التربية الإسلامية بين اهتمام المنهج وتفريط المربين

إنك لا تسأل أحداً من الناس عن رغبته في مستقبل أبنائه وأخلاقهم وتعلمهم لأمور دينهم وأدبهم وعلوهم في المناصب والدرجات العلمية في مجتمعهم إلا وسمعت منه أنه يرغب في أن يكون أولاده أفضل الناس وأحسنهم أخلاقا وتديناً وأعلاهم في الدراسة والدرجات العلمية وأن يكونوا في أعلى المناصب والرتب والدرجات في أعمالهم وبالرغم من ذلك فإنك ترى من أحوال الناس تناقضاً غريباًَ وعجيباً فإنهم يريدون أبناءهم على هذه الحالة من السمو والارتفاع ومع ذلك لا يبذلون مجهوداً ولا يتخذون الخطوات اللازمة لتوصيل أبنائهم لهذه الحالة من الترقي والتقدم والسمو.
إن العجب كل العجب من ذلك الأب وتلك الأم الذين أهملوا في تربية أولادهم ولم يبذلوا من السعي نحو تربيتهم إلا الأماني!! حتى إنك تراهم وقد تركوا أبناءهم مع صحبة لا يعلمون عنها شيئا ثم إذا بهم يتأسفون ويتألمون مما يرون من سوء أخلاق أبنائهم وتصرفاتهم المشينة في شتى المواقف الحياتية وعدم التزامهم بالآداب العامة أو حتى الآداب الشرعية وللأسف فإن هذا موجود ليس فقط عند عامة الناس فحسب بل وعند كثير ممن يفترض فيهم أنهم على معرفة بآداب الإسلام وتعاليمه فهؤلاء كمن ترك أرضه طوال العام بلا رعاية أو اهتمام ثم إذا به يوم الحصاد يستغرب أنه لا حصاد له!! لقد حصد من جد وتعب و ربى أولاده وتعب معهم وباشر أحوالهم وحسن أخلاقهم ورباهم على ما ربى عليه رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أصحابه ليفوزوا في الدنيا والآخرة كما فاز أصحاب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_.

لقد كان السلف الصالح يهتمون بالتربية مع أنهم كانوا يعيشون في أجواء إيمانية خالصة، وينعمون بالتحاكم إلى الله ورسوله _صلى الله عليه وسلم_ في كل أحوالهم صغيرا كان أو كبيرا، ودين الله كان في أعلى مكانه بين الأمم، فكيف الحال بالمسلمين اليوم في أمر اهتمامهم بالتربية وقد تحكم فيهم عدوهم وبسط نفوذه عليهم، وابتلي المسلمون في كل مكان وأقبلت عليهم الفتن من كل باب، ورمتهم قوى الشر والكفر في كل الدنيا عن قوس واحدة، وانتشرت في بلاد المسلمين الأفكار الهدامة والإباحية
فما أحوج المسلمين اليوم في هذا الواقع المرير الأليم أن يهتموا بأمر التربية وأن يتلمسوا خطى الحبيب _صلى الله عليه وسلم_ في تربية أصحابه؛ عسى الله أن يفك هم هذه الأمة ويفرج كربها ويصلح حالها.
لقد كان السابقون يهتمون بأمر التربية ويعهدون بأبنائهم إلى مربين يقومون خصيصاً على تربيتهم وتأديبهم وتعليمهم سنه نبيهم _صلى الله عليه وسلم_ ودينهم وشرعهم.
يقول أحدهم لما دفع ولده إلى المؤدب: (قد دفعت إليك مهجة نفسي وثمرة قلبي، فصير يدك عليه مبسوطة، وطاعتك عليه واجبة، أقرئه القرآن، وعرفه الأخبار، وروه الأشعار، وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام وبدئه, وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، ولا تمرن به ساعة وإلا وأنت مغتنم فائدة تقيده إياها، من غير أن تحزنه فتميت ذهنه ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهها فعليك بالشدة والغلظة).
وقال آخر ينصح مؤدب ولده: (علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، واحملهم على الأخلاق الجميلة، وروهم الشعر يشجعوا وينجدوا، وجالس بهم أشراف الرجال وجنبهم السفلة والخدم فإنهم أسوأ الناس أدبا، ووقرهم في العلانية وأنبهم في السر، وأضربهم على الكذب إن الكذب يدعو إلى الفجور وإن الفجور يدعو إلى النار).
وهذا هو ما نحتاج إليه الآن وهو ما غاب عن أذهان كثير من الناس حتى الذين يهتمون منهم بتربية أبنائهم على أصول المعاملة مع الآخرين لأنهم يرون ذلك من التقدم والرقى ولا يرون أن له علاقة بالدين.

ينبغي أن يعلم الجميع أنه لن يصلح أخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ما أحوج هذه الأمة اليوم إلى تلمس خطي الرسول _صلى الله عليه وسلم_ في تربية أصحابه وصقل مواهبهم، ولا سبيل إلى ذلك إلا بإتباع هدي النبي _صلى الله عليه وسلم_ يقول _تعالى_: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنه لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر" سورة الأحزاب (21)، ويقول عز من قائل: " واتبعوه لعلكم تهتدون" سورة الأعراف (158)
فلنلتمس سوياً هديه _عليه الصلاة والسلام_ في تربية أصحابه؛ لنتعلم منه كيف تكون التربية الصحيحة وطرقها.

(1) اغتنامه _صلى الله عليه وسلم_ الفرصة في تربية أصحابه.
وتلك وسيلة مهمة جداً من وسائل المربي وهي تحتاج إلى فطنه عالية وتستلزم انتباهاً كبيراً من المربي حتى لا يفوت فرصة إلا واستغلها.
ولقد كان _صلى الله عليه وسلم_ لا يرى شيئا يستحق التعليق أو التنبيه إلا وعلق عليه وأشار إليه, وكان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يستغل الفرص والمواقف لينصح أصحابه وكان لذلك الأثر الكبير في نفوسهم فإن النصيحة أو التوجيه من خلال موقف أمر لا ينسي وينطبع في الذاكرة.
كما أن ترك النصيحة في وقتها ربما جعل من تقوم بتربيته يظن أن ما فعله صحيحاً!
وهاهو _صلى الله عليه وسلم_ يتجول في السوق يوماً فمر على صبره طعام (يعنى كومه من الطعام) فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟" قال: أصابته السماء يا رسول الله (يقصد أصابه المطر) قال: "أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس، من غشنا فليس منا" رواه مسلم..
وفي هذا الحديث انتهز _صلى الله عليه وسلم_ هذه الفرصة في تعليم هذا الصحابي وتعليم جميع المسلمين من التجار حرمة الغش في البيع وإخفاء عيب السلعة، وكيف أن من غش المسلمين فليس منهم
وهاهو _صلى الله عليه وسلم_ يخرج على أصحابه عند الصلاة وكأنه رآهم غير معتدلين في الصف، فماذا فعل؟ هل فوت تلك الفرصة في تعليم أصحابه؟ على الرغم من أن الصلاة قد أقيمت؛ فعن جابر بن سمره _رضي الله عنهما_ قال: خرج علينا رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فقال: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم" فقلنا: يا رسول الله وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: "يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف" رواه مسلم.
فهذه نصيحة عمليه منه _صلى الله عليه وسلم_ لأصحابه من خلال موقف وعند أداء فريضة فلعلهم لا ينسون تلك النصيحة أبداً كلما وقفوا للصلاة تذكروها.
فعلى كل ولي أمران ألا يفوت فرصة في النصح لأولاده أو من يقوم بتربيتهم متحججاً بأنهم مازالوا صغاراً بل ينتهز كل فرصة وموقف ليوجههم ويرشدهم فتنطبع نصائحه في أذهانهم ولا ينسوها.

(2) ومن هديه _صلى الله عليه وسلم_ في التربية أنه كان يسبق أصحابه في فعل ما أمرهم به.
وهو أمر له فعل السحر في القلوب فإنك إن فعلت ما تأمر به الناس وكنت أول الفاعلين تشجع الجميع لفعل الأمر وعلموا أن المسألة ليست بالصعبة هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى علموا بتواضع معلمهم ورئيسهم وأنه لا يتكبر عن فعل شيء يأمرهم به، فإنك ترى وتسمع عن تعليق يصدر كثيراً جداً من العاملين تجاه رئيسهم أنه يصدر أوامر وفقط وأنه لا يشعر بهم ولا يفهم أن هذا أمر صعب عليهم ولا يتحمل، وأنه لو كان معهم في هذا الأمر وتلك الصعوبة التي يفرضها عليهم لما قال هذا الكلام ولما ألزمهم بفعل هذا العمل، إنه في البرج العالي يأمر وينهى ولا يشعر بشعور الآخرين، أما رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فكان يبادر ويسبق أصحابه في فعل ما يأمرهم به.
لقد كان _صلى الله عليه وسلم_ في الحرب مثلا في أوائل الصفوف وكان الصحابة _رضوان الله عليهم_ يحتمون به إذا حمى القتال في المعركة، هو أمرهم بالقتال ورغبهم فيه وفي بذل نفوسهم رخيصة لله _سبحانه وتعالى_ ثم هو في الصفوف الأولى يقاتل معهم لا كما يفعل القواد الآخرين يجلسون على بعد بلاد وبلاد من موقع المعركة ولا يعرضون أنفسهم ولا حتى لغبار المعركة.
وفي حفر الخندق حول المدينة شارك _صلى الله عليه وسلم_ أصحابه في حفر الخندق بنفسه وهو يربط على بطنه حجراً من الجوع وهو يقول:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة  فارحم الأنصار والمهاجرة
والصحابة يردون عليه ويقولون:
نحن الذين بايعوا محمداً  على الجهاد ما بقينا أبداً
بالله عليكم لو ذهب مسئول اليوم في زيارة موقع للعمل لساعة من الزمان وسلم على بعض العمال واكتفى بأن يربت على أكتافهم ويقول لهم أحسنتهم اجتهدوا، لو فعل ذلك لعدوه شيئاً كبيراً وتواضعاً منه واهتماماً بالعالمين وتشجيعاً لهم، فكيف برسول البشرية وهو لا يكتفي بأن يكون معهم طوال الوقت وكفى بل يعمل معهم بيده ويحطم الحجارة بنفسه، فأي تأثير يفعله ذلك في نفوسهم وهو يعمل معهم _صلى الله عليه وسلم_ بيده، لاشك أنهم سيفعلون الأعاجيب ويعملون بأقصى طاقة لهم، بل ويعملون وهم سعداء مسرورون.
ينبغي ألا ينسى أي مربٍ قوله _تعالى_:"أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون "(سورة البقرة آية 44).
وقديماً قال القائل: (عمل واحد يؤثر في ألف وأقوال ألف قد لا تؤثر في واحد).

(3) ومن هديه _صلى الله عليه وسلم_ في تربيه أصحابه أنه كان يتفقد أحوالهم وعبادتهم.
وذلك له أثر على النفوس حسن فإن السؤال عن الأحوال يشعر من أمامك أنك مهتم به وبشئونه وأن سلامته وصلاح أحواله تهمك.
ولقد كان _صلى الله عليه وسلم_ يعرف أصحابه كلهم ويتفقد أحوالهم ويسأل عن غائبهم ويتعهدهم جميعا؛ فعن أبى هريرة _رضي الله عنه_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "من أصبح منكم اليوم صائماً؟" قال أبو بكر: أنا، (لقد كان سؤال النبي _صلى الله عليه وسلم_ لأصحابه بعد أن انتهى من صلاة الفجر واستدار لأصحابه) قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ " قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟" قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ " قال أبو بكر: أنا، قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة" رواه مسلم والبخاري .
وفي هذا الحديث نراه _صلى الله عليه وسلم_ قد نشط أصحابه على العمل الصالح بطريقة عملية ومبتكرة ودون أن يلوم أحداً منهم على تقصيره أو يسأله ماذا فعل بالضبط، لكنه كان يسأل سؤالاً عاماً من فعل كذا وكذا فلما اجتمعن في أبى بكر كانت المفاجأة في النهاية أن جائزته هي الجنة، وفي ذلك حافز رهيب للجميع على العمل لنيل نفس الجائزة وهو ما يحتاج إلى جهد وعمل ومواظبة على الخير، كما أن كل واحد من الحاضرين سوف يوبخ نفسه بنفسه ويلومها على تقصيرها فيكون في ذلك دافعا لهم جميعا على الخير.
وهذه قصه يرويها لنا الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنه تدلل لنا كيف كان _صلى الله عليه وسلم_ يسأل ويعرف ويهتم بأخبار أصحابه جميعاً.
فقد روى البخاري ومسلم وابن سعد في طبقاته وابن هشام في سيرته عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ إلى غزوة ذات الرقاع على جمل لي ضعيف فلما قفل رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ (يعنى رجع من الغزو) جعلت الرفاق تمضى وجعلت أتخلف حتى أدركني رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ (كان _صلى الله عليه وسلم_ يذهب في طول الجيش وعرضة يتفقد أصحابة) فقال مالك يا جابر؟، قلت يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا، قال أنخه، فأنخته وأناخ رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، ثم قال أعطني هذه العصا من يدك، ففعلت فأخذها فنخسة بها نخسات ثم قال اركب، فركبت فخرج والذي بعثه بالحق يواهق ناقته مواهقه (يعنى يسابقها وقد تغيرت حالته من البطء إلى السرعة والنشاط) وتحدثت مع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فقال لي: أتبيعني جملك هذا يا جابر؟، قلت: يا رسول الله بل أهبه لك، قال: لا ولكن بعنية، قلت: فثمنيه يا رسول الله (يطلب منه تقدير ثمنه) قال: آخذه بدرهم، قلت: لا إذن تغبنني يا رسول الله، قال: فبدرهمين، قلت: لا، فلم يزل يرفع لي رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ في ثمنه حتى بلغ الأوقية فقلت: أفقد رضيت يا رسول الله، قال: نعم. قلت: فهو لك، قال قد أخذته، ثم قال: يا جابر هل تزوجت بعد؟، قلت: نعم يا رسول الله، قال أثيباً أم بكراً؟، قلت: لا بل ثيباً، قال: أفلا جارية تلاعبها، قلت: يا رسول الله إن أبى أصيب يوم أحد وترك لي بناتاً سبعاً فنكحت امرأة جامعة تجمع رؤوسهن وتقوم عليهن، قال: أصبت _إن شاء الله_ أما إنا لو قد جئنا صراراً (وصرار مكان بأطراف المدينة) أمرنا بجزور فنحرت وأقمنا عليها يومنا ذاك وسمعت بنا فنفضت نمارقها (يعنى أنها إذا سمعت بمقدمهم أصلحت وسائدها ومنزلها واستعدت) فقلت: والله يا رسول الله مالنا من نمارق قال: إنها ستكون فإذا أنت قدمت فاعمل عملاً كيساً.
قال جابر: فلما جئنا صراراً أمر رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ بجزور فنحر وأقمنا عليها ذلك اليوم فلما أمسى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ دخل ودخلنا المدينة.
قال جابر: فلما أصبحت أخذت برأس الجمل فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ ثم جلست في المسجد قريبا منه فخرج رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فرأي الجمل فقال ما هذا قالوا يا رسول الله هذا جمل جاء به جابر قال فأين جابر فدعيت له فقال يا ابن أخي خذ برأس جملك فهو لك ودعا بلالاً فقال له أذهب بجابر فأعطه أوقية فذهبت معه فأعطاني أوقية وزادنى شيئاً يسيراً فو الله مازال ينمو عندي ويرى مكانه من بيتنا.

ومن هذه القصة ينبغي أن يتعلم كل مرب كيف يهتم بأصحابه وبأحوالهم فالنبي _صلى الله عليه وسلم_ برغم مشاغلة الكثيرة إلا أنه يعرف من أحوال جابر الكثير وكيف ضاحكه وواساه بطريقة لطيفة وحدثه في أمر زواجه وداعبه بمسألة شراء جملة منه ثم هو انتهزها فرصة لمساعدته فأعطاه الجمل والمال في آن واحد.
ينبغي أن يفهم المربى أنه ليس مجرد مصدر للمعلومات البحتة التي يلقيها على من يتعلمون منه وفقط لكنه شخص يهتم بكل أحوالهم وشؤونهم الاجتماعية والاقتصادية والنفسية فكل ذلك يمثل وحدة واحدة لا تتجزأ.