العلاقة الإيمانية بين المربي وتلاميذه (1/2)

[email protected]
إن العلاقة الإيمانية بين المربي ومتربيه هي الطريق الذي من خلاله تمر العمليات التربوية والتعليمية بينهما، إذ لا سبيل لإحداث العملية التعليمية والتربوية بدون طريق بين المرسل والمستقبل، وهذا الطريق هو العلاقة الإيمانية بينهما، فإن نجحت صلحت العملية التعليمية والتربوية، وإن فشلت أو شابها ما يفسدها فشلت العملية التربوية والتعليمية بينهما.
وتقوم العلاقة الإيمانية النموذجية الناجحة بين الداعية والمدعو أو بين المربي وتلاميذه ومتربيه على ثلاثة أسس أصلية هي: " الحب في الله، والنصيحة في الله، والعطاء لله "

الحب في الله

هو ركن ركين في العلاقات الإيمانية بين الناس جميعا، ويتأكد دوره وأثره في العلاقة بين الأستاذ والتلميذ،وبين المربي والمتعلم، وبين الداعية والمدعو، وهو شعبه من شعب الإيمان، وطريق أكيد للشعور بحلاوة الأخوة الإيمانية ولذة الإيمان.
فعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود للكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار " متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ". رواه مسلم.
أ ـ أساس الارتباط.. الحب:
يصعب أن تجد أحدا من الناس يقبل على آخر ليتعلم منه ويقتدي به من غير أن يحبه وأن يتفتح له قلبه وتطمئن عنده نفسيته، لذا فإني أقول للدعاة إلى الله جميعا: دعوتكم أيها الدعاة إلى الله هي دعوة حب كما إنها دعوة علم، فبلا حب تفشل دعوتكم وتفشلوا مع الناس.
ومن كرهه الناس وابغضوه فلا سبيل له أن يدعوهم أو يعلمهم أو يوجههم. وأنت أيها الداعية المعلم قد يسر الله عليك سبيل الحب في الله لينشأ بينك وبين الناس بشيء واحد فقط ليس غيره، ألا وهو اقتفاء سنة نبيك صلى الله عليه وسلم والاقتداء بأفعاله، فهو سبيل بناء الحب بينك وبين الناس، أن تتخلق بأخلاقه صلى الله عليه وسلم في البشاشة والتبسم في اللقاء، والإقبال على الناس، والتواضع للكبير والصغير، واختيار أحسن الكلام، والسعي في حاجة الناس، والصبر على الأذى، واليسر في التعليم، واختيار طرق الفهم المناسبة للناس، إلى غير ذلك كثير كثير مما اتصف به صلى الله عليه وسلم كخير المعلمين وسيد المرسلين، فابحث إذن عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم واقتد بها فثم الطريق.
وإذا تمت علاقة الحب في الله بين الداعية وبين الناس أطاعوه، وتعلموا منه، وأقبلوا عليه، ودافعوا عنه وأعانوه، وصاروا يدعون معه إلى فكرته وعلمه.
والله سبحانه قد علمنا أن الطريق إلى ذلك صفاء القلب والإخلاص لله في العمل والإقتداء بسنته صلى الله عليه وسلم في كل شئ، فإذا تم له ذلك تمت له محبة الله سبحانه، قال سبحانه: [ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ] آل عمران: 31، وإذا أحب الله سبحانه وتعالى العبد فقد وضع له القبول في الأرض ولا شك.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله تعالى يحب فلانا فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض ". [ رواه البخاري ومسلم ].
وقد بوب الإمام مسلم رحمه الله له بابا قال فيه: باب إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده، وروي بسنده عن سهيل بن أبي صالح أنه قال: كنا بعرفة فمر عمر بن عبد العزيز وهو على الموسم، فقام الناس ينظرون إليه، فقلت لأبي: يا أبت، إني أرى الله يحب عمر بن عبد العزيز. قال: وما ذاك؟ قلت: لما له من الحب في قلوب الناس، فقال: بأبيك أنت سمعت أبي هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر الحديث السابق.
وقال النووي رحمه الله في شرح مسلم: ومعنى " يوضع له القبول في الأرض ": أي الحب في قلوب الناس ورضاهم عنه، فتميل القلوب إليه وترضى عنه، وقد جاء في رواية: " فتوضع له المحبه ". [صحيح مسلم بشرح النووي ].
وقال ابن علان في شرح رياض الصالحين: المراد بالقبول: الحب في قلوب أهل الدين والخير له والرضا به، واستطابه ذكره في حال غيبته، كما أجرى الله عادته بذلك في حق الصالحين من سلف هذه الأمة ومشاهير الأئمة.
ب ـ حب في الله وفقط:

فهذه العلاقة الحميمة التي هي الحب لا تتم أواصرها ولا تترسخ قواعدها إلا إذا كانت في الله وفي الله وفقط، فهي العلاقة التي تدوم، وما كان الله دام واتصل وما كان لغيره انقطع وانفصل، فيجب أن ينزه المربي علاقته بالمدعو عن كل متعلقات الدنيا أيا كانت، وعن كل مصالحها مهما بلغت ليجعلها صافية خالصة ابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى.
بل لقد نصح بعض الدعاة ألا يقيم الداعية علاقة مالية أو مادية أيا كانت مع المدعو، وإن لكلامهم وجاهه فإن علاقات الشراكة والتجارة وغيرها علاقات قد تنتهي بشكل من أشكال الاختلاف، وقد تدعو إلى الغضب والحزن وتتسبب في تجرؤ كل طرف على الآخر؛ فتفسد علاقاتهم خصوصا إذا كانت في مراحلها الأولى.
وهناك موقف قل وجوده من إما أهل السنة الإمام أحمد مع إمام كبير أيضا هو الإمام عبد الرزاق.
ذكر ابن الجوزي في صفة الصفوة عن إسحاق بن راهوية قال: لما خرج أحمد بن حنبل إلى عبد الرزاق انقطعت به النفقة، فأكرى نفسه مع بعض الحمالين إلى أن وافى صنعاء، وقد كان أصحابه عرضوا عليه المواساة فلم يقبل من أحد شيئا، ثم قال: وقال الرمادي: سمعت عبد الرزاق ـ وذكر أحمد بن حنبل فدمعت عيناه ـ فقال: قد وبلغني أن نفقته نفدت، فأخذت عشرة دنانير وأقمته خلف الباب، وما معي ومعه أحد، وقلت: إنه لا تجتمع عندنا الدنانير وقد وجدت الساعة عند النساء عشرة دنانير، فخذها فأرجو ألا تنفقها حتى يتهيأ عندنا شئ، فتبسم وقال لي: " يا أبكر: لو قبلت شيئا من الناس قبلت منك " ولم يقبل.
وروى الذهبي رحمه الله أن عبد الله بن الإمام أحمد قال: كنت أسمع أبي كثيرا يقول في دبر الصلاة: " اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن المسألة لغيرك ".
فهل ينتفع الدعاة وأهل العلم والمربون بمثل هذه الصفات السامية وبمثل هذا التجرد في العلاقات لله وبمثل هذا الزهد في أيدي الناس.
وهو معني صحيح معنى ذلك الأثر: " ازهد فيما أيدي الناس يحبك الناس " [ أخرجه ابن ماجه ]، فإن الناس إذا علموا منك زهدا وإعراضا عما في أيديهم عظمت في أعينهم، وزادت هيبتك، ونبتت في قلوبهم محبتك.
ونقل ابن جرير عن إمام التابعين طاوس بن كيسان قوله: " الشح أن يحب المرء أن له ما في أيدي الناس، ثم ذكر أن سفيان بن عمرو كان يقول:وما رأيت أحدا أشد تنزها مما في أيدي الناس من طاوس، رحمهم الله جميعا.
ج ـ نموذج وبشرى:

عن أبي إدريس الخولاني رحمه الله قال: دخلت مسجد دمشق فإذا فتى براق الثنايا، وإذا الناس معه، فإذا اختلفوا في شئ أسندوه إليه وصدروا عن رأيه، فسألت عنه، فقيل: هذا معاذ ابن جبل رضي الله عنه، فلما كان من الغد هجرت فوجدته قد سبقني بالتهجير، ووجدته يصلى فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه، فسلمت عليه ثم قلت: والله إني أحبك، فقال: آلله؟ فقلت آلله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله، فأخذني بحبوة ردائي فجذبني إليه، فقال: أبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين في ". [ رواه مالك في الموطأ ].
فهذا معاذ رضي الله عنه نموذج للمعلم والمربي الناجح المحبوب، المبتسم المقبل على الناس الذي التف حوله الناس ليتعلموا منه ويصدروا عن رأيه وعن علمه وهم جميعا يحبونه ويقبلون عليه.
وهذا أبو إدريس الخولاني ـ التابعي الجليل ـ نموذج للمتعلم، أحب معلمه لما رآه من حسن فعله ولما سمعه من كثير علمه وجليل فضله.
ثم هذه العلاقة الإيمانية الصافية النقية البعيدة من شوائب المصالح الدنيوية والمتعلقات المادية، يحدوها الحب بين يديها، فتدفع المعلم أن يُهجر ويُبَكر ليلتقي بحبيبه ومعلمه ليخبره بحبه.
ثم ها هو ذا يتأدب مع أستاذه تمام الأدب فينتظره حتى ينهي صلاته،ثم يأتيه من قبل وجهه ـ تأدبا ـ فيسلم عليه ثم يقبل عليه فيقول له ـ يقسم ـ: والله إني لأحبك.
ويرتقي هذا الحب ليبلغ الآفاق فتعجز عنه الأمثلة والحكايات ويصفو شيئا فشيئا حتى يصبح رقيقا كالماء الزلال، محببا كقطرة الماء البارد، ترطب الحلق عند شدة العطش، عزيزا كقطراتها في جدب الصحراء!
قال الذهبي: وقال عبد الله بن أحمد: ربما سمعت أبي في السحر يدعو لأقوام بأسمائهم، ثم قال: وكان من أحيى الناس، وأكرمهم، وأحسنهم عشرة، وأدبا، كثير الإطراق، لا يُسمع منه إلا المذاكرة للحديث، وذكر الصالحين في وقار وسكون ولفظ حسن، وإذا لقيه إنسان بش به، وأقبل عليه، وكان يتواضع للشيوخ تواضعا شديدا ويحبهم، وكانوا يعظمونه ويحبونه، وكان يفعل بيحيى بن معين بما لم أره يعمل بغيره من التواضع والتكريم والتبجيل.
د ـ حب بلا تجاوز:

قال في حلية طالب العلم: " تنبيه مهم: أعيذك بالله من صنيع الأعاجم والطرقية والمبتدعة والخلفية، من الخضوع الخارج عن آداب الشرع من لحس الأيدي وتقبيل الأكتاف والقبض على اليمين باليمين والشمال عند السلام كحال تودد الكبار للأطفال، والانحناء عند السلام واستعمال الألفاظ الرخوة المتخاذلة: سيدي ومولاي ونحوها من ألفاظ الخدم والعبيد ".
والواقع أن التجاوز ليس فقط في طريقه التوقير الزائدة التي ينكرها كل من عنده مسكة عقل، ولكن من التجاوز في المحبة أشكال أخرى كثيرة.
فكثرة اللقاءات الزائدة عن الحد المعقول تَجَاوُز؛ خصوصا إذا صاحبها ضياع وقت أو اطلاع على نواقص أو عيوب، فإن كثرة اللقيا وطول الاصطحاب مذموم غير مرغوب فيه، إلا إذا كان في علم وتعلم، وهذا صعب الحصول طول الوقت.
فنحن لا ننصح المربين بطول فترة اللقاء مع المدعويين والمتعلمين، ولا ننصحهم بكثرة العشرة وكثرة المبيت معا والسفر معا إلا أن يكون في شأن من شئون العلم أو الدعوة أو المشاركة في صالح الأعمال، ولسنا ننصح بذلك إلا لأن التجارب أكدته؛ فإن كثرة الصحبة ـ إن لم تكن فيما سبق من خير ـ تفسد كثيرا وتضر ضررا بالغا، فهي تظهر من عيوب المعلم لطالبه ما خفى عنه، وتجرئه عليه، وتزهد فيه، وتنشئ الحسد من قرنائه له في كثرة مصاحبته وهم ممنوعون من ذلك، وإنما يفعل من المربين من قلت خبرته.
روى ابن الجوزي عن على بن المديني أنه قال: " قال لي أحمد بن حنبل: إني لأحب أن أصحبك إلى مكة، وما يمنعني من ذلك إلا إني أخاف أن أملّك أو تملّني، قال: فلما ودعته قلت: يا أبا عبد الله توصيني بشئ؟ قال: نعم، ألزم التقوى قلبك، وألزم الآخرة أمامك ".
وكذلك فإن من التجاوز في المحبة الاقتصار على أستاذ واحد أو معلم واحد فقط في تعلم العلم والأدب، ولكن ليكن لكل طالب علم معلم بعلمه ويوجهه ويربيه، ولا يمنعه ذلك من الأخذ عن الآخرين والجلوس إليهم، وقد سبق أن بينا أن على المعلم أن يوجهه المتعلم إلى منابع العلم المختلفة و إلى أهل العلم الأتقياء الصلحاء النابهين.
قال جعفر بن محمد: سمعت الإمام البخاري يقول: " كتبت عن ألف شيخ من العلماء وزيادة ".
وقد بين الحافظ بن حجر رحمه الله في هدي الساري في تقديم فتح الباري بشرح صحيح البخاري أن طبقات الشيوخ الذين حدث عنهم البخاري خمسة، ثم قال: " روى ابن شيبه عن وكيع قال: لا يكون الرجل عالما حتى يحدث عمن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه، وعن البخاري أنه قال: لا يكون المحدث كاملا حتى يكتب عمن فوقه وعمن مثله وعمن دونه ".
وقال النووي رحمه الله: " أخذ مالك من تسعمائة شيخ منهم ثلاثمائة من التابعين وستمائة من تابعيهم، ممن اختاره وارتضى دينه وفقهه وقيامه بحق الرواية وشروطها، وخلصت الثقة به، وترك الرواية من أهل دين وصلاح لا يعرفون الرواية ".
قال الذهبي: وأول طلب مالك للعلم في حدود سنة عشرين ومائة، وفيها توفي الحسن البصري، فأخذ عن نافع ولازمه، وعن سعيد المقبري، ونعيم المجمر، ووهب بن كيسان، والزهري وابن المنكدر، وعامر بن عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن دينار، وزيد بن أسلم، وصفوان بن سليم، وإسحاق بن أبي طلحة، ومحمد بن يحيى، ويحيى بن سعيد، وأيوب السختياني، وأبي الزناد، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وخلق سواهم من علماء المدينة.
وأما الشافعي رحمه الله فقد تعلم الفقه أولا علي يد مسلم بن خالد الزنجي وغيره من أئمة مكة، ثم رحل إلى المدينة قاصدا الإمام مالك بن أنس ولازمه، ثم سافر إلى اليمين وأخذ عن علمائها، ثم رحل إلى العراق وأخذ من علمائها، ونشر العلم هناك، وأقام مذهبه وكتب كتابه القديم المسمى " كتاب الحجة "، ثم خرج إلى مصر سنة تسعة وتسعين ومائة، وصنف كتبه الجديدة كلها بمصر.
وكذا كان جميع أهل العلم قاطبة يأخذون العلم عن أكثر من معلم، وإن كانوا يكثرون من أحدهم وينتمون إليه.
وربما قال قائل: إن الحال تغير وليس الزمان هو الزمان، ولا شك أن هناك تغير وتبدل عن زمان العلماء الكبار هؤلاء إلا أن مقصود كلامنا أن لا يمنع المعلم طلبته من الأخذ من أكثر من معلم، وكذا لا يقتصر الطالب على أستاذ واحد فقط.
ولكن لا بأس أن يتأدب ويتوجه ويكثر من أحدهم عن الآخر خصوصا مع قلة أهل العلم وجودا في هذه الأيام، أما إن لم يتيسر له العلم إلا من أستاذ واحد فلا باس أيضا بذلك على إنها أقل الأحوال.
وكذلك فإن التعصب لمذهب الشيخ أو المعلم أو رأيه أو فكرته بغير حكمة ونظر من أشكال المحبة المذمومة، ذلك أن كل الناس يؤخذ من رأيهم ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، و للاختلاف وليس من آدابه التعصب بحال، وإنك لتعجب حين ترى من الناس من يتكلم كثيرا في ذم التعصب الفقهي المذهبي وذم فاعلة ويؤصلون ذلك تأصيلا، ثم إنك تراهم حين يتعصبون لرأي مخالف ويدافعون عنه، لا لشئ إلا لأنه من معلمهم أو شيخهم أو أستاذهم، وإن ذلك والله لهو الجور وهو الكيل بمكيالين.
فعلى طالب العلم أن يتعلم العدل وحسن التأدب في الاختلاف وآدابه وأحكامه، ويدرسون لهم قاعدة " عدم الإنكار في المسائل الاجتهادية "، وهي القاعدة التي تلقاها العلماء بالقبول والتطبيق.
روى الذهبي أن يحيى بن معين قال: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، صحبناه خمسين سنة، ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الخير.
وروي ابن كثير أن الأمام الشافعي رحمه الله قال: للإمام أحمد رحمه الله: يا أبا عبد الله إذا صح عندكم الحديث فأعلمني به أذهب إليه حجازيا كان أم شاميا أو عراقيا أو يمنيا. قال ابن كثير: يعني لا يقول بقول فقهاء الحجاز الذين لا يقبلون إلا رواية الحجازيين، وينزلون أحاديث من سواهم منزلة أحاديث أهل الكتاب، وقول الشافعي له هذه المقالة تعظيم لأحمد وإجلال له، وأنه عنده بهذه المثابة إذا صحح أو ضعف يرجع إليه.
وأكثر جورا من التعصب للمعلم في مسائل الاختلاف هو جور في التعصب للمعلم في مسائل الدعوة وطرقها وأساليبها، فإن الاختلاف والتعصب بهذه المسائل عندئذ يكون تحزبا وفرقه، ويكون مخالفة للأمر الصريح للأمة بالاعتصام في قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) [ آل عمران: 103 ].
ولست هنا أتهم أحدا ممن تعاون مع إخوانه على البر والتقوى لنشر العلم والهدى مخلصا خالصا مستنا بسنته صلى الله عليه وسلم، بريئا من التعصب والتحزب والغبية والنميمة والصراع والشجار وسوء الظن وتصيد الأخطاء والسقطات والهفوات والزلات، بعيدا عن الاتهام والسخرية والتحقير متأدبا بأدب الخلاف، محبا لجميع العاملين لدين الله، معينا لهم، متعاونا معهم، يعذرهم إذا أخطاؤا ويسترهم إذا هفوا، ويغفر لهم إذا زلوا، ويدعو لهم بالتوفيق والهداية والصواب فهؤلاء على الجادة الصائبة.