "إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين"، فلتثق بالله كل عفيفة حصان رزان ولغ في عرضها والغ ولتعلم أن العاقبة لها، قذف جريجٌ عابدُ بني إسرائيل فأنطق الله الغلام شاهداً على براءته، وقذفت المعاذة المصطفاة المبرأة مريم _عليها السلام_ فقام عيسى _عليه السلام_ خطيباً رضيعاً مقرراً طهرها، وقذفت الصديقة بنت الصديق _رضي الله عنهما_، فتكلم الله _تعالى_ وأنزل من السماء براءتها.
ولما رمي يوسف _عليه السلام_ بالسوء ظلماً أنطق الله بالحق شاهداً من أهل قاذفته ببراءته وإدانتها، "... وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ" [يوسف:26]، بل لو ما قد القميص لكانت قرائن الأحوال تشهد لبراءته، فرجل عند الباب يلهث، وامرأة مهيئة، وقميص حسن المظهر لا يبدو عليه أثر شيء فعلى ماذا يدل هذا؟



لقد زعـمت يـمنٌ بأني أردتُـها
على نفسـها، تباً لذلك مـن فعلٍ

سلوا عن قميصي مثل شاهد يوسفٍ

فإن قميصي لم يكن قُـد من قبلٍ


وقد عبر هنا بلفظ الشهادة مع أن الشاهد لم ير ما دار بينهما، وفي هذا دليل على أن الأثر يستدل به على المؤثر، ويشهد به إذا قويت دلائله، ولهذا شهد الله أنه لا إله إلاّ هو والملائكة وألوا العلم قائماً بالقسط أنه لا إله إلاّ هو، وأهل العلم ما رأوه، وإذا رأيت بقعة من الضوء في رقعة مظلمة، كان لك أن تشهد بأن في الجانب الآخر شيء يبعثها، والشهادة في اللغة من (شهد) أصل يدل على حضور وعلم وإعلام. ثم إن المشهود عليه في الآية قد جاء مفسراً فشاهدته: إن كان قيمصه قد من قبل فصدقت، وإن كان العكس فكذبت، ولم يقل: شهد أنه رآها ترواده، غير أن التعبير بلفظ الشهادة لايبعد أن يفهم منه الإشارة إلى وجود هذا الشاهد في بعض محال القصر فكأنه كان حاضراً وإن لم يكن في مكان يهيئ له أن يرى شيئاً ولهذا استخدم الدليل العقلي، وربما سمع الجلبة فاستشرف الأمر فصادف العزيز والمرأة ويوسف فاقتضى ذلك استشهاد العزيز له. وقد اختلف المفسرون في الشاهد، هل كان رضيعاً شهد الموقف فأنطقه الله -تعالى- أم كان راشداً استشاره العزيز فأشار عليه؟ والقول الأول لا دليل عليه، بل قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة)(1) ولم يذكره منهم.كما أن الشاهد ساق دليلاً عقلياً تبين به مَن المخطئ، ومثل هذا الكلام لا يصدر إلا من راشد صاحب رأي. وعوداً على المراد فإن هذه الآيات تبين أن العفيف قد يرمى بالسوء جوراً، فإن كان ذلك فالله حسبه، وعليه أجره، ومن كان الله معه فأي كيد –مهما عظم- يضره؟
وإذا كان القوم قد بهتوا ذئباً، حيوان عرف جنسه بالغدر وضرب به المثل فيه، فلما كان البهتان برأه الله، فكذب الناس دم القميص وأبدوا أنه لا ذنب للذيب في تلك الأكاذيب، أفلا يليق بعد ذلك بعبد الله الصالح المفترى عليه بالزور جوراً أن يثق بتدبير الله الخير له؟ بلى والله، وإن عظم الكيد، وإن تتابع المكر: "... وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ". [لأنفال:30].
















____________________________________

* مستل من كتاب الشيخ: (آيات للسائلين) بتصرف يسير.
(1) البخاري: 3/1268(3253)، وغيره.